“خيرٌ للنساء أن لا يرين الرجال ولا يرونهن”.
فاطمة الزهراء، عليها السلام
هكذا أجابت الصديقة الطاهرة على سؤال أمير المؤمنين، وكان بين من سمع سؤال رسول الله، صلى الله عليه وآله، لجمع من الاصحاب: “أخبروني أييّ شيء خيرٌ للنساء”، وهكذا كشفت عن حقيقة غاية في العمق، ذات مدخلية في مكنونات نفس الانسان، هذا من الناحية العلمية، أما من الناحية الثقافية، فقد رسمت خطاً عريضاً سامياً لما ينبغي أن تكون عليه المرأة في حياتها، وهو الحد الأعلى والأمثل للعفّة والحجاب والستر.
مرحلة التأسيس
كما القرآن الكريم في تأسيسه للنظم والقواعد والاحكام؛ تؤسس الزهراء لمفهوم العفّة والحجاب للمرأة كإطار عام تحوم فيه القدرات المختلفة في الاستيعاب والتطبيق على مر الاجيال بما يضمن السلامة الكاملة لشخصية الأنثى منذ طفولتها ومراهقتها، ومروراً بشبابها وحيويتها، وحتى مرحلة الشيخوخة و الى آخر لحظة في حياتها.
ففي القرآن الكريم سقوف عالية جداً من القيم الدينية والاخلاقية، مثل؛ التقوى، والزهد، والتواضع، والعدل، بلغ مدياتها اشخاص مثل؛ رسول الله، خاتم الانبياء، وأمير المؤمنين، ومن قبلهم أنبياء مرسلين و أولياء صالحين، تبقى المراقي الأخرى لمن يتنافس على البر والتقوى في مسيرة التكامل باذلاً جهده لتجسيد تلكم القيم، ولعل أمير المؤمنين كان مدركاً لحقيقة التفاوت على مستويات النفس البشرية عندما قال في رسالته الشهيرة الى عثمان بن حُنيف: “ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد”.
ولعل هذا يُعد فرصة عظيمة لأن تلتمس المرأة مكانتها وشخصيتها في المجتمع من خلال اختبار قدراتها في فهم واستيعاب هذا المنهج المتكامل وهي تمارس أعمال مختلفة في الوقت الحاضر خارج حدود البيت، وتكون على تماس مباشر مع رجال في محيط العمل، او شباب (زملاء) في محيط الدراسة الجامعية، الى جانب وجود المرأة في الاسواق، والمواصلات، والاماكن العامة.
وهل يخفى على الزهراء، سلام الله عليها، ما سيؤول اليه الزمن من تطورات في حياة الانسان، وتحديداً المرأة حتى تعِد معيار الخير للمرأة أن تكون حبيسة دارها؟ ثم أمامنا كتاب الله المجيد وهو يوصي المرأة بإجراءات تتخذها للتعفف عن الرجال الاجانب في سورة النور، ومنها قوله تعالى: ((وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ))، (الآية:31)، بما نفهم منه وجود هذه الحركة في الشارع او السوق والاماكن العامة.
إن الصديقة الطاهرة تساهم بشكل مباشر اليوم في رفع العناء عمّن يخوض في مسألة الحجاب والعفّة والنظر وغيرها من المفاهيم المتعلقة بالمرأة والفتاة، ويذهب يميناً وشمالاً في تبرير الموديل للحجاب، أو في المكابرة بعدم الانزلاق في متاهات الإثارة والإغواء، أو في إلقاء الكرة في ملعب الرجال وفرض اجراءات حظر النظر والتأثّر! وتقدم ضمانات حقيقية لعدم حدوث مشاكل وأزمات للجميع من خلال مبدأ عدم الاختلاط بين المرأة والرجل المنتج للإثارات والفتن التي تحدث عنها القرآن الكريم بشكل واضح وصريح عن طريقة تحدّث المرأة مع الرجل الاجنبي، في قوله تعالى: { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، (سورة الاحزاب، الآية:32).
وكما تعلم الزهراء بما سيؤول اليه الزمان مع المرأة فانها “تعلم أن ملايين الفضائح والجرائم والمآسي تأتي عن طريق السفور والتبذّل والخلاعة والاختلاط المُسمّى في زماننا هذا بالحرية والتقدم”، (فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد- السيد كاظم القزويني)، بما يؤكد لنا حرص الصديقة الزهراء على بنات جنسها، لاسيما من هُنّ في سنّها في مرحلة ما قبل العشرين من العمر، بأن يأخذن بزمام الرغبات والغرائز المودعة فيهنّ بحكمة إلهية، و يوظفنها لبناء الأسرة وإنجاح العلاقة الزوجية، لا أن تكون رهن الإشارة والإثارة فتصبح من النادمين، إن عاجلاً أو آجلا.
حُرمة البيت
بحث العلماء والمؤرخون كثيراً في علّة وجود الصديقة الزهراء خلف باب دارها بوجود أمير المؤمنين فيما كانت اصوات الانقلابيين تتعالى في الخارج بدعوته للخروج والبيعة في تلك الحادثة المعروفة بما حملت لنا من صور مريعة وأفعال عدوانية.
لهذا الوقوف –الوقفة- التاريخية خلف الباب دلالات تتصل بالرسالة، و بشخص رسول الله، صلى الله عليه وآله، لتكشف الزهراء عن خيانة العهد من أفراد هذه الامة، بعد أن أكثر عليهم نبيهم في غير مرة قوله بـ “أني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، وهو الحديث المتفق عليه في معظم كتب المسلمين.
و لتكون الزهراء الدليل القاطع على ذلك الجحود والنكول عندما يصطف وقوفها خلف الباب الى جانب الكم الوفير من التوصيات النبوية بحق فاطمة، وفي مرات عدّة، بأنها “بضعة منّي، فمن آذاها فقد آذاني”، -يقول البخاري- و “يا فاطمة؛ إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك”، و أحاديث تنقلها كتب الروايات والسيرة، فانتهاك حرمة دار فاطمة، يعني انتهاكاً لحرمة الزهراء، وحرمة رسول الله، ومعصية سافرة لأوامر الله –تعالى-، ومن ثمّ، حرمة كل القيم والتعاليم السماوية التي نزلت الى البشرية منذ أول الخليقة وحتى لحظة الاعتداء الآثم، وستبقى آثارها الى يوم القيامة.
إن من اقتحم الدار أضاف الى جريمته بحق أهل بيت رسول الله، جريمة مستدامة بحق جميع بنات حواء الى يوم القيامة عندما يتم استسهال اقتحام الدور وضرب النساء واعتقالهنّ وإلحاق مختلف اشكال الأذى النفسي والبدني بهنّ، كما فعل النظام الأموي بأسرة الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء، ثم كرر العمل النظام العباسي مع أبناء الامام الحسن الثائرين على الظلم والطغيان العباسي، وقد بينت كتب التاريخ كيف أنهم سيروا السبايا من نساء محمد و ابراهيم ذو النفس الزكية مع حمل رؤوس الشهداء في الثورة المعروفة.
و يبدو أن الطغاة على مر التاريخ، والى اليوم، تعلموا الدرس جيداً وطبقوا ما فعله نظرائهم مع الاحرار والمصلحين والطامحين لبناء مجتمع متماسك تكون المرأة القوية والمصونة أهم دعائمه، وهذا ما يتعارض مع منهج الحكم الديكتاتوري القائم على تفكيك الأسرة وتمزيق المجتمع وانتزاع كل اشكال القوة منه.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ahlalbayt/37110