فلسطين والتحولات الأيديولوجية فى العالم العربى

منذ ظهرت الحركة الصهيونية وإسرائيل فى منطقتنا وهى تمثل سببا رئيسيا للتحولات الأيديولوجية فيها. تراجع نزعات الإصلاح والاعتدال لصالح صعود أشكال وموجات متتالية من الراديكالية والتشدد هو أحد أهم آثار الصراع العربى الإسرائيلى على منطقتنا. أيديولوجيات، ما هى النتيجة الأيديولوجية لجولة الصراع الدامية الراهنة؟ هل تتسبب فى إطلاق موجة راديكالية جديدة فى أنحاء المنطقة، أم أن منطقتنا اكتسبت حصانة تجاه الراديكاليات؟ فى أربعينيات القرن العشرين، وقبل إعلان دولة إسرائيل، كانت نظم الحكم الدستورى، ملكية وجمهورية، هى السائدة فى المنطقة. كان فى مصر، كما كان فى الأردن والعراق وسوريا ولبنان تعددية حزبية وانتخابات ودساتير يتم احترامها أحيانا، وانتهاكها أحيانا أخرى. كان هناك صراع على السلطة بين جماعات النخبة وأجنحة الطبقة المتحكمة، فيما كان التيار الإصلاحى ذو النزوع الليبرالى يمثل التيار السائد فى المجتمعات. لم يكن الحال نموذجيا أو ورديا، فقد كان التفاوت الاجتماعى والفقر والمرض والجهل والحفاء هو نصيب الطبقات الفقيرة التى مثلت أغلبية السكان فى بلاد المنطقة. كانت الزراعة هى النشاط الاقتصادى الرئيسى، وكان كبار ملاك الأراضى هم الطبقة المتحكمة، بينما نمت إلى جانبها رأسمالية صناعية ومصرفية وخدمية حديثة كافحت لتطوير اقتصاد سوق كفء وفعال. كان هناك شعور بالتهميش الاجتماعى واحتكار السلطة، وكانت الطبقات الوسطى الصاعدة تتملل، لكن النظام القديم كان لديه قدر كاف من الشرعية يرشحه ليبقى يمثل إطارا مناسبا تجرى داخل حدوده وضمن قواعده عمليات الإصلاح والصراع السياسى والاجتماعي.

وجهت هزيمة العرب فى حرب 1948 ضربة قاصمة لشرعية السلطة ونظم الحكم فى الدول العربية. قدمت الهزيمة بؤرة ونقطة ارتكاز تجمعت عندها أسباب الغضب المشتتة. الثأر للهزيمة، والتخلص من نظم فاسدة أخفقت فى منع سقوط فلسطين، ومواجهة الصهيونية والانتصار لفلسطين، حجج وردت بأشكال مختلفة لتبرير الانقلاب على النظم شبه الدستورية القائمة بدءا بانقلاب حسنى الزعيم عام 1949 فى سوريا. منح الانتصار السياسى الكبير الذى حققته مصر الناصرية فى حرب السويس 1956 للصعود الراديكالى زخما كبيرا. لم تتحرر فلسطين، لكن تم إجبار إسرائيل والدول الاستعمارية على الانسحاب خائبين. انسحبت إسرائيل من سيناء، فكانت هذه أول مرة تنسحب فيها إسرائيل من أرض عربية. أداء مصر الناصرية فى حرب 1956 كان أفضل بمرات كثيرة من أداء النظام الملكى فى حرب 1948. تعززت جاذبية النظم الثورية فيما تعرضت النظم المحافظة والإصلاحية فى المنطقة لضغوط هائلة، فتعمقت موجة الانقلابات الثورية طوال العقد التالى.

أجهزت الانقلابات وتعطيل الحكم الدستورى والاستبداد بالسلطة على التيارات الإصلاحية التى سادت فى المرحلة السابقة. جرى شطب المسار الإصلاحى الليبرالى، وانفتحت أمام بلاد المنطقة مسارات راديكالية زاد تشددها يوما بعد آخر. بعد العسكريين المتحمسين جاء ضباط أيديولوجيون بعثيون وناصريون وشيوعيون، حاملين طبعات مختلفة من خطاب الثورة من أجل هزيمة الصهيونية وتحرير فلسطين، مضافا إليها الوحدة العربية والاشتراكية. وصل تسيد التيارات الراديكالية العروبية واليسارية للذروة فى الستينيات، فيما كانت نذر حرب عربية إسرائيلية جديدة تتجمع. فى مايو 1967 تصاعدت أزمة جديدة بين العرب وإسرائيل. أدار الرئيس ناصر الأزمة بمنهج حافة الهاوية التصعيدى. لم يكن لدى الرئيس ناصر نية الحرب ولم يكن مستعدا لها، وبنى خطته على أن الدبلوماسية ستتدخل فى اللحظات الأخيرة لنزع فتيل الأزمة وتجنب الحرب. لم تأت الدبلوماسية، لكن أتت الحرب، فكانت الهزيمة الثقيلة فى يونيو، والتى لم يتخلص العالم العربى من آثارها بعد أكثر من خمسين عاما. واصل بعض الثوريين الموجودين فى السلطة الحديث عن تحرير فلسطين، وإن لم يفعل الشىء الكثير تأكيد جدية هذا الخطاب، فيما اكتفى البعض الآخر بالحديث عن إزالة آثار العدوان. أفقدت الهزيمة الثوريين العروبيين والاشتراكيين جاذبيتهم الأيديولوجية، وقوضت شرعية الأنظمة التى أسسوها، وانفتح الباب أمام تحول أيديدلوجى راديكالى جديد فى المنطقة. فى هذه الظروف تمت إعادة بعث تيار الإسلام السياسى الإخوانى، مضافا إليه طبعات وتنويعات إضافية متشددة ومسلحة وإرهابية. بغض النظر عما قدمه هؤلاء لفلسطين، فقد كانت فلسطين حاضرة دوما فى خطاب الإخوان الدعائى والتحريضى، وفى تبرير انقلابهم على الحكومات، وسعيهم للوصول إلى السلطة والاستيلاء عليها. الحرب الدائرة اليوم فى فلسطين ولبنان، بمشاركة يمنية وعراقية وإيرانية، هى حرب تيار الإسلام السياسى ضد إسرائيل، كما كانت يونيو 1967 هى حرب التيار العروبى الاشتراكى ضدها. المحصلة النهائية للحرب الراهنة مازالت غير واضحة. احتلت إسرائيل الأرض، لكن أحدا لم يخرج ليعلن الاستسلام والهزيمة ويقبل مسئوليته عنها. لم تستطع الدول المنهزمة فى 1967 إخفاء الهزيمة التى أوقعت نفسها فيها، لكن الميليشيات لديها من المرونة وهامش المناورة ما يتيح لها تقديم الواقع بصورة مختلفة. هل ستعزز الحرب الراهنة من فرص تيار الإسلام السياسى السنى والشيعى وتمنحه شرعية وقوة دفع إضافية؟ هل ستتسبب هذه الحرب فى إضعاف الإسلام السياسى ونزع الشرعية عنه؟ لقد كان لكل مواجهة عربية إسرائيلية كبرى ناتج أيديولوجى فى العالم العربى، فما هو الناتج الأيديولوجى للحرب الراهنة، أم أن الصراع العربى الٍإسرائيلى فقد مركزيته، ولم يعد له نفس الأثر فى صعود وهبوط التيارات الأيديولوجية فى العالم العربى، والتى أصبحت محكومة بعوامل أخرى تتعلق أساسا بما يجرى داخل الأوطان العربية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M