هل سيستمر هذا التفاهم والتوافق بين التجمع الشعبي اليساري، والذي يضّمُ شريحة كبيرة من المستضعفين، وحصته في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) 190 مقعدا، وحزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون) الوسطي الارستقراطي، وحصته في الجمعية الوطنية 165 مقعدا؟ الاتفاق بينهما هو اسهل الطرق لتشكيل حكومة جديدة…
“قراءة أخرى” لأنها تسلّط الضوء على الخاسر والرابح سياسياً واستراتيجياً وليس رقمياً و آنيّاً، ولأنها أيضاً تعرض وتدرس اسباب وتداعيات الخسارة والفوز، ولانها تستنج عِبر ودروسا، قد تكون نافعة للأحزاب والسياسين في الدول الديمقراطية القائمة سياسياً على مبدأ تداول السلطة.
فازَ حزب الجبهةً الوطنية او اليمين الأقصى او اليمين المتطرف، و بزعامة السيدة مارين لوبن، في المرتبة الاولى، في انتخابات البرلمان الأوربي والتي جرت،في الدول الاوربية، بتاريخ 6-9 حزيران الماضي 2024 .
كذلك فاز الحزب، وفي المرتبة الاولى ايضاً، في الجولة الاولى للانتخابات التشريعية الفرنسية،و التي جرت بتاريخ 2024/6/30 .
سياساً، وحقق الحزب نجاحاً و فوزاً، لم يحلم بهما، ولم يتوقعهما منافسوه، كما نجح في حرمان الاحزاب المنافسة الأخرى من اليمين او اليسار من الفوز بالاغلبية المطلقة، و له اليوم 135 مقعداً برلمانياً من اصل 577 مقعدا، مقارنة ب 89 مقعداً في الانتخابات التشريعية لعام 2022 .
حزب التجمّع الوطني (تسميّة حّلت محل حزب الجبهة الوطنية) بقيادة السيدة مارين لوبن، له المرتبة الاولى أوربياً على الاحزاب الفرنسية، وله المرتبة الثالثة، من حيث عدد المقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب) .
نجحَ الحزب في مساره السياسي حتى و ان فشلَ اليوم في الفوز بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية، وفشله لم يكْ امام حزب آخر، وانما امام تكتّل وتجمّع من الاحزاب. هذا النجاح والتقدم المضطرد للحزب يجعلان بقيّة الاحزاب والتكوينات السياسية تفكر جدياً، ليس بمقاطعة الحزب، كما جرت العادة، وانما التعايش والتفاهم، ولربما الحاجة إلى التكتّل معه .
الرابح الآخر في الانتخابات هو التجمع الشعبي والذي يضّم الاحزاب اليسارية والاشتراكية وحزب الخضر فاز هذا التجمع بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية في فرنسا، وحصلَ على 190 مقعدا، مقارنة بالعدد الذي حصل عليه في انتخابات عام 2022، وهو 130 مقعدا، ويُعدْ فوز التجمع الشعبي وبقيادة رئيس حزب فرنسا الأبيّة،السيد جان لوك ميلونشون، فوزاً سياسياً ورقمياً .
الرابح الثالث في هذه الانتخابات التشريعية هو حزب الرئيس ماكرون، أسّسهُ عام 2016، وبإسم ”الجمهورية إلى الأمام”، ليصبح عام 2022 بإسم ”حزب النهضة”. صحيح أنه لم يحظ بالمرتبة الاولى لا في الانتخابات الاوربية، ولا في الانتخابات التشريعية الفرنسية، ولكنه، مع ذلك حصلَ على 165 مقعداً في الجمعية الوطنية،حيث يأتي بالمرتبة الثانية بعد حزب التجمع الشعبي اليساري. اعتبرهُ رابحا سياسيا لحجمه البرلماني، و قياساً بتاريخه السياسي القصير، مقارنة مع الاحزاب السياسية الأخرى .
الخاسرون في هذه الانتخابات هم الاحزاب التقليدية، وخاصة حزب اتحاد اليمين والذي يُعتبر امتداداً للحركة الديغولية، وكذلك الحزب الاشتراكي الفرنسي،والذي انضّمَ تحت قيادة حزب فرنسا الأبيّة .
ولكن لماذا تراجعَ حزب التجمع الوطني (اليمين الأقصى او المتطرف)، من المرتبة الاولى في الجولة الاولى للإنتخابات إلى المرتبة الثالثة في الجولة الثانية من الانتخابات؟ يعزو البعض ذلك إلى تصريحات ذات طابع عنصري لبعض قياديه بعد الفوز الذي حققه الحزب في الجولة الانتخابية الاولى، مما اثار مخاوف شريحة كبيرة من الشعب الفرنسي ذات الأصول العربية والأفريقية والإسلامية.
مخاوف وظفّتها الاحزاب اليسارية والاشتراكية المنضوية تحت راية التجمع الشعبي، والذي فاز بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات. ومن بين الاسباب ايضا التفاهم والاتفاق الذي أُبرم بين التجمع الشعبي وحزب الرئيس ماكرون والاحزاب الأخرى للحيلولة دون فوز اليمين المتطرف، اتفاق على آلية سحب مُرشحين من كلا الطرفين لضمان عدم تشتت الأصوات ولضمان فوز المُرشحين الذين اعتمدوا من كلا الطرفين.
وما تجدرُ الاشارة اليه والاشاده به ايضاً هو سرعة ردود فعل واتفاق التجمع الشعبي اليساري وحزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون)، على آلية العمل والترشيح والتأثير على القواعد وعلى الرأي العام من اجل منع حزب التجمع الوطني من الفوز بالجولة الثانية.
نجحوا في مهمتهم، وفي غضون اسبوع واحد، بالفصل بين الجولة الاولى والجولة الثانية للانتخابات. اسبوع واحد من الزمن كان كفيلاً وكافياً لتغيير مسار التصويت وتوجيهه من صالح التجمع الوطني اليميني المتطرف إلى صالح التجمع الشعبي اليساري .
السؤال الآن، والذي لا يخلو من اهميّة، هو: هل سيستمر هذا التفاهم والتوافق بين التجمع الشعبي اليساري، والذي يضّمُ شريحة كبيرة من المستضعفين، وحصته في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) 190 مقعدا، وحزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون) الوسطي الارستقراطي، وحصته في الجمعية الوطنية 165 مقعدا؟
الاتفاق بينهما هو اسهل الطرق لتشكيل حكومة جديدة تنال ثقة الاغلبية ليس للرئيس ماكرون سوى خيارين لتشكيل الحكومة: إمّا الاتفاق مع التجمع الشعبي اليساري، وإمّا الاتفاق مع التجمع الوطني اليميني المتطرف، والخيار الأخير، حسبما اعتقد، مستبعد جداً .
الاتفاق بين الرئيس ماكرون والتجمع الشعبي اليساري ممكن وممكن جداً، ولكن بثمن، وثمنه هو ان يكون رئيس الوزراء من التجمع الشعبي اليساري. يعني ستدخل فرنسا،مرّة اخرى، في حالة التعايش في الحكم بين رئيس من الوسط المائل إلى اليمين، ورئيس وزراء يساري، يتبنى برنامجا سياسيا مختلفا تماماً عن طموحات واهداف الرئيس ماكرون، سواء على صعيد السياسة الداخلية او على صعيد السياسة الخارجية. ولم تخف قيادة حزب التجمع اليساري نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأفصحت عن هذه النيّة صراحة في احد خطابات القيادة عشيّة فوزهم في الانتخابات .
تعايش سياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس وزراء مدعوم بكتلة نيابيّة كبيرة وبارادة سياسية شعبية مصممة وعازمة على التغيير .
هل يسود جو التعاون على هذا التعايش المفترض؟ لا يخلو الأمر من صعوبات وتحديات جادة، لاسيما وكل طرف يتحيّن فرصة ومناسبة لاضعاف الطرف الأخر لأنَه، و ببساطة، ينتظرهما تحد انتخابي رئاسي عام 2027 .
مَنْ سينتفع من سوء التعايش السياسي؟ حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف هو الذي سيستفيد من سوء نتائج مرحلة التعايش بين الرئيس ورئيس الحكومة، وسيوظف سوء المسار بينهما وسوء النتائج للانتخابات الرئاسيّة المقبلة
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/39446