د. علي أسعد وطفة
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير—- وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي —- بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
أمير البلاغة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
كانت النفس الإنسانية، وما زالت شغل الفلاسفة الشاغل، وهاجس الحكماء وغاية العقلاء. وما زال الإنسان، منذ بدء التكوين، يتوغل في متاهات هذه النفس، باحثا في معانيها، مسحورا بإعجازها، مبهورا بما أودعتها الطبيعة فيها من أسرار كونية، ولا ريب في ذلك، فأسرار الحياة كامنة في أسرار النفس الإنسانية متجسدة فيها وما أعظمها إذ يتجسد مبدؤها في القول العربي المشهور: وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر!.
دعا سقراط إلى معرفة النفس الإنسانية ووجه النداء إلى الإنسان بعبارته المشهورة قائلا له: أيها الإنسان اعرف نفسك حيث كانت معرفة النفس الإنسانية بالنسبة إليه أشرف المعارف وأطهرها. ثم جاء أفلاطون فنظر إليها في عليائها عارفة طوافة في عالم المثل بطبيعتها النورانية، تستمد شعاع ضيائها من مثل الخير الأعلى الأسمى الأعظم غاية الوجود ومنتهى الغايات. وهي عند أرسطو أرقى مراتب الوجود الإنساني وفيها جانب نوراني متجرد عاقل، وهي فوق ذلك كله صورة النفس الإنسانية وغايتها.
وقد سطر فلاسفة العرب أجمل المواقف من النفس الإنسانية، إذ تأملوها وقلبوا في معانيها، وهتكوا حجبها، وأفاضوا في الحديث عن أسرارها، ووصفوا سحر تجلياتها، وتبصّروا في جوانب عظمتها، تيمنا بالقول العظيم: وفي أنفسكم أفلا تبصرون، فجاءت فلسفة التصوف العربي تتويجا لرؤى عربية أصيله رائعة في ماهية النفس الإنسانية وفي صروفها، وها هو الشيخ الرئيس أبو علي الحسين ابن سينا يضفي عليها مظاهر الخلود والتجرد فهي التي هبطت الينا من عالم الخلود وهي تعود بعد الموت صافية نقيه إلى عالم نوراني لا يعرف غير الصفاء والنقاء، يقول في عينيته وهذه أبيات منها هاتكا بعض أسرار النفس:
هبطت إليك من المحل الأرفــــــع…… ورقـــــاء ذات تعــــــزز وتمنـع
محجوبة عن كل مقلة عـــــــــارف …….وهي التي سفرت ولم تتبرقــــع
وصلت على كره إليك وربـــــــما………..كرهت فراقك وهي ذات تفجع
حتى إذا قرب المسير من الـــــحمى……. ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت……….ما ليس يدرك بالعيون الهــجـع
وبدت تغرد فوق ذروة شاهــــــــق………….والعلم يرفع كل من لم يرفــــع
ويفرد الفلاسفة اللاحقون فصولا لمباحث النفس، فمنهم من أدركها في مظهرها، ومنهم من أدركها في جوهرها، فنسبوا إليها جوهر وجود روحي متفرد مجانس للقوى الكونية النورانية العليا، وإذا كان منهم من يقول بفنائها، فمنهم من يرفع شعار خلودها وغائيتها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد بصورة خاصة إلى شيلنغ وهيجل وشوبنهور وكاروس وهارتمان بوصفهم أبرز المفكرين الذين تناولوا الجوانب الغامضة للنفس الإنسانية بالدراسة والتأمل والتحليل.
ثم جاء علم النفس، المنفلت من قبضة الفلسفة في نهاية القرن التاسع عشر، ليبحث في مظاهر النفس الإنسانية، وفي الصيغة الموضوعية لحركة وجودها وكينونتها. فاتجه إلى دراسة المظاهر الموضوعية القابلة للقياس والملاحظة من تفكير وتذكر وانتباه وحدوس وقدرات عقلية وملكات فكرية وأخذ لنفسه تعريفا هو علم نفس الشعور. وتجلى هذا الاتجاه في سيكولوجيا وولف Wolf ومولر Muller وبروكا Broca وفكنر Fechner وفوندت Wundt الذي وضع كتابه المشهور مبادئ علم النفس الفيزيولوجي.
ولم يتوقف علم النفس عند حدود المظاهر الخارجية القابلة للملاحظة في دراسة النفس الإنسانية، حيث عكف فريق منهم على دراسة بعض الجوانب الخفيّة للنفس الإنسانية التي لا تتبدى بصورة واضحة قابلة للملاحظة وبدؤوا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر يكرسون جهودهم في البحث عن دلالات القوى اللاشعورية ومعان التي تحرك نوازع النفس الإنسانية وتحكم حركة وجودها.
ويمكن الاشارة في هذا الصدد إلى كل من بيير جانيه وبينيه وريبو وشاركو وبرنهايم وجميعم كان له فضل التمهيد عمليا لظهور سيكولوجيا الأعماق، أو علم نفس اللاشعور الذي تجلى في أنقى صوره وفي أزكى تجلياته في علم النفس الفرويدي الذي يرسم لنا خطوط الحياة النفسية ومجاهلها في لوحات علمية بالغة الأصالة والتفرد.
يمايز فرويد بين جانبين أساسيين في النفس الإنسانية هما الشعور واللاشعور ويعطي لمنطقة اللاشعور أهمية تفوق إلى حد كبير هذه الأهمية التي ينطوي عليها الجانب الشعوري. وإذا كان للشعور اتساع البحيرة فإن الجانب اللاشعوري من النفس الإنسانية ينطوي على اتساع المحيط. ومن أجل التمييز بين أهمية كل جانب من هذين الجانبين يسوق لنا مثالا يشبه فيه الحياة النفسية للإنسان بجبل من الجليد يطفو رأسه على سطح المحيط بينما يغوص بكلكله وشموله في أعماق الماء ويشير فرويد إلى النتوء الأصغر البارز كممثل لمنطقة الشعور في النفس الإنسانية بينما يمثل الكلكل والسواد الأعظم من الجبل الجليدي الجانب اللاشعوري في الحياة النفسية للإنسان. وذلك كله يشير إلى الأهمية الساحقة التي ينطوي عليها الجانب اللاشعوري عند فرويد.
لقد شكلت مقولة فرويد في أولوية الجانب اللاشعوري وأهميته المطلقة ثورة كوبرنيكية في علم النفس بصورة عامة واستحقت نظريته بحق تسمية علم نفس الأعماق. ولم يقف فرويد عند حدود القول بعظمة هذا الجانب وأهميته بل نظر إليه بوصفه مكمن الفعل الإنساني وينبوع السلوك عند الأفراد وملهم النشاط الوجودي لديهم. ففي هذا الجانب اللاشعوري تكمن أسرار النفس الإنسانية وفيه تتجلى الحقيقة الوجودية السيكولوجية للإنسان.
ورغم الجهود الرائعة التي بذلها علم نفس الأعماق الفرويدي وغيره من المفكرين عبر التاريخ فإن خفايا النفس الإنسانية ما زالت تستقطب كل جهد وتستنفذ كل طاقة علمية في كل ميدان من ميادين علم النفس وفي كل منحى من مناحيه. فالنفس الإنسانية رائعة الطبيعة وإعجازها وهي تنطوي على فيض من أسرار كونيه ستبقى تحديا أبديا للفكر الإنساني. ومع ذلك كله فإن علم نفس الأعماق بمدارسه المختلفة استطاع أن يقدم للإنسانية فيضا من هذه الأسرار وما زال يشد الطلب في مسار اكتناه قانونية الوجود النفسي ورصد مساراته الوجودية.
واسمحوا لي أن أردد في ختام هذه المقالة المتواضعة مع الإمام علي كرم الله وجهه هذه الأبيات التي يختزل فيها قول العلماء والشعراء في مفهوم النفس الإنسانية إذ يقول، وفي قوله بلاغة لا يماثلها في القول فصاحة وبيان، وفلسفة تفيض بالمعاني والدلالات في أرقى مستوياتها وأنبل حالاتها :
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ —– وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير—- وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي —– بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
وَما حاجَةٌ لَكَ مِن خارِجٍ—- وَفِكرُكَ فيكَ وَما تُصدِرُ
وسلام الله عليكم.
رابط المصدر: