قديم ضربات إسرائيل لإيران… وجديدها

ما الجديد والقديم في الموجة الأخيرة من المواجهة الإيرانية– الإسرائيلية؟ هل نحن بصدد “تطبيع عسكري” جديد في الشرق الأوسط بهندسة أميركية؟

شهدت الأشهر الأخيرة سلسلة من الأحداث، كان لأي منها لو حصل في ظروف أخرى أو مناطق أخرى أو سنوات أخرى، أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية واسعة أو إلى حرب إقليمية تستدرج تدخلات دولية.

لنسترجع بعض ما جرى لدى انتقال إيران وإسرائيل من “حرب الظل” المستمرة منذ سنوات عبر الوكلاء والحلفاء والعمليات الاستخباراتية والضربات الغامضة، إلى المواجهة الثنائية بالصواريخ والمسيرات والقاذفات.

في أبريل/نيسان الماضي، قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت قادة كبارا من “الحرس الثوري”. شنّت إيران هجمات بأكثر من 300 مسيّرة وصاروخ على إسرائيل، فردّت إسرائيل بقصف أطراف المنشآت النووية في أصفهان.

في نهاية يوليو/تموز، اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران بعد ساعات من لقائه “المرشد” علي خامنئي ومشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بيزشكيان، وذلك بعد مقتل الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي إثر سقوط طائرته جراء “خلل فني”.

وفي سبتمبر/أيلول، بدأت إسرائيل حربها في لبنان، بتفجير “البيجر” ثم “ووكي توكي”، وأقدمت على خطوة كبيرة فاغتالت جميع قادة “حزب الله” بما في ذلك الأمين العام حسن نصرالله.

في بداية أكتوبر/تشرين الأول، بدأت إسرائيل هجوما بريا في جنوب لبنان وكثفت غاراتها في ضاحية بيروت. أما إيران، فبادلتها الهجوم بما يقارب 200 صاروخ باليستي. وفي نهاية أكتوبر، شنّت مئة طائرة مقاتلة وقاذفة إسرائيلية غارات في ثلاث مناطق استراتيجية في إيران بما في ذلك العاصمة. طهران التي لم تضرب من الحرب العراقية – الإيرانية بداية الثمانينات.

حسن نصرالله نجا من محاولات اغتيال عدة لأنه كان بمثابة “خط أحمر”. لو اغتالته تل أبيب قبل سنوات أو قصفت طهران مباشرة، لدارت بين العاصمتين مواجهة طاحنة. كذلك الحال في أي اغتيال آخر أو ضربة أخرى حصلت بين الجانبين.

 

المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب في عملية تصاعدية. لا شك أن التفاصيل توضح هذا البعد اللولبي

 

 

لماذا لم تحصل حرب مباشرة وواسعة؟ ما الجديد والقديم في عاصفة المواجهة الجديدة؟

بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أن المواجهة المباشرة بينهما في عملية تصاعدية. لا شك أن التفاصيل توضح هذا البعد اللولبي. في أبريل، قامت إيران باستهداف إسرائيل بمسيرات وبضعة صواريخ ضربت مكان انطلاق الطائرات التي قصفت قنصليتها في دمشق. فكان ردّ تل أبيب بعملية غامضة قرب أصفهان. طهران عرفت بها وكل العواصم علمت مَن قصف وماذا استهدف، لكن حكومة نتنياهو لم تعلن رسميا مسؤوليتها.

مواجهة أكتوبر أبعد وأعمق من موجة أبريل. إيران استهدفت- في بداية هذا الشهر، بصواريخ باليستية- مواقع عسكرية في مناطق أوسع وأعمق، سمحت لتل أبيب بمساحة زمنية أقل من أبريل مع ساعات المسيرات. أما إسرائيل، فطائراتها عبرت فوق سوريا والعراق، الأجواء التي يسيطر عليها التحالف الدولي بقيادة أميركا، واستهدفت منظومات صواريخ إيرانية وروسية (اس 300) ومصانع إنتاج الصواريخ والمسيرات. وفي هذه المرة، تبنّى الجيش الإسرائيلي الهجوم وتحدث عن ضرب “أهداف استراتيجية”.

 

نتنياهو برهن أن إسرائيل استطاعت الوصول إلى عمق إيران وتركتها عارية. لكنه ترك لها مجالا لـ”حفظ ماء الوجه” عبر التهوين من وجع الضربات

 

 

هندسة أميركية دقيقة للضربات، خلاصة أسابيع من تبادل الرسائل والتحذيرات. تبنت تل أبيب الهجوم، لكنها لم تنشر صورا رهيبة ومهينة لطهران. لم تنشر صورا يمكن مشاهدتها في جميع أطراف الشرق الأوسط، كما فعلت لدى قصفها ميناء الحديدة في اليمن. لم تستهدف البرنامج النووي الإيراني لأن هذا صعب دون مشاركة أميركية. لم تضرب المنشآت النفطية لأن هذا يؤثر في الإقليم وحظوظ نائبة الرئيس كامالا هاريس للفوز بالانتخابات.

وصلت رسالة بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل قادرة على الوصول إلى العمق الإيراني، بل إنها دمرت منظومة الصواريخ الدفاعية وتركت الأراضي الإيرانية عارية. لكنه ترك لإيران أيضا، مجالا لـ”حفظ ماء الوجه” عبر التهوين والتقليل من وجع الضربات، والقول انه “يجب عدم التهوين وعدم المبالغة” بما حصل، كما قال “المرشد”.

 

إسرائيل تقصف سوريا واليمن وقطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وفي العراق. هذا “طبيعي”… و “الطبيعي” الجديد تبادل القصف الإسرائيلي- الإيراني بهندسة أميركية

 

 

لبى نتنياهو ، الذي يحتفل بتحقيق انتصارات استراتيجية غير مسبوقة، مطالب جو بايدن بتحييد “النووي” والنفط، مقابل نشر الأخير منظومة صواريخ “ثاد” مع مئة جندي وتوفير الغطاء للطائرات الإسرائيلية فوق سوريا والعراق والتعهد بالدفاع عن إسرائيل أمام أي ضربات إيرانية مقبلة، بل ربما تقديم دعم في أي هجوم محتمل على إيران في حال جاء انتقام طهران موجعا في الأشهر المقبلة، سواء كان هذا خلال الأيام الأخيرة لولاية بايدن أو فوز هاريس. هندسة كافية من بايدن الذي يريد ان تكون الجولة “نهاية حلقات الرد والإنتقام”، لتمرير الوقت إلى حين تسلم الرئيس الأميركي الجديد المنصب، مع رهان “بيبي” على أن يكون “صديقه” دونالد ترمب في البيت الأبيض.

هناك جديد في الضربات الإسرائيلية يرفع التوتر درجة إضافية، وهناك هندسة قديمة تحول دون إفلات الأمور من عقالها. إسرائيل تقصف سوريا واليمن وقطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وفي العراق. هذا أصبح أمرا “طبيعيا” ولم يعد خبرا استثنائيا أو سببا كافيا لحرب إقليمية. الشرق الأوسط على حافة “تطبيع عسكري” جديد بهندسة أميركية. ضربات مباشرة بين تل أبيب وطهران مرورا بأجواء عربية، سورية وعراقية، بالتوازي مع “حرب ظل” شرسة في ساحات عربية.

هناك قديم في اللكمات الجديدة بين المتبارزين على ركام المنطقة قد يدعو الى النوم في ليال مطمئنة. هناك جديد في الضربات يصب الزيت على نيران قديمة في الشرق الأوسط.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M