نشرت مجلة فورين أفيرز في عدد سبتمبر / أكتوبر 2021، أي منذ عام تقريباً، مقالاً بعنوان: “حرب إيران من الداخل – إبراهيم رئيسي وفوز المتشددين” لمحمد آية الله طبار، الأستاذ المساعد في الشؤون الدولية بكلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة بجامعة تكساس إيه آند إم، والزميل في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس.
كانت مجلة فورين أفيرز قد نشرت هذا المقال بمناسبة انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً للجمهورية الإسلامية؛ ونظراً لأهمية المقال، كونه يقدم للقارئ العربي خلفية جيدة لفهم الشأن الإيراني، ويوضح الصورة الكلية للقوى الحاكمة في إيران منذ الثورة الإيرانية وحتى الأن، فقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمته كاملاً على النحو التالي:
تُعتبر جمهورية إيران الإسلامية دولة منقسمة على نفسها. فمنذ إنشائها في عام 1979، عُرفت بالتوتر القائم بين الرئيس، الذي يرأس حكومتها المنتخبة، والمرشد الأعلى، الذي يرأس المؤسسات الموازية للدولة التي تجسد المُثل الإسلامية الثورية لإيران الحديثة. وقد شغل المرشد الأعلى الحالي، علي خامنئي، منصب الرئيس من عام 1981 إلى عام 1989. وخلال فترة رئاسته، اشتبك مع المرشد الأعلى في ذلك الوقت روح الله الخميني، رجل الدين صاحب الكاريزما الذي قاد الثورة الإيرانية، حول مسائل السياسة والعاملين والأيديولوجيا. وبعد وفاة الخميني، في عام 1989، تم تعيين خامنئي مرشداً أعلى، حيث واصل المواجهة والصراع مع سلسلة طويلة من الرؤساء الذين يُعتبرون أكثر اعتدالاً مقارنة به.
لم يكن الرؤساء الإيرانيون الجدد أصوليين بحسب معايير المؤسسة السياسية في البلاد. لكن على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم حول الشؤون العالمية وكذلك اختلاف قواعدهم الاجتماعية، فقد اتبعوا جميعاً سياسات داخلية وخارجية وصفتها الدولة الموازية (التي يمثلها المرشد الأعلى خامنئي) بأنها علمانية وليبرالية ومضادة للثورة الإسلامية، بل ومدمرة. وفي كل حالة، كان خامنئي وفيلق الحرس الثوري الإسلامي، الذي يتبع المرشد الأعلى مباشرة، يتحرك بقوة ووحشية أحياناً، من أجل احتواء الحكومة المنتخبة والسيطرة عليها. حيث أدت المعارك إلى استنزاف البيروقراطية الحكومية، بل وشلها.
وبانتخاب رئيس إيران الجديد، إبراهيم رئيسي، ربما يكون هذا الصراع قد حُسم أخيراً لصالح الدولة الموازية. حيث يُعتبر إبراهيم رئيسي، الذي تولى رئاسة البلاد في انتخابات تمت إدارتها بدقة في يونيو الماضي، هو مجرد موظف مخلص للنظام الثيوقراطي الإيراني. فقد شغل منصب متواضع كمدعي عام وقاضي، بما في ذلك عامين تولى فيهما رئاسة السلطة القضائية الإيرانية. وخلال مسيرته المهنية، اشتهر رئيسي بمزاعم حول دوره في صدور أحكام بالإعدام بالاعتماد على إجراءات قضائية موجزة وذلك ضد آلاف السجناء السياسيين وأعضاء الجماعات المسلحة اليسارية في أواخر الثمانينيات. ومن الواضح أن حرصه على القضاء على أي تهديد محتمل للدولة الموازية جعله محبوباً لدى خامنئي، وليس هناك أدنى شك في أنه كرئيس للجمهورية الإسلامية، ستكون إحدى أولوياته تمكين المرشد الأعلى من إحكام سيطرته على المؤسسات الإدارية للحكومة المنتخبة.
كما يتطلب السياق الذي تولى فيه رئيسي الرئاسة الانفكاك من الضغوط التي فرضها الماضي. حيث عانت إيران من الفقر بسبب العقوبات الأمريكية الخانقة وجائحة كوفيد -19. فبينما تتضاءل تطلعات الطبقة الوسطى المدمَّرة نحو الديمقراطية، يتصاعد مكانها الشعور الجماعي بالعزلة والقنوع بالعيش في دور الضحية. ولا تزال المنطقة المحيطة تشكل خطراً، مما يمكّن أولئك الذين يلعبون دور حراس الأمن القومي. فوسط كل هذه الاضطرابات، ستحتاج إيران في القريب إلى زعيم جديد – أو بالأحرى مرحلة انتقالية من المقرر أن يلعب فيها الرئيس الجديد دوراً حاسماً، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى صعوده (إبراهيم رئيسي) إلى رأس الجمهورية الإسلامية.
وهذه التغييرات تشي بإطلاق حقبة جديدة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. حيث يمكن للاضطرابات الناجمة عن نظام منقسم على نفسه أن تفسح المجال للوصول إلى إيران أكثر تماسكاً وأكثر حزماً في السعي لتشكيل المنطقة بناء على رؤيتها الخاصة. ومع تلاشي العديد من القيادات والحركات التي كانت قد حددت السياسة الإيرانية على مدى العقود الثلاثة الماضية، فقد أصبح الآن لدى فصيل من القادة اليمينيين فرصة مواتية لإعادة تشكيل السياسة والمجتمع في إيران بطرق من شأنها توسيع سيطرة الحرس الثوري الإيراني على اقتصاد البلاد، مما سيؤدي إلى مزيد من التراجع للحريات السياسية، وفي نفس الوقت يُظهر تسامحاً محدوداً تجاه القضايا الدينية والاجتماعية. وسوف يدافع هؤلاء القادة عن القومية الإيرانية لتوسيع قاعدتهم الشعبية محلياً، بالإضافة إلى الاعتماد على الأيديولوجيات الشيعية وتلك المعادية للولايات المتحدة، بهدف إظهار القوة في النطاق الإقليمي.
ويمكن لهذه التغييرات أيضاً أن تعيد تشكيل علاقة إيران بالعالم، وخاصة بالولايات المتحدة. وبدعم من الحرس الثوري الإيراني شديد الثقة بنفسه وعدم الخوف من التخريب المحلي، لن تتردد الحكومة الجديدة في مواجهة التهديدات الوجودية من الولايات المتحدة كما يتم تصويرها. وعلى الرغم من أنه قد يتنازل عن القضية النووية للتخفيف من الأزمات الاقتصادية والبيئية المتصاعدة في الداخل، إلا أن فريق السياسة الخارجية القادم (مع إبراهيم رئيسي) سوف يتجاهل تطلعات الرؤساء السابقين للتقارب مع الغرب، وبدلاً من ذلك سيواصل الدخول في تحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا. وسيكون تركيزها الأساسي على الشرق الأوسط، حيث ستسعى إيران إلى عقد اتفاقيات أمنية وتجارية ثنائية مع جيرانها وتضاعف جهودها في تعزيز “محور المقاومة”، وهي شبكة مترامية الأطراف من الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها من دول المنطقة.
العلاقات الأمريكية الإيرانية ستكون تفاعلية وستدور رحاها حول مخاوف أمنية فورية. أما التوقعات البراقة بحدوث تقارب أوسع بين البلدين فلن يجد بعد الآن أرضاً خصبة في طهران. حيث من المحتمل أن تكون احتمالات وجود فرصة “لعقد صفقة كبرى” بين البلدين قد أُغلقت تماما.
في قلب الصراع
لقد وُلد النظام السياسي الذي بشر به وأسسه آية الله الخميني في عام 1979 وُلد في قلب الصراع. فبينما كانت إزاحة الشاه، الديكتاتور الذي حكم إيران منذ عام 1941، من الحكم مسألة سلمية نسبياً، لكن الصراع بين الإسلاميين وخصومهم كان دامياً وطويل الأمد. حيث حارب أتباع الخميني رجال الدين التقليديين والقوميين والماركسيين من أجل تمكين السلطة. وعزّز استيلاء الطلاب الموالين للخميني على السفارة الأمريكية في عام 1979 قبضة الإسلاميين على السلطة، كما فعلت الحرب التي خاضتها إيران ضد جارتها العراق في الفترة من 1980 إلى 1988، والتي ساعدت في توسيع نطاق قوتها شبه العسكرية، الحرس الثوري الإيراني، كقوة موازنة للجيش الإيراني الذي كانت قد دربته الولايات المتحدة.
وأنشأت القوى الإسلامية المنتصرة مؤسسات موازية أطلقوا عليها اسم “نظام” بشكل كُلّي، والذي تم تصميمه لتحييد أي تهديدات تأتي من الدولة العلمانية. وسرعان ما وجدت إيران نفسها ممزّقة بسبب خطوط الصدع بداخلها: بين المرشد الأعلى والرئيس، وبين قادة الحرس الثوري الإيراني والجيش، وبين الفقهاء الدينيين في مجلس صيانة الدستور (الهيئة التي تتمتع بحق النقض على أي تشريع) و أعضاء البرلمان. وتعمقت الانقسامات بشكل أكبر بعد وفاة الخميني، عندما تولى الجناح المحافظ من الإسلاميين السلطة وأطاح بالرفاق اليساريين من السلطة. وسرعان ما انقسم الفريق الحاكم بين الدولة الموازية بقيادة المرشد الأعلى الجديد والحكومة بقيادة الرئيس.
المرشد الأعلى هو من الناحية الدستورية صانع القرار النهائي في إيران، لكن الرئيس والبيروقراطية الحكومية تستطيع أحياناً استغلال المشاعر الشعبية لمقارعته والتغلب عليه. وقد سلطت الانتخابات الضوء على قضايا الاستقطاب مثل الحقوق المدنية وقواعد اللباس الإلزامية والفساد والعلاقات مع الولايات المتحدة، مما حفّز الحركات الاجتماعية والاحتجاجات التي لا تستطيع الدولة الموازية تجاهلها. حيث أدت الانتخابات الرئاسية لعام 1997 إلى ولادة حركة إصلاحية هائلة غيرت تطلعاتها “الديمقراطية الدينية” حتى معجم المرشد الأعلى.
لكن بالنسبة لرؤساء إيران الجدد، فإن الجهود التي يتم بذلها في سبيل استغلال المشاعر الشعبية للضغط من أجل الإصلاح تنتهي عادةً بالإحباط والفشل. فعلى مستوى المرشحين، وعد جميع الرجال الذين عملوا كرؤساء لإيران خلال العقود الثلاثة الماضية – أكبر هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، ومحمود أحمدي نجاد، وحسن روحاني – برسم مسار مستقل وفتح البلاد على العالم. ومع ذلك، فبمجرد توليهم المنصب، تبين فشلهم الحتمي، حيث كانوا مقيدين من قبل معارضة المرشد الأعلى النشطة لتوجهاتهم. حيث كان كل هؤلاء الرجال أيضاً قد بدأوا حياتهم المهنية كموالين متحمسين للدولة الموازية، وقد ساعدوا بالفعل في بناء أسس الجمهورية الإسلامية.
قام رفسنجاني بالمحاولة الأولى لإضعاف الدولة الموازية. لقد كان هو نفسه أحد مؤسسي المؤسسة الثيوقراطية، فضلاً عن كونه داعماً فعالاً لتعيين خامنئي كمرشد أعلى. ولكن كرئيس لإيران من 1989 إلى 1997، حاول رفسنجاني إخراج البلاد من مرحلتها الثورية وإعادة بناء اقتصادها المتصدع من خلال تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. وقبل فترة طويلة، دخل في صراع على السلطة مع خامنئي، حيث سعى إلى ضم الحرس الثوري الإيراني إلى الجيش أو على الأقل تحويله إلى فرقة صغيرة من النخبة. لقد كان هدفه هو جعل عملية صنع القرار مركزية داخل الحكومة والحيلولة دون تمكين مصالح الدولة الموازية من تحديد متطلبات الأمن القومي.
لكن خامنئي أحبط تلك الخطة وألغى تعديلاً دستورياً مقترحاً كان سيسمح لرفسنجاني بالترشح لولاية ثالثة على التوالي. وعندما ترك رفسنجاني منصبه عام 1997، لم يخرج تماماً من المشهد السياسي. فبدلاً من ذلك، أضافت المنافسة بينه وبين خامنئي عنصر تقلبات في السياسة الانتخابية الإيرانية التي استمرت ربع قرن.
يدين محمد خاتمي بفوزه الساحق في الانتخابات عام 1997 جزئياً إلى رفسنجاني، الذي استخدم سيطرته على الآلة السياسية لدعم ذلك المرشح الإصلاحي غير المتوقع. وناشد برنامج خاتمي التقدمي الشباب والنساء والطبقة الوسطى الساخطين التي تضخمت بسبب الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها رفسنجاني. وكرئيس، أشرف خاتمي على فترة وجيزة من التوجه لليبرالية: حيث ظهرت مئات من وسائل الإعلام الجديدة، وطرح المثقفون أفكاراً حول التعددية الدينية التي هددت احتكار المرشد الأعلى وحده للحقيقة الإلهية. وتحرك خامنئي والحرس الثوري الإيراني بقوة لإحباط أجندة خاتمي الإصلاحية ودرء أي تقارب قد يحدث مع الولايات المتحدة، واعتُقل على إثر ذلك مئات الصحفيين والمثقفين والطلاب.
وفي أعقاب هذه الحملة، بدت الدولة الموازية وكأنها على وشك الفوز في صراعها على السلطة مع الحكومة. حيث أدار أحمدي نجاد حملة شعبوية في انتخابات 2005 وهزم رفسنجاني الذي وصفه بأنه رمز لنظام فاسد. وطوال فترة رئاسة أحمدي نجاد، اخترق الحرس الثوري الإيراني مؤسسات الدولة، وسّرع البرنامج النووي للبلاد، واستغل عزلة إيران الدولية تحت نير العقوبات لتعزيز أنشطتها الاقتصادية. وعندما احتج ملايين الإيرانيين على إعادة انتخاب أحمدي نجاد المُختلف عليها في عام 2009، قام الحرس الثوري الإيراني بسحق المظاهرات بعنف شديد. وقامت الدولة الموازية بسجن العديد من القادة الإصلاحيين ووضعت آخرين رهن الإقامة الجبرية. وكان من بين القتلى والمعتقلين أولاد وأقارب لكبار المسؤولين المحافظين. وللحظة، تصدعت حتى الدولة الموازية: حيث اضطر قادة الحرس الثوري الإيراني إلى السفر في جميع أنحاء البلاد لإطلاع الأعضاء العاديين وغيرهم من الشخصيات المحافظة على تبرير استخدامهم المفرط للعنف ضد المتظاهرين.
ولكن أدى ذلك إلى اشتباك حتى أحمدي نجاد في نهاية الأمر مع خامنئي والحرس الثوري الإيراني. ففي ولايته الثانية، تخلى عن موقفه المناهض لأمريكا لصالح تعزيز المبادرات تجاه واشنطن، واستبدل خطابه الإسلاموي السابق بمناشدات للقومية الفارسية. واتهم الحرس الثوري الإيراني ووكالات المخابرات بتهريب سلع فاخرة مثل السجائر ومنتجات التجميل النسائية (وغيرها من السلع) بشكل متخفي على أنها عناصر حساسة من وإلى إيران. وفي محاولة لتجاوز المؤسسة الدينية ذاتها التي أوصلته إلى السلطة، ألمح نجاد إلى أنه يتمتع بعلاقة من نوع ما بـ “الإمام الغائب”، وهو شخصية مسيانية[1] يحترمها الشيعة.
وبعد ثماني سنوات من رئاسة الجمهورية، بدأ الإيرانيون في دعم الإصلاحيين الذين وعدوا بالعودة إلى الحياة الطبيعية. وتم استبعاد رفسنجاني من الترشح في انتخابات 2013 من قبل مجلس صيانة الدستور، المكلف بتقييم ما إذا كان المرشحون يدينون بالولاء للمرشد الأعلى، ولذلك حشد الدعم للمرشح المقرب منه حسن روحاني، مستشار الأمن القومي السابق والمفاوض النووي لرفسنجاني وخاتمي. ثم شن روحاني حملته بناء على برنامج طموح، وتعهد بالدفاع عن المواطنين ضد عسكرة الحرس الثوري الإيراني والتطرف الديني الذي قيد الحياة اليومية للمواطنين، وكذلك تأمين إطلاق سراح القادة الإصلاحيين من الإقامة الجبرية، وتحسين الاقتصاد من خلال حل المأزق النووي. وربط النمو الاقتصادي بالمفاوضات النووية، من خلال إعلانه، “من الجيد تشغيل أجهزة طرد مركزي، لكن حياة الناس يجب أن تدار أيضاً؛ يجب أن تعمل مصانعنا “.
ومع وجود رفسنجاني والإصلاحيين من خلفه، تم انتخاب حسن روحاني رئيساً في عام 2013 وأعيد انتخابه في عام 2017. وعاد التكنوقراط إلى مناصب عليا في البلاد واستأنفوا المفاوضات النووية التي بدأوها قبل عقد من الزمن في عهد خاتمي، لكن في هذه المرة، تحادثوا ليس فقط مع القوى الأوروبية ولكن أيضا مباشرة مع الولايات المتحدة. وبدأت المحادثات النووية الأولية بين إيران والولايات المتحدة سرا في عُمان، بمباركة خامنئي، قبل بضعة أشهر من انتخاب روحاني. لكن الفريق الجديد استخدم تفويضه الشعبي للضغط على المرشد الأعلى لإظهار المزيد من المرونة في المفاوضات أكثر مما كان يود الأخير. وبعد عامين، أبرم مفاوضو روحاني اتفاقية مع ست قوى عالمية، وهي خطة العمل الشاملة المشتركة (المعروفة بالاتفاق النووي)، والتي قدمت لإيران بعض التخفيف من العقوبات مقابل الموافقة على السماح بالتفتيش على منشآتها النووية والحد من تخصيب اليورانيوم، على الأقل لبعض الوقت.
تسريبات
وردت الدولة الموازية بقوة من أجل تهدئة النشوة التي استقبلت الاتفاق النووي في عام 2015. وبذلك، قدمت دليلاً بيانياً على الصراعات الداخلية داخل الدولة الإيرانية. ففي إبريل من نفس العام، تم تسريب ملف صوتي مدته ثلاث ساعات كان جزءاً من تاريخ صوتي سري، حيث تم التسريب بتكليف من أحد الأذرع المجهولين في مكتب الرئيس إلى وسائل الإعلام. في ذلك التسريب، سُمع صوت وزير الخارجية محمد جواد ظريف وهو يقول بصراحة إن سياسة إيران الخارجية كانت دائماً في خدمة الحرس الثوري الإيراني.
يؤكد هذا التسريب أن إدارة روحاني تعتبر البرنامج النووي الإيراني مشروعاً للحرس الثوري الإيراني لا يصب بالكامل في مصلحة الدولة. ففي المحادثة المسجلة، قال ظريف إنه أخبر خاتمي وروحاني أن “مجموعة واحدة (يُفترض أنها إشارة للحرس الثوري الإيراني) ألقت بالبلاد في بئر، وهذا البئر هو البئر النووي”.
حتى إن جواد ظريف كان يتهم الحرس الثوري الإيراني بالتعاون مع روسيا لتخريب جهوده الدبلوماسية بشأن القضية النووية. حيث كان الروس يخشون من أن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية يمكن أن تقرب إيران من الولايات المتحدة. وبحسب ظريف، فإنه فور إعلان خطة العمل الشاملة المشتركة، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، لمناقشة الصراع في سوريا. ثم بدأت الصواريخ والطائرات الروسية تتعمد التحليق في مسارات أطول عبر الأجواء الإيرانية في الطريق لمهاجمة القوات التي تقاتل نظام بشار الأسد في سوريا. ويشير ظريف إلى أن بوتين كان ينوي دفع إيران إلى التعاون مع روسيا في أتون معركة إقليمية كوسيلة لإبقاء طهران في صراع دائم مع واشنطن.
في التسجيل الصوتي المسرب، يصرخ ظريف قائلاً إن الدولة الموازية قضت ستة أشهر قبل دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ في محاولات لتخريبه. إن قيام الحرس الثوري الإيراني بإطلاق صاروخ مكتوب عليه، “يجب محو إسرائيل من الوجود”، وتلك العلاقات مع روسيا والأحداث الإقليمية التالية، كمداهمة السفارة السعودية (في طهران)، والاستيلاء على السفن الأمريكية – كل ذلك تم لمنع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) من التنفيذ “، كما يقول ظريف في التسجيل الصوتي.
في السنوات التي أعقبت اعتماد خطة العمل الشاملة المشتركة، وجد ظريف نفسه يسعى باستمرار لإصلاح الأضرار الذي يلحقها الحرس الثوري الإيراني لدبلوماسيته الحذرة. فقد كان سليماني لا يخبر ظريف إلا بالقليل عن خططه. فعلى سبيل المثال، في يناير 2016، تم تخفيف العقوبات الأمريكية على شركة الطيران الإيرانية الرئيسية، إيران للطيران، كجزء من الاتفاق النووي. ولكن بعد خمسة أشهر، علم ظريف من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن شركة الطيران الإيرانية لم تستأنف فقط استخدام الرحلات المفترض أنها مدنية لنقل الأسلحة إلى حزب الله في سوريا، وهو الإجراء الذي أدى في المقام الأول إلى فرض عقوبات عليها، بل تم زيادة عدد تلك الرحلات أيضاً ستة أضعاف بناءً على أوامر مباشرة من سليماني.
وعرّضت تلك الرحلات الجوية أسطول إيران للطيران المتقادم للخطر وأدت إلى فرض عقوبات جديدة عليه أيضاً. يلخص ظريف بشدة وجهة نظر الحرس الثوري الإيراني بشأن المسألة – أنه إذا كان استخدام إيران للطيران لهذا الغرض قد منح ميزة بنسبة 2% على توفير البدائل، “حتى لو كلف ذلك دبلوماسية الدولة 200%، فهل كان الأمر يستحق استخدامه؟!” (قد يكون قبول سليماني للمخاطر واستعداده لاستفزاز الولايات المتحدة قد ساهم في اغتياله؛ في أوائل عام 2020، عندما تم استهدافه وقتله عن طريق طائرة أمريكية بدون طيار في بغداد).
يتحسر ظريف على حقيقة أن شعبيته بين الإيرانيين قد انخفضت من 88% إلى 60% في السنوات التي أعقبت وضع اللمسات الأخيرة على خطة العمل الشاملة المشتركة. في غضون ذلك، قفزت نسبة تأييد سليماني إلى 90% بفضل التصوير البطولي له في وسائل الإعلام المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.
وطوال فترة توليه منصبه، وجد حسن روحاني نفسه في حالة حرب مع الدولة الموازية، تماماً مثل أسلافه من الرؤساء السابقين. وبالعودة إلى الثمانينيات، كان روحاني قد ساعد في توسيع الحرس الثوري الإيراني من منظمة تطوعية صغيرة إلى جيش كامل، لها قوات برية وبحرية وجوية. وبعد ثلاثة عقود، اتهم الحرس الثوري الإيراني علناً بالتمادي في التدخلات. ففي مؤتمر عام 2014 لمكافحة الفساد مع رؤساء القضاء والبرلمان، أظهر روحاني إحباطه من الأنشطة غير العسكرية للحرس الثوري الإيراني. وقال دون تسمية الحرس الثوري الإيراني صراحة، “إذا تجمعت الأسلحة والمال والصحف والدعاية في مكان واحد، يمكن للمرء أن يكون واثقاً من أن الفساد يكمن هناك”.
معجزة
كان من الممكن أن ينتهي هذا الصراع المألوف بين الحكومة الإيرانية المنتخبة، في عهد روحاني، ومؤسسات الدولة الموازية، في ظل خامنئي، بشكل غير حاسم مثلما حدث في الاشتباكات السابقة. لكن الزخم الخارجي – أي انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016 – أدى إلى قلب التوازن بشكل حاسم نحو الدولة الموازية. حيث أكدت حكومة روحاني للإيرانيين أنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة إلغاء الاتفاق النووي من جانب واحد، لأنه كان اتفاقاً دولياً تم التفاوض عليه بين القوى العالمية الست وصادق عليه مجلس الأمن الدولي. لكن الحرس الثوري الإيراني قدم رهاناً مختلفاً، لأنه لا يثق بوعود الولايات المتحدة ولا بالاتفاقيات الدولية. فما إن فاز ترامب بالرئاسة الأمريكية حتى اصطفت الشركات الواجهة للحرس الثوري الإيراني في البنك المركزي الإيراني ووزارة البترول والوكالات الحكومية الأخرى لتقديم عطاءات للحصول على عقود للتحايل على العقوبات المالية وعقوبات الطاقة الأمريكية المحتملة.
و عندما انسحب ترامب رسمياً من الاتفاقية في مايو 2018، كان هؤلاء “المستفيدين من العقوبات” على أهبة الاستعداد للسيطرة على القطاع المالي الإيراني. وبسبب إعادة فرض العقوبات الأمريكية، كان على إيران الآن الاعتماد على شبكة الحرس الثوري الإيراني للتحايل على الشبكات المصرفية الدولية لبيع نفطها وإعادة العائدات إلى البلاد. ووفقاً للرئيس السابق للبنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي، فإن استيلاء الحرس الثوري الإيراني على هذه المعاملات المالية نتج عنه عمولة تعادل 20% على كل تحويل تقوم به الحكومة. وبذلك، فقد مكنت سياسات الولايات المتحدة بشكل فعال الحرس الثوري الإيراني من تعميق نفوذه الاقتصادي.
ومن جانبها، نفت إدارة دونالد ترامب وجود انقسامات سياسية ذات مغزى داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لقد تبنت سياسة “الضغط الأقصى” المصممة لخفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وخنق اقتصادها. وفي داخل البيت الأبيض، لم يكن هناك اتفاق على كيفية وضع نهاية للعبة. فبينما كان هدف ترامب هو إجبار إيران على التفاوض على اتفاقية جديدة، كان وزير خارجيته آنذاك، مايك بومبيو، ومستشاره للأمن القومي في ذلك الوقت، جون بولتون، يضغطان من أجل تغيير النظام في إيران. وبغض النظر عن الهدف النهائي، فإن النهج الجديد لم يستثنِ حتى المسؤولين الإيرانيين الذين عارضوا الحرس الثوري الإيراني من الداخل: فقد عاقبت إدارة ترامب جواد ظريف أيضاً في يوليو 2019.
لقد أدى انتخاب ترامب إلى ترجيح كفة الميزان لصالح الدولة الموازية ضد الحكومة الإيرانية المنتخبة.
أصبح إصرار إدارة ترامب على أن النخبة الإيرانية متجانسة شيئاً مثل نبوءة ذاتية التحقق: فقد دفعت أفعال ترامب بالسياسة الإيرانية في اتجاه أكثر تطرفاً. وفي ظل التهديد الوجودي لسياسة عقوبات أمريكية شديدة القسوة، خفّت حدة الانقسامات الداخلية. وساعدت سياسات البيت الأبيض في صياغة اتفاق واسع النطاق بين النخب الإيرانية على أن الطريقة الوحيدة لحماية المصالح الوطنية للبلاد هي تأمين النظام، مما سمح للحرس الثوري الإيراني بتقديم نفسه، لأول مرة في وجوده، على أنه بطل القومية الإيرانية.
لطالما ادعى الحرس الثوري الإيراني أن صواريخه الباليستية المتطورة وشبكة الوكلاء له في جميع أنحاء الشرق الأوسط تحمي وحدة أراضي إيران. وفي عام 2019، بعد أن أصبح واضحاً أن سياسة “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية في التمسك بخطة العمل الشاملة المشتركة لم تؤتي ثمارها، شرع الحرس الثوري الإيراني في اتخاذ إجراءات لإرساء إمكانات الردع ضد المزيد من الضغوط من الولايات المتحدة. فبدأ في شن هجمات تتسم بالوقاحة، وشن ضربة مروعة ودقيقة بطائرة بدون طيار على منشأة لمعالجة النفط في المملكة العربية السعودية وقام بإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار فوق الخليج العربي. وفي يناير 2020، أطلق الحرس الثوري الإيراني صواريخ باليستية على القوات الأمريكية في العراق رداً على اغتيال سليماني. كما أدت هذه العمليات إلى إسكات معارضي الحرس الثوري الإيراني داخل الدولة والمجتمع.
وعلى مدى عقود، كانت الدولة الموازية تخشى أن يتحد المجتمع الإيراني مع الحكومة المنتخبة للتغلب عليها. ولإحباط هذا الاحتمال، تصرفت الدولة الموازية بحكمة أحياناً وبعنف في كثير من الأحيان. والآن يمكن أن يتم تصور مستقبل جديد، مستقبل يتحد فيه كل من المجتمع الإيراني والحكومة من خلف الدولة الموازية، مما سيجعل المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني هي القاطرات لتحقيق تطلعاتهم.
تعاون ميداني
وبحلول انتخابات هذا العام (2021)، تغير المشهد السياسي والاجتماعي في إيران. فقد توفي رفسنجاني، الذي كان قوة مؤثرة في السياسة النخبوية لعقود من الزمان، فجأة إثر نوبة قلبية في عام 2017. ولا يزال محمد خاتمي قيد الإقامة الجبرية الفعلية، وتمنع الحكومة وسائل الإعلام الإيرانية من ذكره أو نشر صورته. ولا يزال أحمدي نجاد يمارس النقد بشكل علني: فقد وصف مستشارون سابقون في وسائل الإعلام الإيرانية كيف يتصور نجاد نفسه في إيران مثلما كان بوريس يلتسين في روسيا، حيث يتصور أن مصيره ركوب الاحتجاجات الجماهيرية للوصول إلى السلطة من أجل إنقاذ الأمة. لكن الفصيل الذي يمثله أحمدي نجاد قد تم تطهيره من كل مؤسسة مهمة في الدولة.
كانت الكتلة الإصلاحية الخاسر الأكبر في حملة 2021، حيث فشلت قيادتها المسنة في تقديم جبهة موحدة أو خطة عمل متماسكة خلال الانتخابات. لقد حشدت الحركة في مرة سابقة ما يكفي من الدعم الشعبي لدفع محمد خاتمي إلى الرئاسة، وشكلت لاحقاً جزءاً مهماً من التحالف وراء حسن روحاني. أما الآن، فمع ذلك، يبدو هذا الأمر وكأنه بعيد المنال. فقد ارتفع معدل التضخم في إيران إلى 40% بعد انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، وتغرق البلاد الآن في الفقر. ووفقاً لمنظمة الضمان الاجتماعي الإيرانية، فقد تضاعف معدل الفقر المدقع في غضون عامين فقط، من 15% في عام 2017 إلى 30% في عام 2019. وتراجعت جهود المجموعات الطلابية والمنظمات النسائية لتنظيم الاحتجاجات ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان، حيث استبدلت بأعمال شغب عنيفة مرتجلة بسبب المظالم الاقتصادية ونقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي. وشعار المحتجين الغاضب – “الإصلاحيون، المحافظون، حان وقتكم” – يوحي بأنهم ينظرون إلى الإصلاحيين على أنهم شركاء مع المحافظين في بؤسهم.
في الماضي، نجح الإصلاحيون في الانتخابات من خلال استقطاب المشهد السياسي. فقد ترشح خاتمي بناء على برنامج انتخابي لتعزيز المجتمع المدني والديمقراطية، ووعد روحاني بحل القضية النووية وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. تعتبر هذه القضايا مثيرة للجدل في إيران، وقد أدى استحضارها إلى تحويل حملات هؤلاء المرشحين إلى حركات اجتماعية، مما أدى إلى زيادة إقبال الناخبين، لا سيما بين النساء والشباب. وحُكم على هذه الاستراتيجية بأول محاولة لإبراهيم رئيسي للرئاسة، في عام 2017، عندما خسر بشكل فادح أمام حسن روحاني.
لكن في انتخابات هذا العام 2021، لم يجد خامنئي والحرس الثوري مقاومة تذكر في طريقهما لتهيئة الساحة لفوز رئيسي. فقد استبعد مجلس صيانة الدستور جميع المرشحين الذين كان بإمكانهم تنشيط الناخبين، ولم يقتصر الأمر على منع كل الإصلاحيين وكذلك أحمدي نجاد، ولكن أيضاً تم استبعاد علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق المعتدل نسبياً وكبير المفاوضين النوويين. وكان المرشح المعتدل الوحيد المتبقي في اللعبة هو محافظ البنك المركزي في عهد روحاني عبدالناصر همتي.
في النهاية انقسم أنصار الإصلاحيين إلى ثلاثة معسكرات: أولئك الذين قاطعوا الانتخابات، والذين أبطلوا أصواتهم، وأولئك الذين صوتوا لصالح همتي. وبلغت نسبة المشاركة 49%، وهي الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية لانتخابات رئاسية. وفي معقل الإصلاحيين بطهران، شارك 26% فقط من الناخبين الذين يحق لهم التصويت. وبحسب الأرقام الرسمية، حصل رئيسي على 62% من الأصوات، وهمتي على 8 % فقط.
وكانت الكتلة الإصلاحية هي الخاسر الأكبر في الحملة الانتخابية لعام 2021.
لقد نجحت حملة المتشددين في الانتخابات ليس فقط بسبب القمع ولكن أيضاً من خلال ‘سرقة صفحة من كتاب قواعد اللعبة’ لخصومها. تعود خلفية رئيسي بالكامل تقريباً إلى القضاء الديني، ولكن كمرشح رئاسي، أكد على الأمن والازدهار بدلاً من الدين والأيديولوجية. وخاض الانتخابات معتمداً على برنامج انتخابي تم تكريسه لبناء “إيران قوية”، واعداً بمعالجة الفساد الحكومي وتحييد تأثير العقوبات من خلال تكرار أن الحرس الثوري الإيراني يعتمد على نفسه في صناعة الدفاع في الساحات غير العسكرية أيضاً. وعندما أجرى حملة في البازارات والمصانع وسوق الأوراق المالية في طهران، أظهرت وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني أنه يتحدث إلى العمال والتكنوقراط حول إعادة فتح الشركات المفلسة وإنعاش الاقتصاد.
لم يتظاهر رئيسي بأنه تكنوقراط وسطي فحسب، بل استحوذ على الخطاب العلماني للإصلاحيين أيضاً. ووعد بمحاربة العنف المنزلي وتعهد بإثناء شرطة الأخلاق المكروهة اجتماعياً بشدة عن مضايقة الناس العاديين، بل وتم تشجيعهم بدلاً من ذلك على ملاحقة الفساد الاقتصادي والبيروقراطي. وأشارت الصور التي نشرتها حملته إلى أن من بين مؤيديه نساء لم يلتزمن بالزي الرسمي الصارم.
ولجأ متشددون آخرون إلى نفس النبرة. وفي مناظرة بين الإصلاحيين والمتشددين في تطبيق الدردشة “كلوب هاوس” خلال الحملة، سخر مسعود دهناماكي، وهو رجل أمن وقائد ميليشيا سيئ السمعة، كان يهاجم المثقفين والطلاب والأشخاص العاديين جسدياً منذ التسعينيات بدعوى سلوكيات “غير إسلامية”، سخر من الإصلاحيين لتركيزهم على انتقاد القيود الاجتماعية. في لحظة معبرة، قال إن الحجاب الإجباري لم يعد مصدر اهتمام كبير للنظام.
كما قال رئيسي مراراً وتكراراً إنه يدعو إلى التعامل مع العالم. وهذا يمثل تحولا كبيرا عن نهج المواجهة الذي اتبعه المتشددون تقليديا. كما أوضح أيضاً أنه لا يعترض على الاتفاق النووي في حد ذاته، لكن فقط على الجوانب المحددة للاتفاق التي سمحت للولايات المتحدة بانتهاكاتها مع الإفلات من العقاب. وحدث التحول الأكثر دراماتيكية بين مؤيدي رئيسي المتشددين، الذين كانوا يعارضون بشدة خطة العمل الشاملة المشتركة حتى أسابيع قليلة قبل بدء حملته، لكنهم قاموا منذ ذلك الحين بالتحول للضد، وتعهدوا بالامتثال للاتفاقية. مجتبى زنور، عضو بارز في البرلمان، قاد ذات مرة مجموعة من المحافظين إلى المنصة وأضرم النار في نسخة من خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق. ولكن بعد سنوات من انتقاد خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنه يدعم الآن التزام رئيسي بها، طالما أن الولايات المتحدة تحترم التزاماتها.
دولة موازية موحدة
هذه المرة، قد يصاب بخيبة الأمل أولئك الذين يتوقعون تكرار الصراع المألوف بين الرئيس والمرشد الأعلى. سوف يلوح في الأفق الانتقال الوشيك إلى اختيار المرشد الأعلى التالي خلال رئاسة إبراهيم رئيسي. فهناك معلومات محدودة عن صحة القائد (خامنئي) البالغ من العمر 82 عاماً، باستثناء جراحة البروستاتا التي أجراها وتم الإعلان عنها كثيراً في عام 2014. ولكن من المرجح بشكل كبير أن قرار استبدال خامنئي بمرشد أعلى جديد سيتم اتخاذه خلال فترة رئاسة الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي.
تعمل القوى التي خططت وأدارت فوز إبراهيم رئيسي على تطهير أعلى المراتب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتسهيل عملية الخلافة لخامنئي. إذا لم يتم تسميته هو كخليفة لخامنئي، فسوف يلعب رئيسي دوراً رئيسياً في تحديد من هو خليفة المرشد الأعلى الحالي. ومن ثم فمن غير المرجح أن يقضي فترة رئاسته في تحدي من يشغل الآن أعلى منصب في البلاد.
إبراهيم رئيسي هو ببساطة جزء من مشروع سياسي أكبر يسعى إليه خامنئي في سنواته الأخيرة. نعم، قد يقوم الرئيس الجديد بتعديل مواقفه من الناحية التكتيكية، لكن أي تحول حقيقي في السياسة سيحدث بالتنسيق الوثيق مع المرشد الأعلى. وتعمل الدولة الموازية على توسيع قاعدتها الاجتماعية إلى ما وراء الإسلاميين لتشمل القوميين غير المتدينين، في محاولة لاستيعاب التأثير المتزايد لأولئك الذين ينتقدون مساعي فرض الشريعة الإسلامية بشكل رسمي وانتقائي. حيث انضمت العديد من النساء المحجبات إلى الحملة المناهضة للحجاب، لأنهن يرون أن الزي مثير للانقسام، ويولد الاستياء تجاههن في الشارع أيضاً. لقد تم تصميم استيلاء رئيسي الانتقائي على أجندات السياسة الخارجية والاجتماعية للإصلاحيين وإمكانية عكسها، خصيصاً لتقويض قدرتهم على العودة إلى المشهد السياسي من جديد في تلك اللحظة الحاسمة من التاريخ الإيراني.
وستعمل الإدارة الجديدة على تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية لإيران مع كل من الصين وروسيا.
وعلى الرغم من بدايتها السلسة، إلا أن هذه المناورة عالية المخاطر يمكن أن تنهار بسرعة. وسيحتاج رئيسي وفريقه من التكنوقراط اليمينيين الشباب إلى استخدام رعاية الدولة لاستمالة النخب المستاءة، ولا سيما فئة المحافظين المهمشين. كما يجب عليهم أيضاً تلبية احتياجات السكان الفقراء، الذين دعم جزء منهم انتخاب رئيسي بسبب وعوده الاقتصادية.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فسيحاول رئيسي قلب التطلعات العالمية الفاشلة لأسلافه من الرؤساء رأساً على عقب. حيث كان الرؤساء السابقون قد توصلوا إلى الاعتقاد بأن أفضل طريقة لجعل إيران آمنة ومأمونة هي تمكين البلاد من أن تكون جزءاً مزدهراً من الاقتصاد العالمي. ولكن رئيسي، على العكس من ذلك، يعتقد أن إيران القوية ذات النفوذ الإقليمي بلا منازع هي وحدها القادرة على ردع القوى الخارجية وتحقيق الازدهار الاقتصادي. لذلك، فمن المتوقع أن يعزز القدرات العسكرية للحرس الثوري الإيراني في مواجهة الضغط الأمريكي. وهذا يعني تعزيز شبكة الوكلاء التابعة للفيلق في العراق ولبنان واليمن وخارجها، وكل ذلك سيكون في خدمة حماية الدولة الموازية الأصلية في إيران.
كما ستعمل الإدارة الجديدة على تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية لإيران مع كل من الصين وروسيا. فقد وجه بوتين واحدة من أولى وأقوى التهاني للرئيس الجديد، معرباً عن ثقته في أن انتخاب رئيسي سيؤدي إلى “مزيد من تطوير التعاون الثنائي البناء بين بلدينا”. كما وقعت طهران مؤخراً شراكة تجارية وعسكرية لمدة 25 عاماً مع بكين، والتي كان قد تم تأجيلها في البداية في عام 2016، حيث كانت إيران تأمل في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
ومن المفارقات أن القضاء على أي تقارب محتمل مع الولايات المتحدة قد أدى إلى تماسك السياسة الخارجية الإيرانية. وهناك الآن إجماع عام عبر الطيف السياسي الإيراني على أن العلاقة العدائية بين بلادهم والولايات المتحدة ستستمر إلى أجل غير مسمى. وبالتالي، لم تعد الفصائل المتنافسة في إيران مهووسة بالتداعيات المحلية لتحسين العلاقات مع واشنطن. وهذا يعني أنه لن يخل نجاح خطة العمل الشاملة المشتركة أو فشلها كثيراً بتوازن القوى الداخلية. فهذه الديناميكية الجديدة قللت من احتمالية حدوث تخريب محلي في حالة تحقيق اختراق دبلوماسي – لكنها عززت أيضاً موقف إيران التفاوضي في المفاوضات الجارية.
إبراهيم رئيسي بحاجة إلى نجاح دبلوماسي على الجبهة النووية للتعامل مع بحر من المشاكل الداخلية. لكن على عكس روحاني، فهو لا يراهن على مكاسبه السياسية منها. حيث يرى فريق السياسة الخارجية المتشدد التابع له أن الولايات المتحدة حريصة أيديولوجياً بتدمير الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وأنه يفترض أن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما بشكل صريح، كما فعل ترامب، أو بحنكة، كما فعلت إدارة أوباما، من خلال عدم رفع العقوبات المالية على إيران بشكل صحيح. لذلك، تحضّر القوى السياسية التي دفعت إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة، لتنفيذ إجراءات انتقامية تدريجياً في حال تعثر إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. كما أنهم ملتزمون بالحفاظ على البنية التحتية النووية لإيران، للحفاظ على خيار تسليح البرنامج بسرعة إذا انهار الاتفاق. وفي الوقت نفسه، قد يؤدي توقيع اتفاق نووي جديد دون قصد إلى إنشاء منطقة أكثر قابلية للاحتراق: حيث تخشى طهران من أن تمنح الولايات المتحدة حرية مطلقة لملاحقة نفوذها الإقليمي، ويخشى أعداء طهران من أنها ستزود إيران بالمزيد من الموارد لتعزيز وكلائها وبرنامجها الصاروخي.
في النهاية، يبدو أن المعضلة الأمنية الناتجة عن هذا الوضع مهيأة لتصعيد التوترات بين إيران والولايات المتحدة. فالبلدان متورطان بالفعل في صراع، على الرغم من كونه منخفض المستوى إلا أنه مستمر في العراق، حيث تصطدم القوات الأمريكية والميليشيات الموالية لإيران بشكل متقطع هناك. وعلى الرغم من أن رئيسي طالما أعلن عزمه على إجراء محادثات مع القوى الإقليمية لتقليل التوترات، فإن القيادة الموحدة الناشئة في إيران ترى نفسها في وضع سيربح فيه الجميع. إنها واثقة من قدرات جيشها وقد عرفت منذ فترة طويلة كيف يزدهر وضعها في الصراعات المختلفة من خلال توسيع حلفائها من غير الدول. وبفضل ذلك التحول السياسي المحلي الجديد، يمكن لهذه القوى أيضاً تقديم تنازلات تكتيكية تجاه خصومها دون المخاطرة بتفاقم الانقسامات الداخلية. ولكن مع بدء عهد جديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية، تتجه إيران والولايات المتحدة بالتأكيد نحو مسار تصادمي في علاقاتهما.
[1] يشير مصطلح المسيّانية إلى الاتجاه الذي ينسب إلى شخص واحد القدرة على مواجهة وحل جميع المشكلات التاريخية للمجتمع، كونه يمتلك قدرات فريدة وخارقة.
.
رابط المصدر: