اعداد : بسنت جمال مجاهد – باحثة اقتصادية – المركز الديمقراطي العربي
تتمتع فنزويلا بالعديد من الموارد الطبيعية؛ إذ يبلغ احتياطيها من النفط الخام نحو 302,809 مليون برميل، وهو ما يمثل أكبر احتياطي نفطي في العالم، كما تمثل إيراداتها النفطية 98% من العائدات الإجمالية لصادراتها، هذا إلى جانب امتلاكها قدر هائل من الموارد الطبيعية الأخرى؛ كالغاز الطبيعي والحديد والذهب والماس وغيرها من المعادن الثمينة. إلا أنها تمر بأسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها.
* ملامح الأزمة الاقتصادية الفنزويلية:
يعتقد البعض أن بداية الأزمة الفنزويلية كانت مع انخفاض اسعار النفط العالمي عام 2014، ويعتقد البعض الآخر أن جذورها بدأت منذ فرض العقوبات الأمريكية عليها عام 2013، ولكن تمتد الأزمة الفنزويلية- التي وصفها صندوق النقد الدولي بإنها أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة- منذ حكم الرئيس السابق “هوغو شافيز” عام 1954، الذي تبنى في بداية حكمه سياسات اجتماعية غير مقرونة بأخرى اقتصادية تقوم على الاستثمار وخلق قنوات متنوعة للدخل، حيث تمثلت تلك السياسات الاجتماعية في إعادة توزيع الثروات على الطبقات الفقيرة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتحديد أسعار السلع الأساس للفقراء، وتأميم العديد من الصناعات، كما اعتمد “شافيز” في مصادر النقد الأجنبي على النفط بشكل أساسي، وتعتبر تلك السياسة الأخيرة من الأهم المآخذ على “شافيز” حيث أنه من المعروف أن أسعار النفط متذبذبة ولا يُمكن الاعتماد عليها بصورة كبيرة، وما زاد الطين بله أنه كان يلجأ إلى الاقتراض أو طباعة المزيد من النقود عند انخفاض اسعار النفط، كما لم تفكر حكومة الرئيس “شافيز” بإدخار أو استثمار عوائد النفط حينذاك بل كانت تنفق كافة العوائد على الاستيراد، وأخيرًا، قامت بعض المصانع بإغلاق أبوابها بسبب تحديد الأسعار من ناحية، ورفع معدلات الأجور من ناحية أخرى، حتى أصبحت تكاليف الانتاج تثقل كاهلها ولهذا خرجت من الأسواق، مما أدى بدوره إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد، ونستخلص مما سبق أن “شافيز” بني شعبيته على استخدام عوائد النفط والديون الخارجية، دون البحث عن بدائل، من أجل دعم استهلاك الشعب الفنزويلي فقط.
بدأت الآثار السلبية لسياسات “شافيز” تظهر مع تولي الرئيس “نيكولاس مادارو” مقاليد الحكم عام 2013، حيث ترك له “شافيز” إرثًا ثقيلًا متمثلًا في مبلغ ضخم من الديون ونسبة مرتفعة من التضخم نتجت عن سياسات اقتصادية خاطئة، كما تفاقم الوضع بعد الإنخفاض الكبير في أسعار النفط عام 2014.
وتسبب استمرار الانفاق الحكومي الممول بطبع النقود والعجز عن توفير الوارادات اللازمة لإشباع حاجة السوق –بسبب انخفاض اسعار النفط مما أثر بدوره على موارد النقد الاجنبي- في تدهور قيمة العملة المحلية، وزيادة معدلات تضخم بمعدل كل 26 يومًا، كما لم تجد الحكومة مفرًا من بيع رصيد الذهب كي تدفع مستحقات الديون أو لشراء احتياجتها الأساسية من السلع.
وينبغي الإشارة إلى أنه على الرغم من تعافي الأسعار في وقت لاحق نسبيًا، إلا إن ذلك لم يسهم في معالجة الأزمة الاقتصادية وذلك بسبب معاناة صناعة النفط الفنزويلية من سوء الإدارة ونقص الاستثمار ومشاكل التدفق النقدي والبنية التحتية المتداعية، وكذلك نقص الصيانة الكلية، وضعف طاقة التكرير، فضلًا عن هروب الموظفين التقنيين إلى الدول الأخرى، مما نتج عنه هبوط الانتاج.
* الشق الخارجي من الأزمة الفنزويلية:
تعتبر العقوبات الأمريكية الشق الخارجي من الأزمة الفنزويلية، حيث بدأت مع تولي الرئيس “مادورو” عام 2013، كما وقع الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” مجموعة جديدة من العقوبات الاقتصادية على فنزويلا بعد إجرائها لانتخابات الرئاسة عام 2018 التي وصفها بـ”غير الشرعية”، وفوز “مادورو” بولاية ثانية، واستهدفت تلك العقوبات قطاع النفط بمنع الأمريكيين والمقيمين فى الولايات المتحدة من شراء أدوات الدين الفنزويلية.
وتضمن عام 2019، فرض العديد من العقوبات الاقتصادية تمثلت فيما يلي؛ فرض عقوبات جديدة على شركة النفط الحكومية “بدفسا” في يناير، ومنعها من التجارة مع الكيانات الأمريكية وكذلك تم تجميد كل موجوداتها في الخارج، وفي شهر أبريل، وضعت واشنطن البنك المركزي الفنزويلي على قائمة العقوبات لمنع استخدامه كأداة لنظام “مادارو” غير الشرعي، وأخيرًا في شهر مايو، وسعت الولايات المتحدة نطاق العقوبات لتشمل الشركات الأمريكية والأجنبية التي تتعامل قطاعي الخدمات الأمنية والدفاعية.
* نظرة عامة على الوضع الاقتصادي الفنزويلي بالإرقام:
1. التضخم:
مما سبق يتضح أن سياسات الرئيس “شافيز” وخلفه “مادارو” ساهمت بشكل كبير في معاناة البلاد من التضخم الحاد ((hyperinflation، حيث أفادت بيانات صندوق النقد الدولي بأن معدل التضخم في فنزويلا سيصل، بحلول نهاية العام 2018، إلى مليون في المائة، وبالفعل تحققت نبوءة الصندوق حيث وصل معدل التضخم إلى 1.3 مليون في المائة في نهاية 2018 وحتى مايو 2019 –حسب بيانات الجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة-، كما أعلن مدير قسم شؤون النصف الغربي للكرة الأرضية في صندوق النقد الدولي “أليخاندرو فيرنر”، عن توقعات أن نسبة التضخم في فنزويلا، قد تصل إلى 10 ملايين بالمائة مع نهاية عام 2019، والجدير بالذكر، أن تلك البيانات تختلف تمامًا عن البيانات المُصدرة عن البنك المركزي الفنزويلي في تلك الفترات، حيث أعلن يوم 28/5/2019، أن معدل التضخم وصل في 2018 إلى 130060%، وذلك في أول بيانات من هذا النوع ينشرها منذ 3 سنوات، مما يعطي انطباع ان الحكومة الفنزويلية تنكر حالات التضخم التي تُمر بها البلاد، كما يعطي مؤشرًا أن البيانات المنشورة عن البنك المركزي لا تتمتع بالمصداقية.
كما تعتبر البيانات الآتية من دلائل حالة التضخم الجامح التي تمر بها البلاد، يبلغ سعر الكيلو جرام من اللحوم (9500000) بوليفار، والمكرونة (2500000) بوليفار، والأرز (2500000) بوليفار، والجبن (7500000) بوليفار، بينما كيلو الجزر يكلف الشخص (3000000) بوليفار.
2. الانتاج النفطي:
أظهرت بيانات منظمة “أوبك” أن إنتاج فنزويلا من النفط تدهور إلى مستويات جديدة لم تشهدها البلاد منذ 30 عامًا، حيث وصل إلى 1.5 مليون برميل يومياً في يونيو 2018.
3. الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي:
انخفض إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 45 بالمائة خلال الخمس سنوات السابقة، حسب صندوق النقد الدولي، الذي يتوقع تراجعا بنسبة 8 بالمئة في 2019، فلقد تدنى الناتج الإجمالي المحلي لفنزويلا إلى 93.3 مليار دولار في 2018، بعد أن كان يبلغ 234.4 مليار دولار في 2013، أما الدخل القومي للفرد الفنزويلي، فتقلص إلى 3 آلاف و300 دولار بحلول نهاية 2013، بعد أن كان قد وصل إلى 7 آلاف و869 دولارا في 2013.
4. معدل الفقر وأعمال العنف والفساد:
بلغ معدل الفقر في فنزويلا 87 بالمائة، كما إنها تعاني من أعمال عنف مزمنة؛ إذ بلغ معدل جرائم القتل 81,4 جريمة لكل مائة ألف نسمة في 2018 حسب منظمة “المرصد الفنزويلي للعنف” غير الحكومية، فضلًا عن أن فنزويلا تحتل المركز التاسع في قائمة أكثر دول العالم فسادًا، وفقًا لمؤسسة الشفافية العالمية.
مما سبق يتضح أن فنزويلا تعاني من أزمة حادة دفعت مئات الآلاف من السكان إلى الهجرة، حيث يعيش ثلاثة ملايين فنزويلي خارج البلاد، فقد غادر منهم 2,3 ملايين شخص على الأقل منذ عام 2015، وسيصعد هذا الرقم إلى 5,3 ملايين شخص في عام 2019، وفقًا للأمم المتحدة.
* الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الفنزويلية لمعالجة الأزمة:
وفي ضوء ما تقدم من تفاقم الأوضاع في البلاد، حاول “مارادو” تقديم حلول لتلك الأزمة الخانقة، ولهذا قام بإصدار عملة نقدية جديدة تُدعى “البوليفار السيادي” في أغسطس 2018، حيث تم حذف خمسة أصفار من عملتها السابقة “البوليفار القوي”، أي أن 100 ألف بوليفار قوي يساوي 1 بوليفار سيادي، وتأتي تلك الخطوة من أجل التعامل مع أزمة السيولة والالتفاف على العقوبات الأمريكية التي أوقفت التمويل من الخارج، كما عمدت الحكومة إلى ربط العملة الجديدة بعملة الكترونية تُسمى “البترو” وهذه العملة مدعومة باحتياطات النفط، حيث سيبلغ سعر كل “بترو” ما يُقارب 60 دولارًا بناء على سعر برميل النفط الفنزويلي.
كما تم رفع قيمة ضريبة القيمة المضافة من 4% إلى 16%، وكذلك الضرائب على الشركات، فضلًا عن زيادة الحد الأدنى للأجور ليصبح 18000 بوليفار سيادي، وأخيرًا رفع الدعم عن أسعار الوقود للذين لا يملكون بطاقات وطنية.
* تقييم الإجراءات السابقة:
يبدو أن الإجراءات السابقة لم تسهم في حل الأزمة الفنزويلية حيث ظلت البيانات الفنزويلية متدهورة منذ تطبيقها وحتى الآن كما سبق الذكر، حيث اعتبر محللون وخبراء اقتصاد أن برنامج الحكومة لإصلاح الاقتصاد غير واقعي وغير قابل للتطبيق، كما حذروا من أن تتسبب الإجراءات الجديدة في مضاعفة التضخم بدلًا من كبحه، لأنها لم تقوم بتجفيف منابع التضخم من الأساس، ومما يؤكد سوء تلك الإجراءات هو أن رفع الأجور والضرائب ساهم بالتأكيد في ارتفاع الاسعار-نظرًا لارتفاع تكاليف الانتاج على المنشآت-، كما اضطرت بعض المصانع للإغلاق بسبب عدم قدرتها على سداد تلك التكاليف.
أما بالنسبة لإطلاق عملة الكترونية فيبدو أنها لم تأتي ثمارها بسبب ضعف الطلب عليها نتيجة خوف المستثمرين من الانهيار الاقتصادي، كما واجهت تلك العملة مشكلة عدم وجود ماكينات الصرف الآلي (ATM) التي تدعمها، هذا إلى جانب وجود عدد قليل من الشركات، ومنصات التداول على الإنترنت التي تقبل هذا النوع من المدفوعات.
* كيفية الخروج من المأزق الاقتصادي:
ومما سبق تتمثل أبرز الحلول التي يُمكن أن تخرج فنزويلا من أزمتها ولو حتى بشكل بسيط، في التحول التدريجي للرأسمالية، أي البدء بالشراكة بين القطاع العام والخاص مع استمرار توجيه الدولة للقطاع الخاص، وتدعيم مؤسسات القطاع الخاص من أجل تقليل تكلفة انتاجها ورفع تنافسيتها في الأسواق العالمية، حتى يتم جذب الاستثمارات الاجنبية من جديد وخاصة في الصناعة النفطية، كما أنه من المُمكن أن تصدر تشريعات لتجاوز الجوانب السلبية للرأسمالية؛ وقد يسهم هذا في إعادة فتح المصانع من جديد، وزيادة التشغيل والانتاج، مما سيساعد في الاتجاه للتصدير وكذلك زيادة احتياطي النقد الاجنبي، مما سيؤدي إلى انخفاض الاسعار وتحسين قيمة العملة، ويجب أن يكون ذلك بالتوازي مع إيجاد بدائل للنفط كمصادر للدخل.
ومن الممكن أن تستفيد فنزويلا من التجربة الصينية في هذا الشأن، حيث احتفظت الصين بثوبها الاشتراكي مع الاتجاه التدريجي للسياسات الرأسمالية، فلقد حدث هذا عمليًا برعاية “الحزب الشيوعي الصيني” الذي اتجه لمراجعة سياساته الاشتراكية لتتوافق مع العصر الحديث، حيث حافظت الصين على سيطرتها على نواحي الاقتصاد، مع اعتماد آليات السوق الحر.
رابط المصدر: