د. أحمد عدنان الميالي
أعادت محاول مجموعة من المحتجين التظاهر في محافظة الأنبار، قضية التظاهر والاحتجاج في العراق إلى الواجهة ومن المتوقع أن تتصاعد موجات الاحتجاج في الأسابيع القادمة قبيل موعد الانتخابات المبكرة في تشرين الأول القادم.
فقد مثلت أحداث تشرين الأول عام ٢٠١٩ الاحتجاجية في العراق في عدة محافظات (بغداد، ذي قار، النجف، كربلاء، الديوانية، بابل، البصرة، ميسان، واسط، المثنى) ومناطق أخرى مقدمات ومؤشرات ناتجة عن مركب من أوضاع سوسيو سياسية وثقافية متعددة الأبعاد والدلالات وحصيلة تراكم كمي ونوعي للكثير من المؤثرات والعوامل والظروف والتفاعلات المعقدة والمأزومة، واعطاب واختلالات وممارسات سياسية لا عقلانية، وهو واقع يبرز مدى دقة المرحلة وحساسيتها، الأمر الذي يفرض على النخب السياسية والثقافية والاجتماعية وكل الفاعلين في الحراك المجتمعي المحلي بذل المزيد من الجهود لتجاوز احباطات اللحظة وتعثراتها وتداعياتها السلبية وفتح ماهو ممكن ومتاح من آفاق النظر والعمل من أجل الإصلاح والتغيير وإعادة التأسيس والبناء لعمل سياسي وحكومي منتج وفاعل.
سنناقش في هذه الورقة خمسة محاور لدراسة الاحتجاجات الشعبية التي حصلت في العراق منذ تشرين الأول ٢٠١٩، دراسة سوسيوسياسية لمعرفة الأسباب والأبعاد والحلول والبدائل لهذه الاحتجاجات وكالاتي:
المحور الأول: الاحتجاجات العراقية من الظاهرة إلى الواقعة:
تمثل الاحتجاجات والتظاهرات وصورها ظواهر سياسية قد تتواتر أو تنعدم أو تظهر حيناً وتختفي حيناً في المجتمعات والأنظمة السياسية، ولكن هذه الظاهرة تكتسب خصيصة الواقعة الاجتماعية (كالسلطة مثلا) المتسمة بالاستدامة إذا ما توافرت فيها عدة خصائص، في حالة الاحتجاجات العراقية هنالك احتمالات واردة عن تحولها من ظاهرة عابرة إلى واقعة مضطردة نظراً لاتسامها أو ستتسم بالخصائص الآتية:
أ- الجماعية: أي أن الاحتجاجات ليست فردية مختزلة بقائد ولا فئة محددة وقد تمتاز بالتواتر بحيث يقوم بها أغلبية العراقيين.
ب- التاريخية: فمن المتوقع أن تكون الاحتجاجات العراقية واقعة متكررة زمنياً متفاعلة مع وقائع أخرى كالسلطة وأداءها.
ج- الإرغام: فتواترها واتسامها بالصفة الجماعية مرتبط بتميزها بالإرغام الذي يفرض سلوكيات وقواعد معينة للتصرف تولد ضغطا اجتماعيا شخصيا وموضوعيا يدفع الأفراد إلى تبني اتجاهات وسلوكيات محددة تجاه صانعي القرار يرغمهم على الاستجابة وحتى مع ذلك تستمر الاحتجاجات وهذا ما حصل في العراق.
د- مستظهرة لا مستبطنة: أي أن الاحتجاجات العراقية باتت موجودة في المجتمع مثبتة عمليا وليست ضامرة في نفوس الأفراد، أي أن المواطن العراقي بدأ يشعر بسلوكه الاحتجاجي الناقد للسلطة داخليا، إضافة إلى ذلك يندمج هذا الشعور أيضا حينما يأتيه من الخارج أي من بقية أعضاء المجتمع وقد تصبح جزء من تكوينه إذا لم تعالج المطالب.
هـ- المثالية: أي أن دافع المواطن العراقي للتمسك بالسلوك الاحتجاجي لا يقوم بدافع الاضطرار والخوف إنما الدافع هو تفضيل هذا السلوك من بين سلوكيات متعددة باعتباره أكثر ملائمة لإيصال صوته والتعبير عن كيانه ورغباته.
و- البنيوية: هذه الاحتجاجات من المتوقع أن تتواتر لا بفعل الصدفة والعفوية وظرفية الأداء السياسي التي بدأت بها، بل ستتطور بشكل بنيوي يخلق شبكات من العلاقات والأطر والهياكل الاجتماعية وتكتسب طابع التنظيم والتدرجية والاستقرار والقوننة..
ز- الوظيفية: يقصد بها هنا أن الاحتجاجات العراقية ستكون لها ادوار ومهمات ونشاطات تسهم بديمومتها في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية، قد تفرز هذه الاحتجاجات منظومة مركبة من عناصر مرتبة يعتمد بعضها على البعض الآخر كما أنها تتفاعل فيما بينها على نفس النحو.
المحور الثاني: الأسباب:
هنالك عدة أسباب متداخلة كانت لهذا الحراك المطلبي تتمثل بالآتي:
١- تدني مستويات العيش وبروز مؤشرات الفقر والتهميش وتراجع كفاية الدخل الفردي وتدهور القطاعات المرتبطة بالحياة كالكهرباء والماء والتعليم والصحة والسكن والعمل والبطالة والإحساس بالتفاوت الطبقي مع القوى السياسية من حيث المحسوبية والامتيازات والنفوذ.
٢- تفشي ظاهرة الفساد بأشكاله وعوامله وامتداداته كافة والتي تعدت المجال المؤسسي والإداري إلى الفضاء المجتمعي والعمومي وانتشار الرشوة والمحسوبية والوساطات والولاءات الانتفاعية والوصولية وسوء الإدارة والحكم واستغلال السلطة والنفوذ وتبديد المال العام ونهب ثروات المجتمع بلا مبرر.
٣- أعطاب واختلالات أساليب وآليات العمل في المؤسسات إذ لازالت الآليات تقليدية تفتقد للحكمة المدبرة للشأن العام وحتى حينما نستعين بطرق حديثة وتقانة متقدمة تكون النتائج عكسية مثلما حصل بأجهزة العد والفرز الالكتروني وغيرها من الأمثلة في دوائر الدولة.
٤- التكالب على السلطة وضعف تأثير المواطن في صناعة القرار السياسي الذي دفع إلى العزوف عن المشاركة الانتخابية ثم الحراك الاحتجاجي كما لم تقدم الأحزاب السياسية أي برامج عمل وإصلاحات حقيقية مع تلكأ المشاريع التي تطرح كالتسوية الوطنية أو مواثيق الشرف أو حملة مكافحة الفساد أو الحوكمة الالكترونية وغيرها من الاطروحات النظرية التي تطبق على أرض الواقع.
٥- دور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي السلبي في بث الإشاعات وتوتير الأجواء سواء بالنقد الحاد والتحريض على النظام العام بشكل غير محايد أو دقيق رَسَم صورة سلبية على العموم لدى الرأي العام أو بالتعمية أحيانا عن الأخطاء والأزمات بشكل فج ومفضوح يدفع للتحرك والاحتجاج، إذن لعب الإعلام السلبي دور في تحريك مشاعر وحالات اليأس والإحباط لدى المواطن وبالتالي عزز مسارات الاحتجاجات والتظاهر والكراهية لكل ماهو سياسي.
٦- التدخلات الخارجية المرتبطة بالمحيط الإقليمي للعراق عما يحصل خاصة ما جرى من حالات تخريب لمدسوسين من أجل حرف الاحتجاجات وتعميق الأضرار، كذلك وجود قوى محلية ترتبط بتلك الأجندات من مصلحتها كسب معطيات مابعد تشكيل الحكومة الجديدة وما بعد الانتخابات القادمة، وأن تكون الأجواء مشحونة بهذه الحيثيات ومن مصلحة تلك الدول أن يتضرر الشريان الاقتصادي والمؤسسي للعراق.
المحور الثالث: الدلالات:
إن هذه الاحتجاجات أبرزت دلالات سوسوسياسية عديدة لأول مرة تحصل في المنتظم الاجتماعي والسياسي العراقي خاصة بعد عام ٢٠٠٣ ومنها مثلا:
١- الحركة النسوية: لأول مرة بشكل واسع تشهد التظاهرات العراقية حركة نسوية تسهم في هذه الاحتجاجات بسياقين: الأول مشاركة ميدانية في ساحات الاحتجاج بأدوار متعددة وبشكل متواصل، والثاني دعم وإسناد الاحتجاجات بقناعة مطلقة في وسائل التواصل والنقاش العمومي والرد الحدي على أي رأي يتعارض مع توجه المتظاهرين أو يدافع عن السياسة والسياسيين، في حين قبل هذه الاحتجاجات لم نشهد مشاركة سياسية للمرأة فاعلة بدرجة كبيرة وعادة لا تكترث ولا تهتم المرأة كثيرا بالسياسة.
٢- الحركة الطلابية: إذ برزت حركة طلابية انبثقت داخل ساحات الاحتجاجات عرفت بثورة القمصان البيضاء، وتكاد تكون هذه الدلالة أقوى دلالة اجتماعية سياسية لهذه الاحتجاجات لوعي هذه الطبقة بحقوقها وقدرتها على التجمع والتواصل ومن ثم التأثير على المجال العام وتكاد تكون هي المحرك الأساس لهذه الاحتجاجات وأحد أهم أسباب انطلاقها.
٣- الدلالة الطائفية والمناطقية: ممكن القول، إن غالبية المتظاهرين من الشيعة وغالبية المناطق الجغرافية أيضا يقطنها المكون الشيعي، ولهذا لم تستطع السلطات أن تتهم المحتجين بالطائفية باعتبار أن هذه الحركة الاحتجاجية غالبيتها شيعية ضد سلطة شيعية إلى حدٍ ما. ولهذا تحولت هذه الدلالة من بعدها الطائفي في فرز المواقف إلى البعد السياسي فباتت الدلالة تعرف بالذيول لدول إقليمية والجوكر المرتبط بسفارات أجنبية، كما أنها تمركزت في مناطق الوسط والجنوب وحظيت بالدعم في حين ترفض المناطق الغربية والشمالية إطلاقا دخول أي حركة أو اتجاه احتجاجي في مناطقها لتنحصر حركة تشرين الاحتجاجية في الوسط والجنوب ومن غير المرجح اتساعها أو انتقالها خارج هذه المناطق لعدم دعمها شعبيا وسياسيا.
٤- الاحتجاجات تحولت إلى حراك اجتماعي أكثر مما هو حراك سياسي لغياب القيادة المركزية والتوجيه السياسي فلم يتبنى أي حزب أو تيار سياسي هذه الاحتجاجات رغم اختراقها من قبل بعض التيارات السياسية لكنها لم تتبنى القيادة ولم ترفع راية أو دلالة تشير إليها.
٥- الدلالة الرمزية: دخل الرمز بشكل واسع في هذه الاحتجاجات بدءاً من المطعم التركي الذي سميّ بجبل أحد كدلالة صمود وعدم النزول منه، والتكتيك، وأيضا رمزية شهداء الاحتجاجات، إضافة إلى تضمين هذه الاحتجاجات تواجد فنانين ورياضيين وأدباء وشرائح مختلفة عملت على إنشاء معارض رسم ومشاهد تمثيل وممارسات اجتماعية احتفائية رمزية عكست دعم اجتماعي واسع لهذه الاحتجاجات.
٦- الدلالات القيمية: أفرزت هذه الاحتجاجات قيما جديدة وأطاحت وقوضت من قيم تقليدية سائدة، منها قيم عنفية إذ لم يكن العنف يرافق معظم الاحتجاجات في عراق مابعد عام ٢٠٠٣ هذه المرة سلوك العنف من المحتجين والقوات الأمنية كان متبادل وأصبح مشهد تلقائي في بداية انطلاق الاحتجاجات في تشرين ٢٠١٩، كذلك أفرزت قيم تقويض الرمز المقدس (رجال الدين) والرمز الاجتماعي التقليدي (شيوخ العشائر) والرمز السياسي الكاريزمي (زعماء التيارات والكتل السياسية)، والرمز النخبوي (الاستاذ والمعلم…)، ومن يدافع عنهم، فتراجعت قيم احترام وتقديس وتقديم هذه الأنماط وأصبحت محط محاكمة وازدراء وعدم اعتبار في أحيانٍ كثيرة.
المحور الرابع: الأبعاد:
هذه الأسباب والدلالات آنفة الذكر لها أبعاد خطيرة على مستوى الاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتراجعة وأهم هذه الأبعاد:
١- لا يمكن تحقيق شعار الإصلاح إلا في إطار قطيعة سياسية واجتماعية وعملية مع كل مظاهر الفساد المُكرس والممنهج والذي تعتبره الطبقة السياسية أداة جوهرية لفرض السلطة والنفوذ على المجتمع.
٢- غياب كامل لأي برنامج أو مشروع وطني يطمئن إليه العراقيين قادر على تحديد الأولويات والرهانات وتحقيق المصلحة العامة.
٣- المواطن أصبح هو الدعامة المفصلية في صدارة المشهد السياسي وليس الأحزاب وقادتها فقط كما أن له دور فاعل في السياسة وليس مغيب ومهمش كما تريد القوى السياسية، لأن الاحتجاجات لم تعد موسمية وأصبحت تستهدف محاور عامة غير محددة بنسق أو مجال معين كما أنها باتت غالبا عفوية لا تخضع لمركزية التخطيط، وهذا يضع القوى السياسية بامتحان إشراك المواطن في صناعة القرار مهما كان ذلك مخالفا لتوجهاتها ومصالحها بل أن المحتجين وضعوا خيارات إزاحة القوى السياسية لا مشاركتهم بصنع القرار وهذه دلالة تفتح أبواب جدلية لاستمرار الاحتجاجات.
٤- أدركت الأحزاب السياسية العراقية أنها تعيش مستجدات وضع سياسي أصبح فيه تشكيل الرأي العام وتوجيه المشاركة وبناء القيم والاتجاهات والمواقف والأحكام بمثابة صناعة أو هندسة اجتماعية مرتبطة بخيارات المواطن واستحسان المجتمع وهذا أعاد تفكير هذه القوى بالسلطة باعتبارها خادمة لا حاكمة للمواطن.
المحور الخامس: البدائل والحلول:
باتت عملية الاستجابة لمطالب المحتجين والدخول بعملية إصلاح سياسي حقيقي استحقاق لا يمكن تأجيله يتحقق عبر البدائل الآتية:
١- إعادة تأهيل الحقل السياسي وإصلاحه لمواكبة مطالب المحتجين من حيث الإدارة السليمة والحكم الجيد الممانع للفساد بكل أشكاله وهذا يحتاج شجاعة التخلي عن الفاسدين داخل الأحزاب السياسية ومحاسبتهم.
٢- تشكيل أقطاب سياسية مرجعية جديدة مستقلة تعتمد على الكفاءة والمهنية والنزاهة يسمح لها بطرح برامج ومشاريع حقيقية نابذة للإقصاء والتهميش والخضوع للحسابات السياسية الضيقة.
٣- طرح حزمة إصلاحات عاجلة تتلافى المسببات التي تم ذكرها تشمل بنيات وهياكل الحقل الخدمي والاقتصادي وفق خطط تنموية مدروسة تتحاشى تكرار الخطط الفاشلة والبيروقراطية المريرة وعدم الدوران في الحلقات المفرغة لكي تتم مواجهة اكراهات الفقر والتخلف والفساد ورداءة الأداء الإنجازي.
٤- فعالية المحاسبة والرقابة: لابد من محاسبة من اعتدى على المتظاهرين ومحاسبة من تجاوز على القوات الامنية ومؤسسات الدولة ولابد أيضا من محاسبة الفاسدين وسراق المال العام ومحاسبة حتى من فشل بأداء مهامه ولم يستثمر موقعه ومنصبه للصالح العام وتأطير ذلك بقوانين صارمة يكون للقضاء والادعاء العام دور بارز في إنفاذ قانون المحاسبة والرقابة. ويعد تشكيل لجنة عليا لمكافحة لفساد خطوة ايجابية تحتاج إلى المصداقية والابتعاد عن الانتقائية في الملفات والشخصيات المستهدفة.
٥- دعم نيابي سياسي شعبي للحكومة الحالية ومفوضية الانتخابات لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر في تشرين الأول القادم، والعمل على ضمان نزاهة الانتخابات وعدم استغلال المال السياسي والمواقع التنفيذية في السباق الانتخابي والحرص على أن تكون مخرجات الانتخابات منسجمة مع النتائج ومطالب المحتجين في تشكيل الحكومة وتنفيذ برنامجها السياسي.
في النهاية عَرَف العراقيون أن طبقتهم السياسية الحاكمة لا تستثمر اللحظات الإصلاحية بل عُرفت بضياع فرص الإصلاح وتجديدها للقواعد التقليدية واستعارتها لآليات الاشتغال بأدوات النظام القديم وإبرام صفقات تواطئية والترويج لمقولات الخوف من الإرهاب وعودة الطائفية والتدخلات الخارجية واتساع المخاوف وبالتالي ضياع كل لحظة تغيير وإصلاح.
إذا لم تبتكر القوى السياسية أسلوب جديد للحكم والتدبير الصالح والرشيد واستحضار سيناريوهات التغيير والاستبدال الجاد سيستبدل المحتجين السيناريوهات الراهنة المطالبة بالتغيير والإصلاح والحقوق بسيناريوهات أكثر عنفا وسيتبنون الخيارات الراديكالية لتغيير النظام السياسي والبحث عن انبثاق نظام سياسي جديد قد ينذر بمغادرة اللحظات الايجابية المحدودة التي افرزها النظام الديمقراطي الحالي، مما يرسخ تبعات وآثار سلبية وما يمكن مقاربته في هذا السياق هو توجه الكثير من العراقيين بتفضيل واستحسان سلبيات المراحل الديكتاتورية السابقة على ايجابيات الديمقراطية الحالية.
.
رابط المصدر: