تصاعد التوتر الأمني والسياسي في مدينة كركوك شمال العراق، ذات التنوع القومي والديني، بعد مقتل 4 مواطنين كرد وإصابة 16 آخرين، في 2 سبتمبر 2023، إثر خروجهم في مظاهرة مضادة لاعتصام عربي-تركماني كان قد قطع الطريق الرابط بين كركوك وأربيل عاصمة إقليم كردستان على مدى أسبوع.
كان الاعتصام العربي-التركماني أمام مبنى مقر قيادة العمليات المشتركة، المسؤولة عن أمن المنطقة، احتجاجاً على أمر رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، بإعادة هذا المبنى إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (المعروف باسم “البارتي”) الذي يرأس حكومة الإقليم، وأُخرج منه في 2017 بفعل دخول القوات العسكرية العراقية، بعد فشل استفتاء الاستقلال الذي نظَّمه الحزب الديمقراطي الكردستاني ولقي معارضة إقليمية ودولية ومحلية واسعة.
الخلفية والسياق
يُمكن اعتبار أحداث كركوك الأخيرة انعكاساً محليّاً مصغراً للخلافات العميقة التي تعصف بائتلاف “إدارة الدولة”، الذي شكّل حكومة السوداني ، ويضم الكرد والقوى الشيعية والقوى السنية. تشكل ائتلاف “إدارة الدولة” في 25 سبتمبر 2022 بعد انسحاب التيار الصدري من مجلس النواب، إذ كان على “الإطار التنسيقي” (وهو تحالف حزبي غير رسمي يضّم القوى والفصائل الشيعية الداعمة لحكومة السوداني)، إقناع القوى السنية والكردية بالتحالف معه، وبالذات الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي بإمكانه حل عقدة انتخاب رئيس الجمهورية من طريق تسهيل عملية الحصول على أصوات ثلثي أعضاء البرلمان، والذي بدوره يسهل اختيار رئيس مجلس الوزراء.
هدفت الصفقة التي عُقِدت مع البارتي مقابل موافقته على الدخول في ائتلاف “إدارة الدولة”، فضلاً عن تجاوز عقبة انتخاب رئيس الجمهورية، إمرار الميزانية وحصة إقليم كردستان منها، وقانون النفط والغاز، وشملت أيضاً قضية تسليم المقرات في كركوك التي برزت إلى العلن مؤخراً. لم تكن هذه الصفقة شفافة، ولم تُتداول إعلامياً حينها، لكن اُنتُبِهَ إليها عند تسليم المقرات.
ما كانت الاحتجاجات التي اندلعت في كركوك ضد تسليم المقرات عفويةً تماماً، إذ تعكس الصراعات الموجودة داخل “الإطار التنسيقي” الشيعي خصوصاً، وائتلاف “إدارة الدولة” عموماً. دعمت الفصائل المسلحة الشيعية (عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله) الاعتصام العربي-التركماني من خلال تشكيل نقاط سيطرة لحماية المعتصمين والمتظاهرين وتوفير الماء والغذاء لهم في مناطق شمال كركوك التي يقطنها الكرد، تحديداً في منطقة شوراو ، وبالقرب من منطقة رحيماوة، الواقعتين على الخط السريع الذي يصل بغداد بأربيل عبر كركوك.
عند قطع المعتصمين العرب والتركمان للطريق على مدى أسبوع كامل اضطُرّت جميع السيارات الكبيرة والصغيرة القادمة من مختلف أنحاء العراق إلى تحويل مسارها، وأثَّر ذلك في الحياة اليومية للأهالي الكرد الذين واجهوا صعوبةً في التنقل.
فضلاً عن ذلك، فإنّ ارتداء المعتصمين العرب للأزياء التقليدية، خصوصاً تلك التي ترمز للقومية العربية، أثار حفيظة السكان الكرد في تلك المنطقة، وأسهم في دفع بعضهم إلى أن يخرجوا في مظاهرات باتجاه الاعتصام ورفع شعارات قومية كردية، مما صعّد التوتر وقاد إلى صدامات دامية. وبحسب شهود عيان من المحتجين الكرد، فإن إطلاق النار جاء من اتجاه يقف فيه عناصر من “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله” وهم يشهرون أسلحتهم. ولولا تدخل هذه الفصائل المسلحة، وقدرتها على توفير التسهيلات للمعتصمين وتأمين المكان لهم، ما كان من الممكن تنظيم مثل هذا الاعتصام.
تُشير مساهمة الفصائل المسلحة القوية في هذه الاحتجاجات بمدينة كركوك إلى وجود خلاف في داخل “الإطار التنسيقي” نفسه. وما ساهم في اتخاذ الفصائل المسلحة هذا الموقف الذي أحرج حكومة السوداني، وأظهر “الإطار التنسيقي” في وضع عدم القادر على الالتزام بتعهداته، هو موقفها المناوئ للحزب الديمقراطي الكردستاني؛ فعلى مدى سنوات كانت الفصائل الشيعية المسلحة تنتقد أربيل وتتهمها بالتعاون مع إسرائيل، فيما عملت ماكناتها الدعائية على مهاجمة عائلة البرزاني ، كما أنّ الفصائل معادية لفكرة استقلال الإقليم وترفض عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني لكركوك والمناطق “المتنازع عليها”. وفي المقابل، فإنّ أحد مطالب الحزب هو خروج هذه الفصائل المسلحة من كركوك.
أزمة كركوك بين التهدئة والتصعيد
اتجهت الأوضاع الداخلية في كركوك إلى التهدئة بعد قرار المحكمة الاتحادية في اليوم الذي تلى سقوط ضحايا المظاهرات، بإيقاف تنفيذ قرار رئيس الوزراء بتسليم مقر العمليات المشتركة، للحزب الديمقراطي الكردستاني، وقد دعمت الأطراف المتشددة في “الاطار التنسيقي” هذا القرار، رغم أنّه لم يحظ بموافقة جميع الأطراف، إذ أصر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بيان له على ضرورة إعادة المقر التزاماً باتفاق الائتلاف الحكومي.
من المتوقع أن يُجَمَّد الصراع، لمدة 4 أشهر على الأقل، بانتظار معرفة نتائج انتخابات مجالس المحافظات، التي يُفترض أن تجري في 18 ديسمبر المقبل، إذ شدّد ائتلاف “إدارة الدولة” على إجرائها في كركوك أيضاً. وبذا ستعرف كل قوة وزنها الحقيقي في كركوك، وسيُتعَاطى مع الموضوع في ضوء نتائج هذه الانتخابات.
ما يُعقِّد الصراع الحالي في كركوك هو غياب موقف كردي موحد. فبعد سنة 2003 ، توّحدت القوى الكردية في مطالبها تجاه بغداد، وبشكل خاص التأكيد على الفدرالية، لكن الخلافات بين الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني (المعروف باسم “يكتي”)، على النفوذ والموارد، أخذت تنمو شيئاً فشيئاً.
بعد انهيار الجيش العراقي في الموصل ومناطق عديدة سنة 2014، سيطرت البيشمركة وقوات الأمن الكردية على كركوك والمناطق المتنازع عليها بشكل كامل، وأصبح الإقليم يتحكم بجميع مفاصل المحافظة، فازداد نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني. وحين أقامت حكومة الإقليم استفتاءها حول انشاء دولة كردية مستقلة في 2017، دخلت القوات الاتحادية وفصائل الحشد الشعبي كركوك لاستعادتها وإبعاد البيشمركة إلى حدود الإقليم، وإخراج الحزب الديمقراطي الكردستاني من مقراته.
قبل 2017 كان الاتحاد الوطني الكردستاني هو المسيطر داخل كركوك ، حيث يتمتع بنفوذ وشعبية في المحافظة، ومنصب المحافظ من حصته باتفاق مع غريمه الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يترك المناصب الاتحادية ليحظى بالمناصب الأساسية داخل حكومة الإقليم، وهو ما جعله أقوى في كردستان، بينما ضعف الأول، على نحوٍ انعكس على وضع كركوك نفسها.
ساعد الاتحاد الوطني الكردستاني القوات الاتحادية العراقية على الدخول إلى كركوك ولم يشارك في القتال ضدها إلى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني، فَعَدَّ الأخير ذلك خيانةً للشعب الكردي، وأصبحت ماكنته الإعلامية تعمل على إشاعة ذلك، وتعمّقت الخلافات أكثر.
صوَّت مجلس النواب العراقي على إقالة المحافظ الكردي نجم الدين كريم، عضو المكتب السياسي في الاتحاد الوطني الكردستاني، لأنه دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني في الاستفتاء، وكُّلِف نائبه العربي راكان الجبوري بتولي منصب المحافظ وكالةً، إلى حين تسمية محافظ كردي جديد يُفترض أن يكون من الاتحاد الوطني الكردستاني ويوافق عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولكن بعد مضي 6 سنوات على الحدث لم يتفق الطرفان على تسمية محافظ، ما يُشير إلى شدة الخلافات بينهما.
ويبدو أن المزاج الشعبي الكردي في كركوك بات أقل حزبيةً، إذ خسر الاتحاد الوطني الكردستاني جزءاً كبيراً من جمهوره، وظهر هذا عبر تراجع تمثيله البرلماني في كركوك حيث انخفضت مقاعده بمعدل النصف؛ فمن أصل 6 مقاعد في مجلس النواب كان يحصل عليها عادةً في كركوك، خسر مقعدين لصالح الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومقعد واحد لصالح حركة “الجيل الجديد” الكردية الجديدة والمعارضة لحكومة الإقليم، بسبب ضعفه وصراعاته الداخلية.
وعلى رغم تراجع الاتحاد الوطني الكردستاني، لا يزال نفوذه في كركوك أكبر من الحزب الديمقراطي الكردستاني، لذلك يسعى الأخير لانتزاع النفوذ في المدينة واستغلال الأحداث الأخيرة للتنكيل بغريمه، بينما أصدر الاتحاد الوطني الكردستاني بياناً خجولاً يعترف فيه ضمنياً بسلطة بغداد على كركوك.
دور الأطراف الإقليمية
لم يقتصر صراع النفوذ والمصالح الذي ظهرت ملامحه في أحداث كركوك الأخيرة على الأطراف المحلية فحسب، بل كان للأطراف الإقليمية حضور لافت فيه، لاسيما تركيا وإيران.
فقد احتفظت تركيا بموقفٍ في هذا الملف، وصبَّ حضورها في مصلحة التركمان في كركوك، إذ قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في معرض تعليقه على الأحداث الأخيرة في المدينة، إن “كركوك هي موطن التركمان وتعيش فيها ثقافات مختلفة”، وأضاف أن “الهدوء بدأ يعود إلى كركوك إثر اتصالات أجرتها أنقرة مع بغداد وأربيل، وإن الخارجية والمخابرات التركية يتابعان هذا الملف”.
ويُقوِّي موقف تركيا هذا موقف الحكومة العراقية، ويتَّسق مع مواقف سابقة أثارتها تركيا كما حصل في 2017 حين أقام الإقليم استفتاء الاستقلال، إذ قال أردوغان إن “الكرد لا يمتلكون أي حقوق في كركوك”، ولوَّح بأنَّه “سوف تُتَّخَذ الخطوات اللازمة أيّاً كانت”، مُشيراً بشكل خاص إلى المصالح التركية في كركوك.
وعلى رغم علاقة الإقليم الجيدة بتركيا وشراكتهما الاقتصادية، فإن أنقرة لا تريد له أن يتوسع باستيلائه على كركوك الغنية بالنفط، وبالتالي يكون أقوى اقتصادياً بما يجعله أكثر استقلاليةً، إذ قد يكون نموذجاً يُلهم ويُحرك كرد تركيا، الذين يفوقون كرد العراق عدداً.
لا يختلف الموقف الإيراني كثيراً عن الموقف التركي؛ فطهران هي الأخرى تدعم الحكومة العراقية وتراقب الأحداث في كركوك، إذ قال المتحدث باسم وزارة خارجيتها، ناصر كنعاني، في 4 سبتمبر، إن “من المهم بالنسبة لنا أن ندعم الاستقرار الداخلي في العراق وجهود الحكومة المركزية”، وأضاف أن “الحكومة العراقية تتمتع بالسلطة والقدرة اللازمتين لخلق الأمن، وإذا تم تصور المساعدة وطلبها فإن إيران ستساعد”.
ليس من مصلحة إيران أن يُسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني على كركوك وثروتها، لأن ذلك سيقوي الإقليم اقتصادياً، وبالتالي سياسياً، خصوصاً أنّ لطهران مشكلات مسبقة مع الكرد الإيرانيين، الذين يتلقون دعماً من حكومة الإقليم. وعلى عكس تركيا، فإن لإيران خلافات دائمة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتتخذ هذه الخلافات أبعاداً وأوجه أيديولوجية وقومية وسياسية، إذ توجه إيران اتهامات لأربيل بتهديد أمنها القومي من خلال علاقتها المفترضة بإسرائيل، وسماح أربيل للمعارضة الكردية الإيرانية باستخدام أراضيها لمهاجمة إيران. وقد ازداد التأثير الإيراني في كركوك بعد 2017 وإخراج البيشمركة منها ودخول القوات العراقية، وأصبح للفصائل المسلحة الشيعية وجود فيها.
السيناريوهات المحتملة
يمكن توقُّع ثلاثة سيناريوهات محتملة لأزمة كركوك، وآفاقها المستقبلية:
1. سيناريو نجاح الحزب الديمقراطي الكردستاني في آخر المطاف وحصوله على المقر، لكن عبر القنوات القانونية، فمن الصعب على “الإطار التنسيقي” التخلي تماماً عن الصفقة التي عقدها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وبالتالي قد يبحث عن طريقة لتسليم هذا المقر للحزب، على الأغلب من خلال حكم محكمة، ليزيل الحرج السياسي عن الجميع، وعدم إظهار أنّ هنالك طرفاً خاسراً في الأزمة.
2. سيناريو عدم حسم المشكلة وانتظار الانتخابات، وفي هذا السيناريو لن تبت المحكمة بشكل نهائي بالموضوع، وستَترُك القرار للصراعات السياسية وتوازنات القوى، من خلال انتظار نتائج انتخابات مجالس المحافظات، لمعرفة مَن هي القوة الأكبر في كركوك التي يمكن لها التفاوض حول الموضوع. وقد يقبل الحزب الديمقراطي الكردستاني بذلك أولاً لمحدودية خياراته، وثانياً لاحتمال أن يحصل على مكاسب تعويضية في ملفات أخرى، وبشكل خاص في ملف المشكلة الدائمة المتعلقة برواتب موظفي الإقليم والخلاف مع بغداد بشأن دفعها.
3. سيناريو اتباع الحل المحلي دون أن يتحول إلى صراع سياسي معلن، أي أن يقف العرب والتركمان طرفاً واحداً بوصفهم مفاوضين محليين مدعومين من “الإطار التنسيقي”، ضد مجموعة أخرى كردية مدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني، لغرض إيجاد تخريجة لحل موضوع المقرات، دون ضجة إعلامية، وبحيث لا يصاحب عودة المقرات أي حضور سياسي أو عسكري جديد لافت للحزب، لتجنُّب خروجه خاسراً بشكل تام من هذه الأزمة.
الخلاصة
حرّكت الأطراف المتنافسة في كركوك النزاع الذي جرى في 2 سبتمبر المنصرم، بسبب تضارب مصالحها واختلافاتها السياسية والإثنية والأيديولوجية، وكانت النتيجة إراقة الدماء، مع تنامي الخوف من انزلاق الأمور إلى اقتتال في الشوارع، خصوصاً بعد دخول الفصائل المسلحة على خط الاحتجاجات. لكن قرار المحكمة الاتحادية أفضى إلى نزع فتيل الأزمة وتبريد الوضع مؤقتاً.
بيد أن تضارُب المصالح لا يزال قائماً، أولاً بين الحزبين الكرديين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، وثانياً بين أربيل وبغداد والفصائل المسلحة؛ وهذا يعني أن كركوك، المدينة الغنية بالنفط، مُعرَّضة لأحداث مشابهة مستقبلاً، طالما تستخدم هذه الأطراف القضايا الحساسة فيها من قبيل “مسألة المقر” الأخيرة، ورقة مساومة ومفاوضات في إطار صراع القوة، وتؤجج الشارع أحياناً تبعاً لرغباتها.
لكن الاحتمال الأقرب هو أن يُؤجَل هذا الصراع إلى حين انتخابات مجالس المحافظات التي قد تجري في ديسمبر المقبل، لمعرفة كل طرف حجمه الفعلي في كركوك، مما سيفتح الباب أمام مفاوضات جديدة لتقرير وضع المحافظة وطريقة إدارتها.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/qabil-lilaishtieal-ila-ayn-yatajih-alsira-fi-madinat-karkuk-aliraqia