في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي من الآثار السلبية الناجمة عن جائحة الكورونا والتي تسببت في وقف الإنتاج وإغلاق الاقتصادات، وزيادة الإنفاق على سياسات الصحة العامة، بالإضافة إلى حزم التحفيز الاقتصادية التي أقرتها البلدان المختلفة لاحتواء أثار الأزمات الاقتصادية المصاحبة للجائحة، وهو ما دفع معدلات الدين الخارجي لمعظم بلدان العالم للارتفاع بشكل كبير في الثلاث أعوام الأخيرة، لكن قراءة الدين الخارجي للبلدان لا يمكن أن تتم دون فهم تفاصيل تلك الديون والتي تتمثل في معدلاتها إلى الناتج المحلي الإجمالي، ونسبها الآمنة، واستحقاقاتها المختلفة عبر السنوات.
تمويل النمو
تعد الديون مصدر من مصادر الدول لتمويل العجز في موازنتها العامة ومن ثم استمرار الدولة في أداء مهامها بل ودفع عملية النمو الاقتصادي، فإذا كان اقتصاد دولة ما يمثل 1000 دولار وترغب الدولة في تحقيق نمو اقتصادي بواقع 10 % فإن ذلك النمو يأتي من مصدرين رئيسيين وهم إما جذب استثمار أجنبي مباشر بقيمة 100 دولار لضخ استثمارات بالاقتصاد ومن ثم تمويل ذلك النمو، أو من خلال تمويل تلك الزيادة من خلال الاستدانة الخارجية ومن ثم زيادة حجم الاقتصاد بالمبلغ المطلوب، ومن ثم فإن وجود الديون في حد ذاتها هي أمر جيد ومطلوب للنمو الاقتصادي، ولا توجد دولة في العالم تستطيع تحقيق نمو اقتصادي مرتفع دون الحصول على ديون، وهو الأمر الذي يفسر اتجاه دول العالم المتقدمة قبل النامية منها للحصول على ديون من خلال إصدار سندات، حتى أن الدول التي لديها فوائض في ميزانياتها تتجه أيضا إلى الحصول على ديون لتسريع وتيرة النمو باقتصاداتها.
لكن التخوف من الديون يتزايد عندما تكون الديون بعملات غير العملة الوطنية للبلاد، خاصة مع وجود تذبذب في قدرات الدول على توليد تدفقات نقدية بالعملات الأجنبية التي يمكن الاعتماد عليها لسداد تكلفة الديون والأقساط وفقا للأوضاع الاقتصادية الخارجية والأوضاع الداخلية للبلدان، أو أن مستويات الدين في تلك الدولة تخطت قدرتها على الوفاء بها وبالتزامها ومن ثم يدور الحديث دائما عن النسبة الآمنة من الاستدانة بالاقتصاد. وهو أمر يثار حوله جدل كبير؛ فالبعض يشير إلى 40 % حيث أن الأمر أكثر تعقيدا من مجرد نسبة تتم الإشارة إليها، لكن توجد العديد من العوامل التي تتمثل في توافر احتياطيات النقد الأجنبي بالبلاد، ومعدل التحسن في الميزان الجاري والرأسمالي، وتماسك المالية العامة وتحسن نسب العجز، وقدرة الاقتصاد على النمو ومن ثم تحسن قدرته على احتواء تكاليف الاستدانة.
ما هو وضع الاقتصاد المصري
تسببت الأوضاع الاقتصادية العالمية التي تشابه في أثرها أثر الحروب العالمية بل وربما تفوقها، إذ تسببت أزمة الكورونا في مشاكل بسلاسل التوريد عالميا، وكان للحرب الروسية الأوكرانية أثر كبير في ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا، ومن ثم تحولت البيئة الاقتصادية العالمية إلى بيئة مرتفعة أسعار الفائدة، وهو ما أثر بشكل كبير على الميزان الرأسمالي لمعظم دول العالم وخاصة منها الاقتصادات الناشئة والنامية (قدرتها على الاستدانة أو جذب الاستثمارات في الأموال الساخنة)، وقد مرت مصر بتحد كبير في قدرتها على توفير سيولة بالعملات الأجنبية نتيجة لخروج جزء كبير من الاستثمارات غير المقيمة في الأموال الساخنة المحلية بحوالي 20 مليار دولار أمريكي، وترتب على تلك الأوضاع الاقتصادية ارتفاع الدين الخارجي لمصر بمعدل نمو سنوي مركب عن الفترة بين 2019 – 2022 بنسبة 11.5 % (وفقا لبيانات البنك الدولي)، كان لعام الجائحة مساهمة كبيرة في ذلك الارتفاع، حيث ارتفع الدين في عام 2020 بنسبة 14.3 % على أساس سنوي، وتلي ذلك ارتفاعه في العام 2021 بنسبة 10.6 %، ويمكن الربط بشكل كبير بين الزيادة في تلك الديون وبين تمويل عجز الموازنة العامة بالدولة بهدف الإنفاق على الرعاية الصحية في البلاد أثناء فترة الجائحة والتي استمرت لمدة عامين ونصف تقريبا (2019 وحتى النصف الأولى من عام 2022)، كان معظم تلك القروض بسبب الجائحة؛ إذ حصلت مصر على قروض بقيمة 2.8 مليار دولار بموجب“ أداة التمويل السريع ”والذي استقبلته مصر في مايو 2020 للمساعدة في دعم ميزان المدفوعات وسط الجائحة. واستقبلت مصر أيضا من صندوق النقد الدولي مبلغ 3.6 مليار دولار في عام 2020 من الاستعداد الائتماني بقيمة 5.2 مليار دولار في عام واحد. أما عن باقي الدين فقد حصلت مصر على تمويل من خلال بيع سندات في السوق الدولية بمبلغ 5 مليار دولار.
الشكل 1: Source – macrotrends
وفقا لما سبق عرضة فإن نسبة الدين الخارجي المصري إلى الناتج المحلي الإجمالي المقوم بالجنيه المصري وفقا لسعر الصرف الجاري يعد عند مستوى 38 % وهي نسبة تقترب من المتوسط متوسط السنوات الخمس السابقة لنسبة الدين المصري إلى الناتج المحلي الإجمالي البالغ 37.8 %، وفي حال المقارنة بدولة تركيا كدولة تتسم بخصائص ديمغرافية وجغرافية وهيكل صناعة مشابه للدولة المصرية فإن الوضع الحالي للدولة المصرية من حيث نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي أفضل.
لكن كما سبق الإشارة فإن الاعتماد على مؤشر واحد لقياس ما إذا كان الديون في مستوى آمن من عدمه هو أمر غير صحيح، حيث أن الجهة المانحة للتمويل وآجال الاستحقاق تؤثر بشكل مباشر على تقيمنا لمستوى الديون بالدول إذا كانت في مستويات مقبولة من عدمه، فبالنظر إلى الدولة المصرية ووفقا لتقرير البنك الدولي “International Debt Report 2022” فإن نسبة الديون الممنوحة من جانب صندوق النقد الدولي وفقا لبيانات العام 2021 تمثل 16.5 % (23.6 مليار دولار من إجمالي دين بحوالي 143.2 مليار دولار وفقا لبيانات الدين عن العام 2021)، بينما تمثل تلك النسبة في دولة تركيا 1.8 % فقط، ومن الجدير بالذكر أن الديون من المؤسسات الدولية تمثل أمرا جيدا خاصة وأن تكلفة الدين عادة ما تكون أقل من التكلفة التي يمكن تكبدها في حال اللجوء إلى السوق الدولة من خلال إصدار سندات إذ تتراوح تكلفة الاستدانة من صندوق النقد الدولي من 1.7 % إلى 3.0 % وفقا لحجم استدانة الدولة والذي يتم احتسابه بناء على حصة الدولة بالصندوق.
لكن على الجانب الآخر فإن 10 % تقريبا من الدين المصري الخارجي يستحق في العام 2023 والعام 2024 (7.7 مليار دولار في الفترة من مايو حتى ديسمبر 2023، ومبلغ 8.5 مليار دولار في العام 2024)، وهو ما يشكل ضغط كبير على قدرة الحكومة المصرية على الوفاء بتلك الديون خلال العامين الحاليين خاصة وأن البيئة الاقتصادية عالميا مرتفعة التكلفة تتسبب في انخفاض القدرة على إعادة جدولة تلك الديون بديون جديدة Rolling the debt، وهو ما يدفع الطلب عقود التأمين على أدوات الدين المصرية بعملات أجنبية للارتفاع بشكل كبير، حيث وصل تكلفة عقود التأمين على أدوات الدين الأجنبية باستحقاق عام حوالي 19.82 %، وتصل إلى 20.18 % في العقود باستحقاق عامين، لكنها تعود مرة أخرى للانخفاض في الآجال المستقبلية لتصل إلى حوالي 12.47 % في العقود باستحقاق 10 سنوات.
الشكل 2: المصدر – قاعدة بيانات بلومبرج – 01 مايو 2023
لكن تكلفة التأمين على أدوات الدين المصرية CDS لم تكن في تلك المستويات قبل الحرب الروسية الأوكرانية بتاريخ ديسمبر 2021، إذ أن تكلفة التأمين على السندات المصرية باستحقاق عامين كانت تبلغ 3.81 % وكان منحنى العائد Upward sloping، وهو ما يعني أن الوضع الحالي لارتفاع تكلفة التامين علي الديون المصرية هو وضع استثنائي ومرتبط بالأساس بالتوابع الاقتصادية التي تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية على أسواق المال العالمية، والتي اثرت بشكل سلبي على الميزان الرأسمالي للبلاد
لكن تاريخيا لم يسبق للحكومة المصرية أن تعثرت في سداد أي دين أو عوائده، وهو ما أكدته تصريحات السيد رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 29 أبريل 2023، فعلى سبيل المثال يستحق أحد أدوات الدين المصرية (أذون خزانة) تم إصدارها بتاريخ 2 مايو 2022 في تاريخ 2 مايو 2023 بقيمة مليار دولار، والتزمت الدولة المصرية في سداد تلك المستحقات في موعدها، حيث لم يجد البنك المركزي أي صعوبة في بيع اذون خزانة بمبلغ 1 مليار دولار أمريكي في الأول من مايو 2023 ليتم استخدامها في سداد الأذون المستحقة، وعليه فعلى الرغم من ارتفاع معدلات عوائد CDS (Credit Default Swap)، إلا أنه من غير المتوقع أن تتعثر الحكومة المصرية في سداد أي من الدين او عوائده في المواعيد المحددة، إذ تضع الدولة المصرية مسالة التزامها نحو الدائنين كأولوية قصوي إذ انها تؤثر بشكل مباشر على سمعة مصر في السوق الدولي.
الشكل 3: المصدر – قاعدة بيانات رويترز – 01/05/2023
على الرغم من الضغوط الكبيرة التي تواجهها الدولة المصرية في الوقت الحالي في توفير عملات أجنبية للوفاء باحتياجاتها من استيراد السلع الأساسية، أو سداد تكاليف خدمة الديون والأقساط في موعدها، إلا أن البيانات الإيجابية والتحسن الذي يشهده الميزان التجاري المصري، والتزام الدولة المصرية الصارم في سداد تكاليف الديون وأقساطه في المواعيد المحددة، وإعلان رئيس الحكومة أن تاريخ الدولة المصرية لا يوجد به تعثر في سداد الديون وأن الدولة المصرية قادرة على الوفاء بالتزاماتها في الموعد المحدد، مع وجود خطة جار العمل عليها على قدم وساق نحو تمكين القطاع الخاص وجذب موارد دولارية بحوالي 2 مليار دولار خلال الستة أشهر الأولى من إعلان البرنامج، فإن كل تلك تعد مؤشرات إيجابية تدعم الرأي الذى يتم تبنيه وهو أن الضغوط التي تواجهها الدولة المصرية في الوقت الحالي استثنائية ومؤقتة ستنخفض أثارها مع تحول الاقتصاد العالمي عن السياسات الانكماشية مرتفعة أسعار الفائدة، ولحين الوصول إلى تلك المنطقة الدافئة فإن الدولة المصرية تعمل جاهدة على توفير موارد دولارية من مسارات متعددة، لتأمين التزامات واحتياجات الدولة المصرية من العالم الخارجي.
.
رابط المصدر: