تمهيد:
تشهد القارة الإفريقية اليوم واحدًا من أكبر التحولات الحضرية في التاريخ البشري؛ حيث تنمو المدن بوتيرة سريعة وغير مسبوقة، ولا يقتصر هذا التحوُّل على ما يطرحه من تحديات في مجالات التخطيط وتوفير الخدمات والبنية التحتية، بل يُتيح أيضًا فرصًا جديدة لإعادة تصوُّر مستقبل التنمية في إفريقيا، فالتحضُّر لم يَعُد مجرد خيار، بل أصبح واقعًا ديموغرافيًّا متصاعدًا يستوجب جاهزية مؤسسية، وابتكارًا في أساليب الإدارة، واستباقًا للفرص التنموية المستدامة، ضمن سياق إفريقي غنيّ بالتنوع والخصوصية.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية تقرير “ديناميات التحضر في إفريقيا لعام 2025م”؛ الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية Organization for Economic Co-operation and Development بالتعاون مع شركاء آخرين؛ أبرزهم بنك التنمية الإفريقي African Development Bank، ومكتب الأمم المتحدة، بوصفه مرجعًا لفهم التحولات الحضرية المتسارعة التي تشهدها القارة، والتحديات الكبرى التي تفرضها الزيادة السكانية داخل المدن.
وعليه، يُركِّز التقرير على ضرورة التخطيط المسبق للتوسع العمراني؛ من خلال تقديم بيانات وتوقّعات ديموغرافية ومكانية دقيقة، كما يُسلِّط الضوء على أوجه القصور في الحكم المحلي، وأهمية الاعتراف بالاقتصادات غير الرسمية، والحاجة المُلِحَّة لتعبئة الموارد وتوجيه الاستثمارات بما يتماشى مع النمو الحضري، كما يُقدِّم التقرير مجموعة من التوصيات لصنّاع القرار ومُعِدِّي السياسات في مجالات التخطيط العمراني، وتمويل البنية التحتية، وإدارة المناطق الحضرية، بما يضمن بناء مدن إفريقية مستدامة وشاملة لكافة الخدمات في العقود المقبلة.
أولًا: التحوُّل الحضري المتسارع
يشهد المجال الحضري في إفريقيا تحوُّلات غير مسبوقة من حيث الحجم والسرعة، ما يجعل فَهْم ديناميات هذا التوسع ضرورة مُلِحَّة لصُنَّاع القرار والمخططين الحضريين، خصوصًا في ظل ما تكشفه التقديرات المستقبلية من تسارع النمو السكاني وتمدُّد المدن.
وفي هذا الإطار يشير تقرير “ديناميات التحضر 2025م” إلى أنه على مدى العقود الثلاثة القادمة، ستتضاعف الكتلة السكانية الحضرية في إفريقيا من حوالي ٧٠٤ ملايين نسمة إلى ١,٤ مليار بحلول عام ٢٠٥٠م، لتصبح القارة في المرتبة الثانية عالميًّا من حيث عدد السكان الحضريين بعد آسيا، كما تشير تقديرات التقرير إلى أن نيجيريا وحدها ستضم ما يقارب ٢٥٠ مليون نسمة في مدنها، لتصبح من بين أكبر التجمعات الحضرية في العالم.
وعن إفريقيا بشكل أكثر اتساعًا، يوضّح التقرير أن المدن الإفريقية ستستوعب حوالي ٨٠٪ من النمو السكاني المتوقع، على أن يعيش ثلثا سكان القارة في المناطق الحضرية مع حلول منتصف القرن (2050م).
يمثل هذا التحول الحضري تحديًا مُلِحًّا وفرصًا غير مسبوقة. فبينما يُهدّد التوسع غير المنظم بزيادة معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي، يُتيح في الوقت ذاته إمكانيات هائلة لإعادة تخطيط المدن على أُسُس من الاستدامة والعدالة، إلا أن نجاح هذا المسار يتوقف على وجود رؤى إستراتيجية تتضمَّن تخطيطًا مبكرًا، وإدارة حضرية فعَّالة، وحكم رشيد قادر على توجيه التمويل نحو أولويات التنمية الحضرية.
على منحى آخر، يبرز تقرير “ديناميات التحضر” عددًا من التحولات الحضرية الجذرية التي ستمر بها القارة؛ حيث تُظهر بياناته أن عدد التجمعات الحضرية في القارة سيرتفع من ٩,٠٠٠ في ٢٠٢٠م إلى أكثر من ١١,٠٠٠ تجمع حضري بحلول عام ٢٠٥٠م. وبحلول ذلك الوقت، ستضم إفريقيا ١٥٩ مدينة يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة، و١٧ مدينة كبرى يفوق عدد سكانها ١٠ ملايين، ما يجعلها في المرتبة الثانية عالميًّا من حيث عدد المدن الضخمة.
وتُشدّد بيانات التقرير على أن أكثر من ثلثي النمو الحضري سيتركز في هذه المدن الكبرى؛ حيث سيرتفع عدد سكانها من ٣٢٥ مليون في ٢٠٢٠م إلى نحو ٨٣٦ مليون في ٢٠٥٠م، وفي الوقت نفسه، سيشهد سكان التجمعات الصغيرة (ما بين ١٠,٠٠٠ و١٠٠,٠٠٠ نسمة) نموًّا عدديًّا، ولكن مع انخفاض نسبي في حصتهم من إجمالي السكان الحضريين، ما يعكس توجهًا واضحًا نحو التمدد العمراني في المدن الكبرى والمتوسطة.
ومن المهم: الإشارة إلى أن التحوُّل الحضري في إفريقيا لن يقتصر على البُعد السكاني فحسب، بل سيشمل البنية العمرانية ذاتها؛ إذ يُتوقَّع أن تتضاعف المساحات الحضرية المبنية من ١٧٥,٠٠٠ إلى ٤٥٠,٠٠٠ كيلومتر مربع بين عامي ٢٠٢٠ و٢٠٥٠م. ويعني ذلك ضرورة توفير أراضٍ وخدمات ومرافق جديدة تشمل هذا الإسكان الجديد، والبنية التحتية العامة، والنقل، والأنشطة الاقتصادية، مما يستدعي جاهزية مؤسسية وتخطيطًا استباقيًّا لتفادي العشوائية وتعزيز الاستدامة.
ثانيًا: التمدّد الحضري… أرقام تسبق الجاهزية
في وقت تتسارع فيه وتيرة التحضّر العالمي، تبدو إفريقيا على مشارف تحوُّل حضري هائل، تُنذر مؤشراته بأن الأرقام تسبق الاستعداد له، وأن الامتداد العمراني القادم سيفرض معادلات جديدة على صعيد التخطيط والسياسات العامة. وفي هذا السياق، يشير تقرير “ديناميات التحضر في إفريقيا لعام 2050م” إلى أنه على مدى العقود الثلاثة المقبلة، ستشهد إفريقيا زيادة غير مسبوقة في عدد سكانها الحضري؛ حيث سيتضاعف عدد الأشخاص الذين يعيشون في المدن، ففي الفترة ما بين 2020 و2035م، سيزداد عدد سكان الحضر في إفريقيا بقدر ما ازداد عدد سكان الحضر في أوروبا وأمريكا الشمالية خلال الخمسين عامًا الماضية (345 مليون نسمة)، وبحلول عام 2050م، سيكون عدد سكان المدن في القارة قد ارتفع بمقدار 704 ملايين نسمة، ليكون إجمالي سكان المدن فقط في إفريقيا 1.4 مليار نسمة، وستكون إفريقيا موطنًا لبعض أكبر مدن العالم؛ إذ ستصبح مدن مثل نيروبي، القاهرة، لاجوس، من أكبر المدن خارج آسيا.
أما عن أكثر الدول الإفريقية –وهي عشر دول- التي يُتوقع أن يكون لديها نموّ سريع في عدد السكان الحضريين (2020- 2050م)؛ فيوضّحها الجدول التالي:
جدول رقم (1)
الدول الإفريقية العشرة الأعلى في متوسط النمو المتوقع لسكان المناطق الحضرية، في مقابل القارة الإفريقية ككل خلال الفترة (٢٠٢٠– ٢٠٥٠م)
Source: Adopted from: “Africa’s Urbanisation Dynamics 2025: Planning for Urban Expansion”, (Paris: Organisation for Economic Co-operation and Development, Mar 2025),
On: https://www.oecd.org/en/publications/2025/03/africa-s-urbanisation-dynamics-2025_005a8aa0.html, p.31,
يعكس الجدول أعلاه اتجاهًا واضحًا نحو تسارع التحضر في عددٍ من الدول الإفريقية؛ حيث تُظهر دول مثل النيجر (٤٫٢٪)، والصومال (٣٫٧٪)، وغامبيا (٣٫٦٪) أعلى معدلات نموّ سنويّ متوقع في السكان الحضريين خلال الفترة (٢٠٢٠– ٢٠٥٠م)، ويتجاوز هذا النمو مستوى متوسط إفريقيا البالغ ٢٫٣٪، ما يشير إلى تحولات سريعة في توزيع السكان نحو المدن.
ومن اللافت أن معظم هذه الدول، مثل النيجر وبوركينا فاسو وتشاد، لا تزال ذات مستويات حضرية منخفضة (أقل من ٤٠٪ عام ٢٠٢٠م)، وفي المقابل، تظهر دول مثل غينيا الاستوائية وأوغندا بمستويات تحضر أعلى، مما يعكس تطورًا نسبيًّا في بنيتها التحتية الحضرية، رغم استمرار النمو السريع. وعن مستوى التغير المتوقع في مستويات التحضر في بعض دول القارة الإفريقية فيوضحها الشكل التالي:
شكل رقم (1)
التغير المتوقع في مستويات التحضر بالقارة الإفريقية (بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا) خلال الفترة (2020 – 2050م)
Source: Ibid, p.34.
يعكس الشكل البياني (رقم 1) أعلاه التغير المتوقع في مستويات التحضر في الدول الإفريقية بين عامي ٢٠٢٠ و٢٠٥٠م؛ حيث يتضح تباين كبير في وتيرة هذا التحول بين الدول، فبينما تتجه دول مثل مصر وكينيا وموريشيوس نحو مستويات تحضر عالية قد تتجاوز ٨٠٪، فإن دولًا مثل النيجر ومدغشقر وإثيوبيا ما تزال عند مستويات منخفضة، ورغم أن التوسع الحضري يُعد ظاهرة عالمية، فإن وتيرته وحجمه في إفريقيا يتجاوزان في كثير من الحالات قدرة الحكومات الإفريقية على التخطيط والإدارة والاستثمار في مدن منتجة ومستدامة وصالحة للعيش، وهو ما يشدّد عليه التقرير في أكثر من مناسبة.
وكما هو الحال في مناطق أخرى من العالم، فإن النمو السكاني الحضري سيقود حتمًا إلى توسع في المساحات الحضرية؛ حيث إن كل وافد جديد إلى المدينة سيحتاج إلى سكن وفرص للعمل وسلع وخدمات، ما يزيد الضغط على المساحات الأرضية المطلوبة، وتزداد الحاجة تبعًا لذلك إلى إنشاء مساكن ومتاجر ومصانع ومدارس وعيادات وكافة المرافق الحكومية اللازمة، ومساحات خضراء وأماكن عبادة، وهي جميعها ضرورية لتوفير حياة حضرية كريمة ومتكاملة. ويفرض ذلك على صُنّاع القرار في إفريقيا ضرورة تبنّي رؤية حضرية طويلة المدى، قائمة على التوازن بين النمو السكاني ومتطلبات الاستدامة، حتى لا يتحوَّل التحضر من فرصة إلى عبء وأزمة.
ثالثًا: التخطيط الحضري… ضرورة مُلِحّة لضَبْط التحوّل العمراني
في سياق التحول الحضري المتسارع في إفريقيا، تبرز أهمية التخطيط الحضري كعنصر حاسم في تشكيل جودة الحياة الحضرية؛ حيث تؤثر الكيفية التي تُبنَى بها المدن على جميع أوجه الحياة اليومية للسكان، بما في ذلك الوصول إلى الوظائف والخدمات الأساسية، ومستوى الصحة العامة، وأنماط الحياة الاجتماعية، والسلامة، وتكاليف المعيشة.
ولم تَعُد هذه التأثيرات مقتصرة على الأفراد فحسب، بل إنها ستمتد إلى المجال الاقتصادي؛ إذ يُعدّ التخطيط الحضري عاملاً مفصليًّا في رفع إنتاجية الشركات، وهي ميزة تعتمد بدرجة كبيرة على توفر البنية التحتية والخدمات العامة، فالربط بين السكان والأنشطة الاقتصادية يتطلب شبكات نقل فعَّالة تُتيح التنقل السلس للأشخاص والسلع، وهو ما يؤدي إلى توسيع أسواق العمل والخدمات والبضائع.
ومع النمو الحضري، تزداد الحاجة إلى القرب الجغرافي بين الأنشطة الاقتصادية والسكان لتسهيل التواصل والابتكار وتقليل التكاليف. وفي المقابل، فإن غياب التخطيط وسوء البنية التحتية يؤديان إلى أزمات مرورية وتكاليف تشغيلية مرتفعة تُعيق قدرة المدن على أداء وظائفها.
ورغم ذلك، لا يزال التخطيط الحضري في معظم المدن الإفريقية متأخرًا عن رَكْب التحولات السكانية. فالكثير من المدن تنمو في غياب خطط شاملة، أو وفق خطط لا تستجيب لحجم وسرعة التحضر، ما يؤدي إلى أزمات في إدارة المدن، وعجز مستمر في البنية التحتية والخدمات، ويقوّض قدرة المدن على التصدي بفعالية للتحديات والأزمات المتراكبة. لذلك، فإن المرحلة الممتدة حتى عام 2050م –والتي تمثل ذروة النمو الحضري– تُعدّ نافذة حاسمة لاتخاذ قرارات إستراتيجية تُوجِّه هذا النمو وتُجنِّب القارة تبعات الفوضى العمرانية.
وتتزايد اليوم أهمية دَمْج التخطيط الحضري مع التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والمناخية؛ بحيث تعكس سياسات التخطيط رؤية جماعية لتوزيع فوائد التنمية، وتحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والمصالح العامة، كما يجب أن يكون التخطيط الحضري في إفريقيا معنيًّا بمعالجة قضايا كبرى، مثل التكيُّف مع تغيُّر المناخ، عبر حماية المناطق الطبيعية، والتقليل من الانبعاثات، وتوجيه البناء بعيدًا عن المناطق الخطرة، إلى جانب بناء مدن أكثر شمولًا للمهاجرين والفئات الهشَّة. وهكذا، يتحول التخطيط الحضري من مجرد أداة تنظيمية إلى رافعة مركزية لتحقيق تنمية حضرية عادلة ومستدامة في إفريقيا.
رابعًا: إدارة المدن في إفريقيا
تُعتبر إدارة وتنظيم المدن أمرًا ضروريًّا لمواكبة النمو السريع الذي تشهده المدن الإفريقية اليوم، ويشمل ذلك وضع السياسات، وتوفير الموارد، وضمان تقديم الخدمات العامة بشكلٍ فعَّال. وفي إفريقيا، تحتاج المدن إلى مؤسسات وكوادر محلية قوية تمتلك السلطة والموارد اللازمة للتعامل مع هذه التحديات، وحتى الآن، كثير من المدن الإفريقية تعاني من ضعف المؤسسات وعدم كفاية الدعم المالي والسياسي، ما يعيق من قدرتها على الاستفادة الكاملة من فرص النمو الحضري.
وفي هذا السياق يشير تقرير ديناميات التحضر إلى أهمية أن تتشارك المجتمعات المحلية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في صنع القرارات المتعلقة بإدارة المدن؛ لضمان أن تكون السياسات والخدمات تلبي احتياجات السكان بشكل عادل وشامل ومستدام، كما يجب أن تتبنَّى الحكومات الوطنية خططًا واضحة تشمل تنظيم المدن ضمن خطط التنمية العامة، مع التركيز على تحقيق نمو حضريّ متوازن ومستدام يُسهم في تحسين جودة حياة الجميع.
إلا أن التحدي الأكبر هو أن الوقت المتاح أمام صانعي السياسات محدود؛ لأن النمو الحضري في إفريقيا سريع جدًّا، ولن يستمر بنفس المعدل إلى الأبد، لذا يجب الإسراع في تحسين إدارة المدن؛ لأن فرص تصحيح الأخطاء ستصبح أقل وأكثر تكلفة مع مرور الوقت. وإذا لم تتحسن المؤسسات الحضرية، فإن المدن قد تتحول إلى مناطق غير متساوية؛ حيث يعيش الأغنياء في أحياء مجهَّزة جيدًا، بينما يعيش الأغلبية في أحياء غير مخدومة وظروف معيشية صعبة.
وعليه، يحتاج الأمر إلى تغيير في الطريقة التي تُدار بها المدن؛ بحيث تشمل – كما ذكرنا أعلاه- جميع الأطراف المعنية، وأن تعمل على بناء توافق واسع حول الأهداف والخطط بين السكان المحليين والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، لا سيما في وضع السياسات، ما يزيد من فرص نجاحها واستمراريتها.
خامسًا: المدن غير المُدرَجة بالخرائط والتنافس بين الأحياء الرسمية وغير الرسمية
لا تُقاس قيمة الحي في المدينة فقط بما يضمّه من مبانٍ وسكان، بل بما إذا كانت الدولة تراه أصلًا على الخريطة، ففي كثير من المدن الإفريقية، هناك مناطق كاملة تنمو وتتمدّد خارج إدراك الدولة، وكأنها مدن غير مرئية، ما يفتح الباب أمام صراع بين الاعتراف بمدن معينة، والتجاهل والتهميش لمدن أخرى.
في هذا الإطار يشير تقرير ديناميات التحضر إلى بعض المدن الإفريقية الغائبة عن الإدراج في الخرائط الرسمية، مثل ما حدث في كوتونو (Cotonou) العاصمة الاقتصادية لبنين؛ حيث يقع حي “لادجي” Ladji)) الذي كان في الأصل قرية في منطقة عرضة للفيضانات على الضفاف الجنوبية لبحيرة نوكوي (Nokoué)، وقد اندمج الحي في المدينة مع توسّعها الخارجي، وفي هذا السياق تقول إحدى سكان المدينة “منذ وقت ليس ببعيد، عندما كنت أطلب من سائق أن يُقِلّني إلى لادجي، كثيرًا ما لم يكن يعرف أين يقع”، غير أن ذلك تغيّر في عام 2018م، حين قامت ثلاث شابات من الحي برسم خريطة له، ضمن مشروع في بنين نظّمه “معهد البحوث من أجل التنمية “(IRD)، بالتعاون مع شركاء آخرين، بفضل هذه المبادرة، وُضع حي لادجي أخيرًا على خرائط جوجل، وحصل على أول حضور كارتوغرافي له، أي يكون للحي موقع مرسوم ومعروف على الخريطة، ومِن ثَم يكون معترفًا به رسميًّا. وتُظهر هذه المبادرة التشاركية في رسم الخرائط، وما أثارته من ردود فعل، الدور الحيوي الذي يلعبه سكان الأحياء غير الرسمية في التحوّلات الحضرية.
من جهة أخرى، يُنبِّه التقرير إلى المساكن غير الرسمية –أي الأبنية السكنية التي يتم بناؤها دون تخطيط أو دون إذن السلطات الرسمية ذات الصلة–، والتي تشهد نموًّا سريعًا في إفريقيا، بما يُمثّل تحديًا للتمدن في القارة، خاصةً أن هذا النوع من التوسع يُفاقم الفجوة بين الأحياء الرسمية وغير الرسمية، نتيجة سياسات “عدم التدخل” التي سادت منذ أزمات الثمانينيات الاقتصادية وبرامج التكيف الهيكلي المرتبطة بها، فهذه البرامج ساهمت في تقليص دور الدولة في تقديم الخدمات العامة لا سيما مع تخفيض الإنفاق الحكومي، بما في ذلك تقليل تدخل الدولة في تخطيط الأراضي والإسكان.
ورغم أن الأحياء الرسمية تهيمن على السياسات الحضرية والاستثمارات العامة، إلا أن النمو الديموغرافي والمكاني الأكبر يحدث في الأحياء غير الرسمية (المدن غير الرسمية).
وفي هذا السياق، تشير البيانات إلى أن أكثر من 60٪ من المناطق السكنية، و80٪ من الاقتصادات في المدن الإفريقية غير رسمية. وغالبًا ما تقع هذه الأحياء في مناطق مُهمَّشة وعلى أراضٍ غير مُجهَّزة بالخدمات. وقد شكّلت 90٪ من النمو السكاني في الفترة بين 1990 و2015م.
لكن لماذا تحظى المدن الرسمية، وهي أقل كثافة سكانية وأقل ديناميكية، باهتمام سياسي واستثماري أكبر؟ يجيب التقرير عن ذلك من خلال عدة عوامل نبرز أهمها فيما يلي:
- تأثير مؤسسات التمويل الدولية، وتحاملها على الأحياء غير الرسمية.
- غياب أو ضعف السياسات العامة لدمج “المدن غير الرسمية” في التخطيط الحضري.
- مصالح النخب المحلية والفاعلين الذين يدعمون استمرارية الوضع القائم لصالح المدن الرسمية.
- تمثيل المدن الرسمية كرمز للحداثة الحضرية.
- نقص البيانات والأبحاث، مما يَحُدّ من صياغة سياسات حضرية شاملة ومدروسة تخص الأحياء غير الرسمية.
لكن رغم أن مساهماتها –أي الأحياء غير الرسمية- تُغفَل في كثير من الأحيان؛ إلا أنها تؤدي دورًا أساسيًّا في تحقيق التمدن المستدام في إفريقيا، ورغم التحديات التي تواجهها، تُوفِّر هذه الأحياء فرصًا اقتصادية وتؤثر في البنية الاجتماعية والمكانية للمدن الإفريقية، ولعل من أهم هذه الفرص ما يلي:
- العمالة: حيث يوفّر الاقتصاد غير الرسمي وظائف حيوية لعدد كبير من سكان المدن، كذلك تُقدّم الأسواق غير الرسمية منتجات وخدمات بأسعار أقلّ من تلك المتوفرة في الأسواق الرسمية.
- الإسكان: غالبًا ما تكون الأحياء غير الرسمية هي الخيار الوحيد للسكن بالنسبة للوافدين الجدد إلى المدن ولذوي الدخل المنخفض.
- التنظيم المجتمعي: يتمتع سكان هذه الأحياء بشبكات اجتماعية قوية ومرنة. ويُتيح القطاع غير الرسمي حلولاً مبتكرة للمشكلات اليومية، تنشأ منها أشكال من الإدارة الذاتية والتنظيم المجتمعي.
- الثقافة: تمثل الثقافة المحلية أحد أبرز مقومات هذه الأحياء؛ حيث تُسهم الأسواق الشعبية والمهرجانات والفعاليات في إبراز “الهوية الثقافية الإفريقية”، التي يصعب أن تجدها بنفس الوضوح في الأحياء الرسمية.
- البنية التحتية: نظرًا لضعف الخدمات المحلية المُقدَّمة لهم، غالبًا ما تنشئ هذه المجتمعات نُظُمها الخاصة لتوفير المياه والكهرباء وجمع النفايات، كما يُمثِّل النقل غير الرسمي (كالحافلات الصغيرة والدراجات النارية) إحدى الوسائل التي تسمح للسكان بالتنقل.
ومع ذلك، لا تزال هذه الأحياء تُواجه تحديات كبيرة مثل غياب الأمن في ملكية الأراضي، وضعف السلامة العامة، ونقص البنية التحتية والخدمات الأساسية، فالمبادرات التي يقوم بها السكان بشكل غير رسمي تبقى محدودة ولا تكفي لتقليل هشاشة هذه المناطق، خصوصًا في ظل الأزمات المتزايدة مثل تغيُّر المناخ. لذلك، من الضروري أن يعترف صانعو السياسات الحضرية بدور هذه الأحياء، وأن يعملوا على تحسين ظروف المعيشة والعمل فيها، من خلال اعتماد مقاربات شاملة وتشاركية تُتيح إشراك السكان والعمال في التخطيط وصُنْع القرار، بهذه الطريقة يمكن تحويل التحديات إلى فرص لبناء مدن أكثر عدالة واستدامة في إفريقيا.
خاتمة:
في النهاية، يُقدِّم تقرير “ديناميات التحضر في إفريقيا 2025م” رؤية شاملة لمسار التمدّن في القارة خلال العقود الثلاثة القادمة، مستندًا إلى بيانات دقيقة وتحليلات مكانية مُعمّقة، تجعل منه مرجعًا أساسيًّا لكلّ مَن يريد فهم مجال التخطيط الحضري وصياغة السياسات العامة، وذلك من خلال تتبّعه لتطور أكثر من 11.000 تجمع حضري، وباعتماده على قاعدة بيانات أفريكابوليس (Africapolis) -منصة معلوماتية أنشأها مركز التنمية التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)-، وتهدف إلى تقديم بيانات دقيقة وموحدة حول التحضر والتوسع الحضري في القارة الإفريقية.
كما يرسم التقرير صورة واضحة لمستقبل المدن الإفريقية من حيث النمو السكاني، والامتداد العمراني، والتحولات في أنماط التوسع، ويُظهر بجلاء كيف أن القارة تتجه نحو طفرة حضرية ستجعل منها ثاني أكبر موطن للسكان الحضر في العالم بعد آسيا، وهو أمر يحمل في طيّاته فرصًا اقتصادية هائلة، لكنَّه في الوقت ذاته يطرح تحديات جسيمة على مستوى التخطيط، وتوفير البنية التحتية، والخدمات، وضمان العدالة الاجتماعية.
ومع ذلك، فإن التقرير رغم غناه التحليلي، لا يخلو من بعض الملاحظات المهمة؛ إذ يركّز بدرجة كبيرة على التوجهات العامة، ويكتفي في أحيان كثيرة بتقديم توصيات واسعة النطاق دون أن يتطرَّق إلى مستوى التفاصيل التطبيقية التي تهمّ الدوائر المحلية والمجتمعات الحضرية نفسها، كما أن طغيان الطابع الكمّي والتحليل الإحصائي في أجزاء ليست بالقليلة من فصوله يجعل البُعْد الاجتماعي والسياسي للتحضُّر حاضرًا بشكل محدود، رغم أنه لا يقلّ أهمية عن البيانات المجردة، فرغم إشارته إلى ضرورة إشراك السكان في رسم مستقبل مدنهم، إلا أن أصوات هؤلاء السكان، وخاصةً مَن يعيشون في الأحياء غير الرسمية أو يعملون في الاقتصاد غير النظامي، لا تزال غائبة عن النص، وكأن التقرير يتحدَّث عنهم أكثر مما يُصغي إليهم.
ومع ذلك، فإن قيمة التقرير تكمن في كونه يُطلق إنذارًا حضريًّا مبكرًا، يحمل في طيّاته دعوة واضحة للتحرّك السريع نحو تخطيط حضري أكثر شمولًا واستباقية، ويبقى التحدي الحقيقي في تحويل هذه الرؤية إلى سياسات فِعْلية قابلة للتطبيق، تراعي تنوع المدن والبيئات الاجتماعية في إفريقيا، وتعتمد على مشاركة حقيقية من القاعدة إلى القمة، فالمدن لا تُبنَى فقط بالخرائط والنماذج، بل بالبشر والتجارب اليومية، وبالقدرة على تحويل النمو إلى تنمية مستدامة، والتوسع إلى عدالة، والمستقبل إلى فرصة حقيقية لكل من سيعيش في حضر إفريقيا القادم.