ترتبت نتائج ضخمة على طول مدة الحرب الروسية الأوكرانية التي تقترب خلال أيام من إتمام عامها الأول، ولعل أبرز هذه النتائج هو تغير الخريطة الجيوسياسية مرة أخرى في العالم وعودتها إلى نوع من التعسكر الغربي والشرقي إضافة إلى المعسكر الذي اختار الوقوف على الحياد، ولذلك فإن الدول تبحث عن تشكيل تكتلات وتحالفات أمنية للمحافظة على أمنها ومصالحها. وفي الناحية الشرقية تشكل روسيا والصين تكتلًا تقوده موسكو عسكريًا وتقوده بكين اقتصاديًا، وهو التكتل الذي يثير حفيظة المعسكر الغربي بشكل متنامي، بينما نجح الغرب بشكل كبير في استقطاب أوكرانيا من الناحية الأمنية، والحيلولة دون أن تشكل كييف منطقة عازلة لموسكو تفصل بينها وبين توسع حلف الناتو شرقًا.
سياقات الجولة الآسيوية وأهدافها
–احتواء التحركات الروسية والصينية: في هذا السياق يمكننا قراءة الجولة الآسيوية الأخيرة التي قام بها أمين عام حلف الناتو الأخيرة وكذلك جولة وزير الدفاع الأمريكي، على أنها تأتي كمحاولة للتخفيف من التقارب الروسي- الصيني ومنع قيام تحالف عسكري بينهما، مع الأخذ بالحسبان أن التحالف الاقتصادي بينهما موجود من الأساس وينعكس في منظمة البريكس المتوسعة. وعدا عن ذلك فهناك حالة من التقارب الروسي- الخليجي والروسي – الأفريقي إضافة إلى التقارب الصيني- العربي، مما يدفع بالأمريكيين والأوروبيين لإسراع الخطوات لاحتواء هذه التقاربات المهددة، مما يجعل تحركات الغرب متخبطة إلى حد ما نظرًا لأنها جاءت لاحقة للتقاربات التي سبق ذكرها.
وقد شملت جولة أمين عام حلف الناتو “نيوزلندا- أستراليا- اليابان وكوريا الجنوبية” وهي نفس الدول التي تمت دعوتها لقمة الناتو في مدريد خلال عام 2022، بالإضافة إلى وجود مكتب تمثيل دائم لحلف الناتو في اليابان، وقد اتفقت كوريا الجنوبية وحلف الناتو في صيف 2022 على إطلاق “شراكة وتعاون استراتيجي جديد” يضاف إلى التعاون الأمني والعسكري الموجود أصلاً بينهما، كما افتتحت سيول مكتب تمثيل رسمي لها في مقر حلف الناتو.
–طمأنة الحلفاء والأصدقاء: تضمنت جولة وزير الدفاع الأمريكي الفلبين واليابان، ومؤخرًا أصبحت اليابان قاسمًا مشتركًا في محاولات الاستقطاب الغربية والسبب الأبرز هو عدائها الواضح للصين، فضلًا عن أن موقع اليابان في بحر الصين الجنوبي يجعل من اليسير على الصين ابتلاعها بسهولة، ومن هنا كانت تحركات رئيس الوزراء الياباني في جولته الأخيرة التي توصل فيها إلى تفاهمات أمنية مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، أما كوريا الجنوبية فقد أصبحت هي الأخرى مهددة بشكل كبير، بعد تزايد التجارب الصاروخية في الجارة النووية “كوريا الشمالية”، وعليه يمكن فهم تحركات أمين عام حلف الناتو ووزير الدفاع الأمريكي في محاولة الإرسال برسائل طمأنة لطوكيو وسيول.
–حشد الدعم العسكري لأوكرانيا: يضاف إلى طمأنة الحلفاء كدافع للجولة، الرغبة الغربية في اجتذاب الدعم العسكري لأوكرانيا في الوقت الذي تتهم فيه القوى الغربية إيران بإرسال طائرات دون طيار لموسكو، خصوصًا أن كوريا الجنوبية قدمت مساعدات غير قتالية لكييف تضمنت دروعًا مضادة للرصاص وبطانيات وخوذًا وأدوية، إلا أنها لم تقبل طلبات أوكرانيا بمدها بالأسلحة الهجومية أو الدفاعية. وتعتبر كوريا الجنوبية مصدرا مهمًا للأسلحة على المستوى العالمي، حيث وقّعت في الآونة الأخيرة عقودًا لبيع مئات الدبابات إلى دول أوروبية بما في ذلك بولندا، فضلًا عن التعاون في المجالات العسكرية مع دول الخليج. لكن قوانينها تمنعها من بيع أسلحة لدول في حالة حرب، وهو ما يجعل من الصعب تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا التي زودتها سيول معدات غير مميتة ومساعدات إنسانية. ولكن أمين عام حلف الناتو دحض الحجة الكورية الجنوبية عندما أشار إلى أن دولًا من بينها ألمانيا والنرويج اللتان كانت لديهما قوانين أسلحة مماثلة لقوانين سيول، قد عدّلت سياستها بغية دعم كييف. وأشار الأمين العام لحلف الأطلسي إلى أن الجيش الروسي يستعد لمجهود حربي جديد، لافتًا إلى أن موسكو تتلقى أسلحة عن طريق مجموعات “فاجنر” خصوصًا من كوريا الشمالية، وفق معلومات كشف عنها البيت الأبيض الأمريكي، وهو ما سارعت بيونج يانج إلى نفيه بلهجة شديدة وصلت إلى حد تحذير واشنطن من تكرار نشر الشائعة ومحاولة توريط بيونج يانج.
–إقرار نوع من التحالفات الأمنية: في منطقة الإندوباسيفيك، مما يمثل حالة من الاستفزاز المبالغ فيه لبكين التي ترى أنه لا يوجد مبرر لمثل تلك التحالفات في مناطق قريبة منها. وإن كانت هذه الصيغة ليست بجديدة فقد صاحبت الرئيس بايدن منذ مجيئه للسلطة، حيث أعلن أن واشنطن سوف تتعاون مع الحلفاء والشركاء لاحتواء الصين والحفاظ على حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، بل أنه كان توجهًا حتى لدى سلفه الديمقراطي باراك أوباما الذي ترك الشرق الأوسط مشتعلًا بعد 2011 وتوجه إلى منطقة الإندوباسيفيك. خصوصًا أن هناك حالة من الخلل في موازين القوى تنعكس في أن الصين وكوريا الشمالية وروسيا قوى نووية، في حين أن حلفاء الناتو في آسيا ليس لديهم تسليح نووي، وقد علق أمين عام حلف الناتو على هذا الاختلال حينما قال إن عدم امتلاك حلفاء الناتو لسلاح نووي يمثل وضعًا خطيرًا بالنسبة للعالم. وهو الأمر الذي تنظر إليه بكين بطريقة مغايرة حيث تجد أن اليابان على وجه التحديد أنها ستخسر الكثير في حال أصرت على السير خلف الولايات المتحدة دون ضمانات توازن حالة الاختلال النووي لصالح بكين وموسكو وبيونج يانج. ويرجع ذلك إلى أن آلية المشاركة النووية الحالية لحلف الناتو لا علاقة لها بالقضايا الأمنية في شبه الجزيرة الكورية بل يجب على الناتو أن يجلب التهديد الصيني والروسي معًا حتى لا يبدو ظهوره فجأة في شبه كوريا الجنوبية مستهجنًا. ولكن على الجانب الآخر فإن الهدف الأهم للناتو هو جذب كوريا الجنوبية إلى إطار تعاون الناتو والذي يعد مجرد ذريعة يمكن من خلالها بسط قبضة الناتو على شمال شرق آسيا.
وعلى الرغم من أن ستولتنبرج “الأمين العام لحلف الناتو” احتفظ ببعض الحرية في تصريحاته العامة فيما يتعلق بالمسألة الحساسة للغاية المتمثلة في المشاركة النووية، إلا أن العالم الخارجي يعتقد عمومًا أن “تبادل المعلومات” الذي اقترحه مع كوريا الجنوبية حول مسألة الردع النووي لن يكون نهاية مشاركة الناتو في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. حيث أشارت بعض التحليلات من كوريا الجنوبية نفسها، إلى أن تحرك الناتو يهدف إلى محاكاة نهج الولايات المتحدة وتوسيع منطقة نشاطها إلى منطقة “المحيطين الهندي والهادئ” لاحتواء الصين. وعلى الرغم من أن الناتو يدعي أن موقعه كحلف دفاعي إقليمي لم يتغير، إلا إنه منذ العام الماضي استمر في كسر مناطق دفاعاته التقليدية وعزز بشكل كبير العلاقات العسكرية والأمنية مع دول آسيا والمحيط الهادئ مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ويعد العامل الوحيد الذي يبطئ من خطوات سيول حتى الآن ناحية الصين، أنها ترى أن بيونج يانج هي عدوها الأول وليس بكين، وهي رؤية مغايرة للناتو الذي يقتنع بأن الصين تشكل الخطر الأكبر. والدليل على ذلك أنه في لقاء ستولتنبرج مع رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، وكذلك مع وزيري الدفاع والخارجية، تجنب الجانب الكوري الجنوبي الحديث عن الصين قدر الإمكان. وهذا يدل على أن المخاوف الأمنية لكوريا الجنوبية حتى الآن لا تزال تركز بشكل أساسي على قضية شبه الجزيرة، وذلك لعدة اعتبارات منها أن الصين على الأقل في الوقت الحالي تستهدف التعافي الاقتصادي وإصلاح علاقاتها التي تضررت بشكل بالغ مع واشنطن بعد حادثة المنطاد وليس استهداف كوريا الجنوبية.
وبالانتقال إلى جولة وزير الدفاع الأمريكي، فقد جاءت التفاهمات التي تم التواصل لها مع مانيلا كأبرز انعكاسًا لجولته الآسيوية التي شملت أيضًا كوريا الجنوبية والفلبين وبعد حصول بلاده على أربع قواعد عسكرية جديدة في الفلبين، وأكد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن واشنطن لا تسعى إلى تواجد جنودها الدائم هناك. ولكن اتفاقية التعاون الدفاعي الموسع ونشر القوات بالتناوب تمنح الجانبين فرصة لإجراء التدريبات وللتصدي بشكل فعال لمختلف الأزمات، التي تحدث ليس فقط في الفلبين، بل في جميع أنحاء المنطقة وهو ما يستدعي وجود شبه دائم على عكس ما ذكر أوستن.
يُذكر أنه بين الولايات المتحدة والفلبين تحالف أمني لسنوات عديدة، يتضمن معاهدة الدفاع المتبادل واتفاقية التعاون الدفاعي الموسع عام 2014 التي سمحت للقوات الأمريكية باستخدام خمس قواعد فلبينية، بما في ذلك ما يقع بالقرب من المياه المتنازع عليها. كما تسمح للجيش الأمريكي بتخزين المعدات والإمدادات في هذه القواعد، ووفقًا لمجموعة “آي بي إس – سي بي إن” الإعلامية، توقفت عملية تحديث الاتفاقية في عهد الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي. لكن الإدارة الجديدة تسعى إلى تسريع تنفيذها، ونتيجة تجديد الاتفاقية تحصل الولايات المتحدة على 9 قواعد عسكرية. وكانت الولايات المتحدة أعلنت تخصيص أكثر من 82 مليون دولار لاستثمارات البنية التحتية في المواقع الخمسة الحالية بموجب الاتفاقية.
ومن منظور تاريخي فإنه منذ عام 2002 إلى عام 2012، كان التحالف بين مانيلا وواشنطن يركز بالكامل تقريبًا على مهمة مكافحة الإرهاب في جنوب الفلبين. ولكن بعد ذلك سيطرت الصين على سكاربورو شول – وهي منطقة مرجانية وأرض صيد فلبينية تاريخية، وأدى التنمر والتهديدات الصينية المستمرة في العقد منذ ذلك الحين إلى تكوين إجماع استراتيجي في مانيلا على أن الفلبين تواجه تهديدًا خارجيًا بعد كل شيء، وتهديد تتزايد حدته. ويتوقف مستقبل التحالف على ما إذا كانت الولايات المتحدة ستلتزم بالمساعدة في الدفاع ضده، وما إذا كانت الفلبين ستتخذ الخطوات الضرورية والمكلفة والمحفوفة بالمخاطر لتحقيق ذلك.
–محاولات لردع إيران: يضاف إلى ما تقدم، أن إيران التي ترى القوى الغربية أنها أمعنت في تحركاتها ودعمت موسكو بشكل كبير عن طريق الطائرات دون طيار، باتت هي الأخرى تحتاج إلى نوع من الردع العسكري، وبالتالي فإن هناك حاجة للتواصل مع الشركاء والحلفاء في هذا الصدد وإبلاغهم بطبيعة التحرك أو ترتيباته، وهو ما يشكل ضربة غير مباشرة لتحالف روسيا والصين وإيران. خصوصًا أن الغرب يرى أن تحركه لمواجهة الصين الآن هو تحرك متأخر إلى حد كبير، وأنه كان يجب ردع الصين مسبقًا ولا تريد القوى الغربية تكرار نفس الأمر مع إيران، ولذلك فإن استراتيجية الناتو التي تم الإعلان عنها خلال العام الماضي ذكرت الصين وروسيا صراحة.
– حروب الوكالة: لدى حلف الناتو قناعة بأنه للقضاء على قوة ما أو حتى تطويقها فإنه ينبغي الدخول معها في حرب غير مباشرة أو حرب بالوكالة في بلد أضعف كما هو الحال في أوكرانيا، وهي الرؤية التي تصطدم مباشرة بالصين التي ترى أن منطقة الهادي ليست ساحة للتنافس الجيوسياسي بأي حال من الأحوال، بل إنها ترى أن تحركات الغرب العدائية في المنطقة سيكون لها انعكاسات سيئة على الأمن الأوروبي، وقد أشار مبعوث الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، قبل قمة الناتو في عام 2022 إلى أن توسعات الناتو باتجاه الشرق بعد الحرب الباردة لم تنجح قط في جعل أوروبا أكثر أمنًا بل أنها بذرت بذور الصراع. مع الأخذ بالحسبان أن الاهتمام الأكبر بالنسبة للصين، ونظرًا لطول أمد الحرب هو ألا تمتد هذه الحرب إلى مناطق أخرى من العالم، وحتى التقديرات العسكرية الأمريكية تشير إلى أن بكين لن تكون جاهزة للتحرك لتغيير الوضع في تايوان من طرف واحد قبل 2027. وعلاوة على ذلك فإنه ليس هناك سابقة للصين كدولة في محاولة التدخل العسكري أو التوسع ناحية الغرب لا منفردة ولا بمساعدة الحليف الروسي، وذلك على العكس من حلف شمال الأطلنطي الذي حاول باستمرار الذهاب إلى أبعد من منطقته الدفاعية التقليدية، مما ينفي عنه صفة الحلف العسكري الدفاعي.
–الضغط على موسكو: تستهدف جولة أمين عام حلف الناتو ووزير الدفاع الأمريكي الضغط على موسكو لإجبارها على الجلوس على مائدة المفاوضات، خصوصًا أن أوستون ” وزير الدفاع الأمريكي” وخلال زيارته لكوريا الجنوبية اتفق على إجراء تدريبات نظرية لتعزيز الردع ضد التهديدات النووية، في ظل سعي بيونج يانج لتوسيع ترسانتها النووية والتزود بصواريخ جديدة.
ختامًا، يعد كل ما تقدم علامات بارزة على عسكرة استراتيجية الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي ناحية بكين، وهو ما يعود إلى استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني لإدارة أوباما، إلا أنها تسارعت في عام 2021، خصوصًا بعدما أصبحت الحرب في أوكرانيا هي مصدر آخر للاحتكاكات بين واشنطن وبكين. حيث أصبحت بكين مصدرًا رئيسًا لصادرات روسيا، مع زيادة وارداتها من النفط والغاز والأسمدة والمعادن الاستراتيجية الروسية. علاوة على ذلك، أكد المسؤولون الصينيون مرارًا وتكرارًا على أهمية الشراكة الاستراتيجية الصينية الروسية “بلا حدود” التي تم تشكيلها في فبراير الماضي، ووصفوها بأنها “نموذج” للعلاقات بين القوى الكبرى. وعلى الجانب الآخر تود واشنطن أن ترى بكين تتجه بعيدًا عن روسيا لدعم إنهاء الصراع الذي يعترف بالعدوان الروسي، لكن هناك القليل من الدلائل على أن مثل هذه الخطوة وشيكة.
.
رابط المصدر: