نرمين سعيد
تسعى الولايات المتحدة من خلال تصرفاتها في بحر الصين الجنوبي بوصفها المنطقة المرشحة بقوة لأن تكون بؤرة صراع جديدة، إلى تشكيل تحدٍ للإرادة الصينية هناك؛ وليس أدل من ذلك من أن واشنطن وفي فترة لم تتعد الأسبوع، قامت بإرسال المدمرة الحربية “بينفولد” إلى جزر “سبراتلي” المتنازع عليها بين الصين والفلبين وفيتنام وماليزيا، قبل أن تبعدها البحرية الصينية لتعود واشنطن وترسلها مرة أخرى إلى جزر بارسيل.
لعب الولايات المتحدة على وتر خلق التحديات في منطقة بحر الصين الجنوبي قد لا يندرج تحت السعي لإشعال حرب في تلك المنطقة، بقدر ما هو محاولة لإلهاء وإشغال التنين الصيني بنزاعات تؤدي لاستنزافه في النهاية، وهو المفهوم من تحركات واشنطن في تايوان وفي بحر الصين الجنوبي الذي يحمل الآلة العسكرية الأمريكية إلى عقر دار الصينيين، وهو نفس النهج الذي اتبعته واشنطن عندما دفعت بالناتو إلى الحدود الروسية. ولفهم طبيعة الصراع في منطقة بحر الصين الجنوبي يمكننا رصد التحركات الأمريكية والصينية في المنطقة كالتالي:
أولًا: التحركات الأمريكية
– التلويح بورقة تايوان
رغم اعتراف الولايات المتحدة بمبدأ الصين الواحدة الذي كان أحد الانعكاسات الجيدة للدبلوماسية الإبداعية، إلا أن واشنطن في نفس الوقت لم تتخل عن إيمانها بحق تايوان في تقرير مصيرها، وعن ممارسة استراتيجية الغموض الاستراتيجي تجاه شبه الجزيرة، وهو ما يشكل عامل ضغط كبير بالنسبة للصين. وعلى جانب آخر، تحتفظ واشنطن بتعاون أمني وثيق مع شبه الجزيرة ومع دول أخرى ينشب بينها وبين بكين صراع على الأحقية في استغلال الجزر في بحر الصين الجنوبي، حيث إن الولايات المتحدة ترتبط باتفاقية دفاع مشترك مع الفلبين، التي تعد طرفًا أصيلًا في النزاع مع الصين وحليفًا قويًّا للولايات المتحدة في نفس الوقت، إيمانًا منها بأن بحر الصين الجنوبي ليس منطقة خالصة للصين وإنما مشاع بحري للدول الآسيوية في المنطقة، وهو ما تتوافق فيه معها دول أخرى مثل أستراليا والصين واليابان.
– تحالفا كواد و أوكوس:
تؤكد الخارجية الأمريكية أن ادعاءات الصين في بحر الصين الجنوبي لا تستند إلى أية أساسات قانونية، ومن هذا المنطلق تحاول واشنطن التحرك لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي هناك، عن طريق إقامة تحالفات مع دول مثل أستراليا واليابان، ولأن واشنطن على وعي بأن هذه الدول لا تريد التورط في مواجهة مباشرة مع بكين، فهي تسعى لإقامة علاقات أخرى مع دول المنطقة ولكنها علاقات مبنية على أساسات غير عسكرية بما فيها مشاركة الولايات المتحدة في اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، والتي تقدم لدول المنطقة بديل اقتصادي جيد يقلل من اعتماداتها على الصين كشريك اقتصادي أو تجاري.
ولكن لم تكتف واشنطن بتحالف كواد كجبهة عسكرية موحدة لإرهاب الصين، وعملت على التحشيد العسكري من خلال التحالف الأمني والاستراتيجي ” أوكوس” في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والذي يضم كل من أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكان مثار خلاف بين واشنطن وباريس بعد اختطاف صفقة غواصاتها النووية مع أستراليا. وربما يأتي تكثيف التحالفات الأمنية في المنطقة، من منطلق أن البيت الأبيض يدرك أن الصين لا يمكن إخضاعها أو إجبارها على سياسة أكثر اعتدالًا في منطقة نفوذ لها، وبالتالي فإن واشنطن لجأت للتحشيد العسكري كوسيلة ضغط على بكين وإفهامها أن الولايات المتحدة تمتلك حلفاء أقوياء في المنطقة.
– التحرشات العسكرية
على مدى سنوات، عمدت الولايات المتحدة لإثارة مخاوف بكين واستفزازها واختبار مستويات صبرها، وذلك عن طريق اختراق المجالات الجوبة فوق جزرها الصناعية في بحر الصين، بجانب إرسال المدمرات البحرية التي تمت الإشارة لها سلفًا.
ثانيًا: التحركات الصينية
– استصلاح بكين للأراضي:
حسب التحكيم الدولي، لم تستطع الصين إثبات أن الجزر الأرخبيلية المنتشرة في بحر الصين الجنوبي تخضع لها أو لسيادتها، كون العديد من الدول الأخرى المتشاطئة مثل (الفلبين – فيتنام – ماليزيا – بروناي) تدعي الحق أيضًا وهي دول متحالفة بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة، ونذكر هنا المناورات العسكرية الضخمة التي أجرتها أمريكا مع الفلبين مؤخًرا. حيث تدفع واشنطن بأن هذه المنطقة هي مياه دولية ولا تخضع لسلطة الصين، وعليه فإن منطقة الإندوباسيفيك الواقعة بين المحيطين الهادئ والهندي، هي منطقة تشهد تنافسًا وصراعاً دوليًا دون أن تكون خاضعة لأحد الأطراف بشكل خاص، خصوصًا أنها كمنطقة تمثل معبرًا للتجارة الدولية بما يساوي 5 تريليونات دولار سنويًا.
تعتمد الصين على ادعاءاتها في الأحقية بالجزر، على ما يعرف بخط القطاعات التسعة وهو الذي يشير إلى خطوط الترسيم غير الدقيقة والمستخدمة من قبل الصين وكذلك تايوان، لإقرار أحقيتهما بالجزء الأكبر من بحر الصين الجنوبي، بحيث تشمل المنطقة المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي على جزر باراسيل وجزر سبارتلي والعديد من المناطق الأخرى، بما في ذلك جزيرة براتاس وجروف فيريكر وجرف ماكليسفيلد ومياه سكاربورو الضحلة.
واستخدمت الصين خط القطاعات التسعة، لإظهار الحد الأقصى من مطالباتها دون الإشارة إلى كيفية ضم القطاعات في حال وصلها بخط ممتد وكيف سيؤثر ذلك على مساحة المنطقة التي تطالب بها الصين. وبالتالي احتجت كل من الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وإندونيسيا رسميًا على استخدام مثل هذا الخط. ومباشرة بعد أن قدمت الصين خريطةً إلى الأمم المتحدة تتضمن المطالبة الإقليمية بخط القطاعات التسعة في بحر الصين الجنوبي في مايو 2009، قدمت الفلبين احتجاجًا دبلوماسيًا ضد الصين لمطالبتها بكامل بحر الصين الجنوبي بشكل غير قانوني. كما قدمت فيتنام وماليزيا احتجاجهما المشترك بعد يوم واحد من تقديم الصين خريطتها إلى الأمم المتحدة.
ومن هنا فقد لجأت الصين لوسيلة أخرى لإثبات أحقيتها عن طريق فرض سياسة الأمر الواقع، وذلك من خلال استصلاح الأراضي المعروفة باسم “سور الرمال العظيم”. كما أرسلت أنظمة صواريخ مضادة للسفن والطائرات ومعدات تشويش ومقاتلات إلى الجزر، ما يعد خطوة شديدة العدوانية تهدد جميع الدول المجاورة فيما يعرف بعسكرة الأراضي المستصلحة.
حيث إن الجزر الصناعية التي تم عسكرتها بالكامل، هي من بين سبع جزر شيدتها الصين في السنوات الماضية من خلال تكديس الرمال والخرسانة فوق الشعاب المرجانية، ما تسبب في أضرار جسيمة للبيئة البحرية.
وتوثيقًا للممارسات الصينية في استصلاح الأراضي، نشر المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية صور عديدة توثق بالتواريخ أعمال التوسع وإنشاء البنى التحتية التي تنفذها بكين بشكل متسارع على الشواطئ المحاذية لشُعب “ميستشيف” المرجانية، والعديد من شواطئ الشُعب المرجانية الأخرى في جزر سبارتلي.
– جزر سليمان:
ردًا على التحركات الأمنية للولايات المتحدة في منطقة الإندوباسيفيك عن طريق إنشاء تحالفات أمنية وإجراء مناورات عسكرية، أقدمت الصين على توقيع اتفاقية أمنية مع مجموعة جزر أخبيلية تعرف بجزر سليمان تحت مسمى إعلان شنغهاي، مما أثار مخاوف دولية من أن الصين باتت قاب قوسين أو أدنى من إعلان السيطرة الفعلية على بحر الصين الجنوبي.
واتساقًا مع هذه الخطوة، بدأت الصين في إرسال طائراتها المقاتلة ” جاي 20″ وهي الأكثر تقدمًا لديها، للقيام بدوريات في بحر الصين الشرقي، وادعاء أن ذلك يمثل حماية أفضل للمجال الجوي الصيني. وقد أثارت بكين بذلك خلافًا مفتوحًا مع واشنطن – كانبيرا وولنجتون.
حيث شهدت الأزمة تطورًا بعد أن اعتبرت واشنطن توقيع هذه الدولة المحيطية اتفاقية أمنية، يلبي الطموحات العسكرية لبكين؛ خصوصًا أن أسترالياً تقع على بعد 1500 كيلومتر جنوب جزر سليمان. وذكرت مصادر أنه تم تسريب نسخة من الاتفاقية الأمنية أثارت قلق أستراليا والولايات المتحدة، ولا يفهم كيف تم تسريب بنود اتفاقية في بلد شمولي مثل الصين، بعبارة أخرى من المفهوم أن بكين قد تعمدت تسريب الاتفاقية لإثارة مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها، حيث تضمنت إشارات إلى جواز نشر قوات من الجيش والشرطة والبحرية الصينية في الأرخبيل. وهو ما اجتذب رد فعل من الولايات المتحدة وأستراليا مدفوعتين بمخاوفهما الأمنية، فقد قررت واشنطن إرسال وفد دبلوماسي رفيع المستوى في جولة في المحيط الهادي، على أن تنال جزر سليمان الأولوية لمواجهة ما تم وصفه بـ”طموحات بكين”. وأرسلت أستراليا وزير المحيط الهادي إلى هونيارا، عاصمة الجزر، لعقد اجتماع مع رئيس وزرائها لبحث ما وراء توقيع هذه الاتفاقية الأمنية.
والسؤال المطروح في هذا الإطار، هو ما الذي يدفع قوة عسكرية بحجم الصين لعقد اتفاقية أمنية مع دولة لم يسمع بها الأغلبية، وللإجابة على التساؤل نسلط الضوء على عدد من النقاط:
- تعاملت بكين مع الأزمة الأوكرانية بكثير من الحكمة ولم تعلن عن أي موقف مضاد لموسكو، حتى تضمن إبقاء التحالف على حاله إذا اضطرت هي إلى فعل مشابه.
- بقدر من الملاحظة، وعت بكين إلى أن موسكو تواجه الكثير من التحديات في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وخفف من وطأتها تعاونها مع حلفاء لها هناك مثل بيلاروسيا والشيشان، ومن ثم فإن الصين تعمد إلى نفس الاستراتيجية في بناء تحالفات عسكرية وأمنية لها في المناطق المتنازع عليها في بحرها الجنوبي.
- يعتبر إعلان شنغهاي بين الصين وجزر سليمان، اتفاقًا أمنيًا بالأساس ولكنه تفاهم سياسي واقتصادي في نفس الوقت، وفي هذا الإطار لم تفلح تأكيدات رئيس الوزراء سوجافاري بأن الاتفاقية “لن تؤثر سلبًا أو تقوض السلام والوئام في المنطقة”، حيث إن سوجافاري بات بإمكانه “الاعتماد” على الصين في حال اندلعت احتجاجات شعبية ضده، مع الأخذ بالحسبان أن جزر سليمان قطعت علاقاتها مع تايوان في عام 2019، وفي طرح آخر تحاول الصين بناء شراكات اقتصادية في حال تعرض مشروع طريق الحرير لأي تراجع.
– فرض منطقة الدفاع الجوي:
تدرك الصين تمامًا، أن من حقها فرض منطقة تحديد الدفاع الجوي في الأراضي الخاضعة لسيادتها متى ما شاءت ولذلك فهي تتوسع في استصلاح الأراضي، وعلى الرغم من أن الإعلان الرسمي عن منطقة تحديد الدفاع الجوي أمر أقل أهمية من الوضع الراهن، فإن الصين تحتفظ بهذه الورقة في جعبتها لاستخدامها في حالة تصاعد التوتر في المنطقة، أو عند استشعارها أي خطر أو تهديد لسيادتها، بعبارة أخرى فإن الصين تلقي بكرتها في الجهة المقابلة، معلقة إعلان منطقة تحديد الدفاع الجوي من قبل الصين على سلوك الدول الأخرى التي تنازعها السيادة في بحر جنوب الصين، وأنها تحتفظ بهذه الورقة للإمعان في تهديد تلك الدول.
استنتاج:
- بناء على تنامي القوة العسكرية للصين في بحرها الجنوبي، فقد تتفق الهند وفيتنام وسنغافورة على زيادة وتيرة التسلح كما تميل اليابان إلى أن تفعل الشيء نفسه. وفي مقابل ذلك، تواصل الصين دعم قواتها البحرية بصورة مستمرة عن طريق إنتاج قطع بحرية أكثر تطورًا بأعداد ضخمة، حيث أن قوة الصين البحرية لا تقتصر على الأسطول البحري التابع للجيش الصيني، وإنما تشمل أيضًا القوات البحرية التابعة لحرس السواحل، والقطع البحرية التابعة لما يطلق عليه “القوات المسلحة الشعبية”.
- نتيجة لصراع التسلح المحموم في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ فهناك خطر محدق يتعلق بوقوع حادث يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية بين الصين والولايات المتحدة. خصوصًا مع وجود قانون صادر عن المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني يسمح لخفر السواحل بـ “إطلاق النار على القوارب الأجنبية”.
- ولكن من ناحية أخرى، فإن هناك تكاليف باهظة ستضطر الصين إلى تحملها إذا ما تبنت سياسات خارجية معادية في النزاعات الإقليمية مع جيرانها أو تجاه الولايات المتحدة. لأنه من شأن العداء الواضح أن يضر بعقود من الإصلاحات الاقتصادية الناجحة.
- نتيجة لاختلاف بنية الدول في منطقة بحر الصين الجنوبي واختلاف دينامياتها وتحركاتها كذلك بالمقارنة مع الولايات المتحدة، فإن المنطقة دون شك مرشحة لمزيد من التوتر خصوصًا أن الصين تتراجع خطوات، فهي لا تزال نظامًا سياسيًا جامدًا بقيادة الحزب الشيوعي الصيني الذي تستند شرعيته إلى أيديولوجية قديمة وتواجه معضلة تكيف ضخمة.
- لأن الصين على وعي بذلك وتدرك رغبة واشنطن في استعدائها على دول المنطقة عن طريق خلق تحديات جيوسياسة لها، حاولت خلق نوع من الشراكات والتعاون مع الدول بما تقتضيه مصالحها. بالتحديد لأن بكين تعلم من ملاحظتها للتحركات العسكرية الخارجية لواشنطن، أنه من المستبعد أن تتحرك أمريكا عسكريًا في الفناء الخلفي في الصين لحسابات كثيرة منعتها أيضًا عن التدخل في سوريا وأوكرانيا على سبيل المثال.
.
رابط المصدر: