نجحت القوات الأوكرانية خلال الأسبوع الماضي في تحرير 3800 كيلو متر مربع من الأراضي في مقاطعة “خاركيف”، واستعادت جزءًا كبيرًا من مدينة “كوبيانسك” الواقعة شمال إيزيوم والتي ظلت لفترة طويلة تحت الإدارة الروسية استمرت حتى لحظة تنفيذ الهجوم الأوكراني الأخير. ومن جانبها، أكدت الدفاع الروسية، 10 سبتمبر، على التقدم الأوكراني الذي نتج عنه اختراق الجبهة الروسية وتحرير عشرات القرى مقابل انسحاب روسي.
وهي خطوة تعد الأولى من نوعها في السلوك الروسي خلال الحرب من حيث الاعتراف بالتراجع العسكري أو سحب القوات، وذلك لأن روسيا سبق وأن انسحبت من حول العاصمة خلال الأيام الأولى من الهجوم، ثم تلا ذلك أن انسحبت من جزيرة الثعبان بتاريخ 30 يونيو، وقد فسرت الدفاع الروسية في بيانها الانسحاب بأنه “عملية لتقليص ونقل قوات إيزيوم-بالاكيليا إلى أراضي دونيتسك”. وذلك بناءً على رغبة روسيا في تكثيف جهودها العسكرية في هذا الاتجاه.
وعلى خلاف إصرار الكرملين بأن ما يجري في أوكرانيا مجرد عملية عسكرية خاصة، إلا أن هذا لا ينفي أنها في الحقيقة حرب، ولأن الأمر كذلك، فإنه ليس ثمة شك في أن الحرب، أي حرب، هي عملية معقدة وغير متوقعة ولابد أن تنطوي على حيل خداعية يتطلب تنفيذها كرًا وفرًا، بشكل يستدعي معه البحث لتفقد ما الذي من الممكن أن يكون وراء آخر الانسحابات الروسية من الجبهة بعد أن تكلفت روسيا الدم والعرق والمال للسيطرة عليها. بحثًا عن إجابة، حول هل هذه هي مجرد خدع روسية؟ أم أنها بالفعل هزائم تشكل الخطوط النهائية للحرب؟!
التسلسل الزمني للأحداث الأخيرة
أعلن الرئيس الأوكراني، “فلوديمير زيلينسكي”، في رسالة مصورة بثت له مساء 9 سبتمبر، “أن القوات المسلحة الأوكرانية حررت وسيطرت على أكثر من 30 قرية في مقاطعة خاركيف”. وبتاريخ 10 سبتمبر، نجحت القوات الأوكرانية في تنفيذ هجوم مضاد في مقاطعة “خاركيف” نجم عنه انهيار المحور الشمالي للدونباس. يرجع ذلك في الأساس إلى أن القوات الروسية عكفت في وقتٍ سابق على إعادة توزيع الوحدات العسكرية المتمركزة في هذه المنطقة وتوجيهها إلى جنوب أوكرانيا.
وبتاريخ 11 سبتمبر، حققت أوكرانيا هزيمة عملياتية كبيرة لروسيا، بعد أن استعادت السيطرة على كامل مقاطعة خاركيف في هجوم مضاد سريع. وفي 12 سبتمبر، أظهرت صور الأقمار الصناعية الغربية لمواقع روسية معروفة في “كيسيليفكا”، الواقعة على بعد نحو 15 كيلو مترًا شمال غرب مدينة خيرسون، أن جميع المركبات الروسية باستثناء أربع مركبات قد غادرت المواقع الأمامية السابق بشكل أكد الشائعات التي تقول إن قوات جمهورية دونيتسك الشعبية الموالية للاتحاد الروسي تخلت عن “كيسيليفكا” وعادت أدراجها باتجاه نهر دنيبر.
وكجزء من عمليات الحرب النفسية، صرحت المتحدثة باسم قيادة العمليات الجنوبية في أوكرانيا، “ناتاليا هومينيوك”، في اليوم نفسه، بأن القوات الروسية الواقعة على طول الضفة اليمنى لنهر دنيبر في مدينة خيرسون تحاول التفاوض من أجل الاستسلام تحت رعاية القانون الدولي.
ورغم أن المعلومة الأخيرة غير مؤكدة وليس من الممكن نفيها في الوقت نفسه، إلا أنه ليس ثمة مجال للإنكار أن الحرب النفسية في أي حرب قد يكون من الأجدر وصفها بأنها تلعب دورًا يفوق الحرب البرية بمراحل من حيث الأهمية. ففي 13 سبتمبر، بدا أن هذه الخطوات بدأت تؤتي بثمارها؛ فقد وقّع نواب البلديات من 18 منطقة في موسكو وسان بطرسبرج على بيان عام يطالبون فيه باستقالة فلاديمير بوتين، قالوا فيه: “نحن، نواب بلدية روسيا، نعتقد أن تصرفات الرئيس فلاديمير بوتين تضر بمستقبل روسيا ومواطنيها”. وكان الشخص الذي أعلن البيان هو “كسينيا تورستريم”، نائبة بلدية مقاطعة “سيمينوفسكي”، في مدينة سانت بطرسبرج.
وفي إشارة لا يمكن تفسيرها بشيء آخر سوى أنها تأكيد على العجز البشري في صفوف القوات الروسية، بتاريخ 14 سبتمبر، ظهر الأوليجارشي الروسي، “يفيجيني بريجوزين”، المقرب من بوتين وممول مجموعة “فاجنر” المسلحة، في مقطع فيديو متداول على الإنترنت وهو يقوم شخصيًا بتجنيد سجناء، ويوضح أن السجناء كان لهم دور فعال في العملية العسكرية الخاصة، وأنهم بالفعل يشاركون بها منذ تاريخ 1 يوليو حيث كان لهم دور فعال في الاستيلاء على محطة “فوهليهيرسكا” الحرارية للطاقة.
وفي خطوة مماثلة، دعا الرئيس الشيشاني، رمضان قديروف، عبر قناته على تطبيق “تليجرام”، قادة المناطق الروسية إلى ضرورة إعلان التعبئة الذاتية، مؤكدًا أن كل فرد من رعايا الاتحاد الروسي، في رأيه، ملزم بتجهيز كتائب متطوعة لا تقل عن ألف شخص، لإرسالهم لاحقًا إلى أوكرانيا. في خطوة ردت عليها القوات الروسية بأن قصفت البنية التحتية للطاقة في المنطقة الواقعة بوسط أوكرانيا، 11 سبتمبر، مما أدى إلى انقطاع إمدادات الكهرباء عن عدة بلدات. ومن جهته، حمّل زيلينسكي روسيا مسؤولية انقطاع الكهرباء في شرق أوكرانيا، متهمًا موسكو بأنها تعمدت استهداف بنى تحتية مدنية.
نظرة تحليلية
نجح الأوكرانيون بالفعل في تنفيذ هجمة مرتدة مُتقنة، لكن من الجدير بالذكر في الوقت نفسه أن هذه الهجمة ليست أوكرانية خالصة؛ فهي هجمة بدعم وتخطيط غربي بقيادة أمريكية متقنة، وهي كذلك ربما تعكس ثمار التدريبات التي عقدتها دول غربية لجنود وضباط أوكرانيين. لكن هذا أيضًا لا ينفي أن أوكرانيا تُعاني من نقص في الأعداد تمامًا بنفس القدر الذي تعاني منه روسيا وإن لم يكن أكثر؛ ومثال على ذلك الأنباء التي تواترت في الصحافة الأوكرانية منذ منتصف يوليو من العام الجاري بخصوص عشرات المتهربين من الخدمة العسكرية خلال الحرب، فقد أوردت صحف أوكرانية أن السجلات الموحدة لقرارات المحاكم حاليًا تحتوي على عشرات الأحكام الصادرة ضد مواطنين أوكرانيين تهربوا من التعبئة.
وعلى الجانب الآخر، ليس هناك خلاف على أن هذا التراجع الروسي يعكس كذلك مشكلات في الأفراد المؤهلين عسكريًا تستلزم معها ضرورة الحشد من أجل سد كل الفجوات في أسرع وقت ممكن. هذا علاوة على أن الجانبين المتحاربين بوجه عام، الروسي من جهة والأوكراني وداعميه من جهة أخرى، أنهكوا وخسروا الكثير في هذه الحرب بالفعل.
لذلك، فإنه ليس من الممكن القطع بأن المكسب الأوكراني الحالي هو دائم ونهائي، وليس أيضًا من الممكن التأكيد بأن الروس سيظلون محتفظين بأماكنهم المعتادة؛ نظرًا إلى أسباب عدة يأتي على رأسها القدرات العسكرية الروسية التي لا تضاهي مثيلتها الأوكرانية حتى في هذه الساعة المتقدمة من الحرب. وعلاوة على ذلك، ليس من الممكن التغاضي عن القدرات الروسية الهائلة في الحشد، مما يعني، أن الحرب كر وفر، وأن النتيجة النهائية تُعلن لصالح المنتصر النهائي بشكل حاسم على الأرض.
.
رابط المصدر:
