سهير الشربيني
انقضى قرابة ستة أشهر على تشكيل المجلس السيادي في السودان، بعد الاتفاق الذي تم توقيعه بين قيادة الجيش وقوى الحرية والتغيير، إثر الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 على خلفية الاحتجاجات الشعبية.
كان المحرك الرئيسي للاحتجاجات ضد البشير هو الرفض الشعبي لارتفاع أسعار السلع الأساسية والوضع الاقتصادي المتردي الذي ظلت تعاني منه السودان على مدار ثلاثين عامًا من حكم البشير.
علق الشعب السوداني على رحيل البشير الآمال بانفراجة اقتصادية، وتوزيع عادل للثروة بعيدًا عن المحسوبيات، وتنمية حقيقية -تغنيه عن المساعدات- لطالما وعد بها دون أن تتحقق. لكن الآمال العريضة ارتطمت بواقع لا يقل مرارة عن سنوات البشير، بل قد يزيد.
تركة «ثورة الإنقاذ»
استلم نظام البشير الاقتصاد السوداني في وضع بدائي عقب «ثورة الإنقاذ» في 1989، وعلى الرغم من تضاعف الناتج المحلي الإجمالي 4 مرات خلال ثلاثين عامًا من حكم البشير، ليبلغ 177 مليار دولار في عام 2018، إلا أن ترتيب الاقتصاد السوداني ظل متأخرًا (65 عالميا)، واستمر الهيكل الاقتصادي بدائيًا.
ساهم في ذلك العقوبات الأمريكية التي فرضت مبكرًا على نظام البشير، ووضع السودان على قوائم الإرهاب في 1994، وازداد الطين بلة بالفساد وسوء الإدارة. نتيجة لذلك كله، عاش ما يمثل حوالي نصف السودانيين تحت خط الفقر، كما ناهزت معدلات البطالة الرسمية نسبة 20%، وهي نسبة تقارب ضعف نظيراتها في مصر ودول المغرب العربي.
أدت عائدات النفط إلى انتعاش مؤقت، سرعان ما تراجع عقب انفصال جنوب السودان في عام 2011، والذي خسر معه السودان معظم ثروته النفطية، تراجعت على إثر ذلك معدلات النمو وسجلت البلاد معدل نمو سلبي في السنة الأخيرة قبل سقوط النظام.
عبر سياسة الرقص على الحبال بين محاور المقاومة والاعتدال العربيين، استطاع البشير تأمين المساعدات الخليجية، من قطر والإمارات والسعودية، التي ساعدت على استمرار نظامه، ولأجل هذا الدعم أرسل الجنود السودانيين ليحاربوا في اليمن بدلاً من الجيوش الخليجية.
إلا أن ذلك الدعم الخليجي لم يكن كافيًا لحل الأزمة الاقتصادية في السودان، وتراكمت الديون لتبلغ نحو 60 مليار دولار، فانفجر الوضع الاقتصادي، وانفجر معه الغضب الشعبي المتراكم، وانهار نظام البشير.
حكومة الثورة تعيد إنتاج سياسات البشير
كان ارتفاع معدلات التضخم بصورة هائلة وغلاء الأسعار، ورفع الدعم عن الوقود، واختفاء السلع كالخبز والأدوية، السبب المباشر في تفجر غضب المواطنين المتراكم ضد نظام البشير القمعي.
أدت الثورة وتفاعلاتها للإطاحة بنظام الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي، واستبداله بتحالف بين الجيش السوداني وقوى الحرية والتغيير المعارضة، تمثل في مجلس سيادة يرأسه عبد الفتاح البرهان وحكومة مدنية يرأسها عبد الله حمدوك.
لكن الوضع الاقتصادي بعد الثورة لم يشهد تحسنًا، إذ واصل التضخم ارتفاعه على نحو متسارع إلى أن وصل معدله في آخر شهور 2019 إلى 58%. كما تفاقمت أزمة الخبز في 18 ولاية سودانية، واستمرت الطوابير الطويلة مصطفة أمام البنوك والمخابز ومحطات الوقود في جميع أنحاء السودان.
في المقابل أعلنت حكومة الثورة عن نيتها اتباع سياسات اقتصادية تقشفية، في استجابة منها لمقترحات صندوق النقد الدولي بهدف الاستفادة من الدعم المقدم منه. كالمعتاد دارت تلك المقترحات حول «تحرير سعر الصرف، وتعبئة الإيرادات (الخصخصة وزيادة الضرائب) والإلغاء التدريجي لدعم الوقود».
الأمر الذي تسبب في عودة المظاهرات مرة ثانية إلى الواجهة، احتجاجًا على استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية، وإعادة إنتاج ذات السياسات الاقتصادية التي انتهجها نظام البشير في سنواته الأخيرة، وثار الشعب ضدها، رافعين شعارات: «لن يحكمنا البنك الدولي…الخبز للجميع…سياسة الجوع تسقط بس».
أن تفشل قبل أن تبدأ
في الحقيقة شهد مسار الثورة السودانية انحرافات مبكرة تضع علامات استفهام حول مآلاتها.
فحكومة الثورة التي أتت بها قوى الحرية والتغيير رشح لرئاستها مسؤول أممي ودولي سابق. تبدو السيرة الذاتية لعبد الله حمدوك كموظف أممي جيدة بالفعل، فهو اقتصادي تحصل على درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر وشغل عدة مناصب متعلقة بالتنمية في القارة الأفريقية في الأمم المتحدة وبنك التنمية الأفريقي، لكن هذا بعينه هو المشكلة.
بدلاً من أن يتولى رئاسة أول حكومة بعد الثورة، والمنوط بها وضع السودان على طريق جديد يحقق أهداف الثائرين، شخصية ثورية من عمق الحراك السوداني، اختارت قوى الحرية والتغيير شخصية تكنوقراطية بامتياز.
انجرت قوى الحرية والتغيير منذ البداية إلى المفهوم النيوليبرالي حول الشخصية التكنوقراطية، التي تدير أمور البلاد الاقتصادية والسياسية بصورة تتماشى مع «الإرادة الدولية» المتجسدة في مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد والأمم المتحدة. وهو مفهوم، بضرورة الحال وبدراسة عشرات التجارب حول العالم، لا يتماشى مع ثورة تهدف لانتشال دولة في العالم الثالث من الفقر والقمع عبر تحقيق مشروع تنمية وطنية.
تبدو الثورة السودانية إذن وكأنما قد قامت فقط لإخراج السودان من صورة الدولة الآبقة المتمردة، وإعادتها إلى مسار يحوز رضى المؤسسات الدولية، والأمريكية بطبيعة الأمر. في هذا السياق يصبح مفهومًا مناداة حمدوك بفرض الوصاية الدولية على السودان، وتتراجع مطالب العدالة الاجتماعية أمام مطالب «تقليص عجز الموازنة» و«جذب الاستثمارات الأجنبية».
السقوط في بئر الخيانة
استكمالاً لمسلسل السقوط، قام عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، بخطوة صادمة تجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل. في الثالث من فبراير/شباط 2020، أعلن مكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية عن لقاء جمع بنيامين نتنياهو، بالبرهان في أوغندا حيث اتفقا على «بدء تعاون يقود نحو تطبيع العلاقات بين البلدين».
أصدر البرهان على إثر ذلك بيانًا اعترف فيه باللقاء، معتبرًا أن ذلك التطبيع فيه «تحقيق المصالح العليا للشعب السوداني». في ذات السياق أيضًا، ورغم تأكيده على كون العلاقات الخارجية من صميم مهام مجلس الوزراء، رحب حمدوك بالبيان الصادر عن البرهان، كما صرح الأخير بأن حمدوك كان على علم مسبق بترتيبات اللقاء.
في المقابل، لم يختلف كثيرًا موقف قوى الحرية والتغيير عن موقف حمدوك. لم يطالب قادة الحرية والتغيير برحيل البرهان أو إعادة هيكلة المجلس السيادي، اكتفوا بكلمات شجب لحفظ ماء الوجه مع التأكيد على رفض «أشكال التجاوز للوثيقة الدستورية والمهام والسلطات المنصوصة بوضوح فيها »، وكأن المشكلة محض إجراء بيروقراطي لم يتم بالصورة السليمة قانونيًا.
منذ البداية، كان عمى العداوة الأيديولوجية السبب. فقادة الحرية والتغيير الذين رفضوا عبد الرحمن بن عوف، الجنرال الذي أعلن الإطاحة بالبشير، لا لكونه عسكريًا بل لكونه منتميًا للتيار الإسلامي، هم ذاتهم الذين قبلوا بجنرالات مثل عبد الرحمن البرهان وحميدتي رغم ثبوت تورطهم في أعمال قمع ونهب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور وغيرها.
ازدادت الصورة فجاجة بعد أن غضت قوى الحرية والتغيير الطرف تمامًا عن مقتل وإصابة مئات المتظاهرين واغتصاب أكثر من سبعين حالة، في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، وقبلوا بأن يكونوا جزءًا من مجلس سيادي يرأسه القادة العسكريون الذين اعترفوا بتنفيذهم للمجزرة.
تمتع أعضاء المجلس العسكريون بالحصانة، واستمروا في استخدام ميليشيات المرتزقة في نهب ذهب السودان وثرواته، واستغلاله لزيادة ثرائهم ونفوذهم في البلاد، تحت غطاء من حكومة الحرية والتغيير المدنية ورئيسها خريج الجامعات البريطانية.
أضاعت قوى الحرية والتغيير فرصة ذهبية لبناء سودان حر حديث، ضحت بدماء الثوار واتفقت مع قاتليهم للانتقام من أشباح الماضي، وبدلاً من أن تفرض الثورة كلمتها وسياستها، وتحاسب كل مجرم، سلمت السودان لإرادة صندوق النقد وكلمة الجنجويد وسياسات التطبيع.
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/sudan-policies-revolution-government-bashir-worse/