في 25 سبتمبر الماضي، تمكن التحالف اليميني في إيطاليا من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان الإيطالي، ليبدأ بعدها بقيادة حزب فراتيلي دي إيتاليا (أخوة إيطاليا)، في تشكيل الحكومة الجديدة التي تخلف حكومة الاقتصادي الخبير الموالي للاتحاد الأوروبي ومدير بنكه الأسبق ماريو دراجي.
مع بداية تشكيل الحكومة الجديدة التي شكلتها جورجيا ميلوني التي تعد أول سيدة تتقلد منصب رئيسة وزراء إيطاليا والمعروفة بنزعتها القومية وتصريحاتها الشعبوية، تشكك المراقبون من أدائها تحديدًا فيما يتعلق بالسياسات الخارجية، نظرًا إلى أن أغلب التشكيل الحكومي جاء بوجوه تتحيز للتحالف عبر الأطلسي أكثر من الوحدة الأوروبية، بالإضافة إلى تواجد وجوه صديقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتن في التحالف على غرار سلفيو برلسكوني وماتيو سالفيني، إلا أن هذه الفرضية لم تكن مبنية على معطيات واقعية. أما الآن ومع مرور الأشهر الأولى لحكومة ميلوني، يمكن التعرف على التوجهات المتعلقة بالسياسات الخارجية من خلال تحليل تحركاتها، بالإضافة إلى تصريحات أعضاء الحكومة وتصوراتهم حول الأزمات العالمية وخاصة في الملف الروسي الأوكراني.
وتتكون السياسة الخارجية الإيطالية من ثلاث دوائر وهي الأوروبية، التحالف عبر الأطلسي، والدائرة الأوسع وهي دائرة المتوسط، وكانت ميلوني أكدت أن “المصلحة الوطنية” هي الدافع الأساسي لحكومتها في سياساتها الخارجية، وهو ما ظهر في التحركات والتوجهات الأولية التي نحللها للتوصل للصورة الأشمل للسياسة الخارجية للتحالف اليميني الحاكم في إيطاليا.
العلاقات مع أوروبا
تعتبر الدائرة الأوروبية هي الأهم بالنسبة للسياسة الخارجية الإيطالية، وعلى الرغم من الاختلاف بين توجهات دراجي و ميلوني، إلا إنه من الواضح أن الحكومة الجديدة ستستثمر في العلاقات الأوروبية والحرص عليها، حيث إنها لن تأخذ نهج مناهض للاتحاد بل ستكون ذات نزعة نقدية قومية داخل أروقته، ولن تغامر بالإسراف في النقد أو خلق التوترات حتى فيما يتعلق بملف الهجرة رغم التصريحات السابقة لميلوني، لعدة أسباب أولها حاجة الاقتصاد الإيطالي للدعم الأوروبي، وحاجة ميلوني لتثبيت أقدام حكومتها، وأهمية تعزيز الشراكات والظهور بمظهر مسؤول يستطيع خلق توازن بين الاحتياجات والسياسات العامة والعلاقات الخارجية.
ومن المقرر أن تحصل إيطاليا على دعم اقتصادي من أوروبا يصل إلى 200 مليار يورو حتى عام 2028 على شكل قروض واستثمارات في إطار خطة الدعم الأوروبية بعد جائحة كورونا، وتعتبر إيطاليا البلد الأكثر استفادة من خطة الدعم الأوروبية، فضلًا عن أن روما تنظر إلى الاستثمارات المباشرة مع جيرانها الأوروبيون، ومناطق الاستثمار الحرة الإيطالية (منطقة الاستثمار الصناعي الحر في لومباردي وفينتو) التي ترتبط بسلسلة من المصانع الأوروبية وخاصة الألمانية على أنها أحد مقومات تعافٍ الاقتصاد الإيطالي بعد الجائحة، وهو ما يؤكد على أن العامل الاقتصادي سيكون محفزًا للحكومة الجديدة للحفاظ على الروابط الأوروبية والابتعاد عن المشكلات خصوصًا مع البنك الأوروبي، بالإضافة إلى عدة ملفات أخرى منها ملف الحرب الروسية الأوكرانية وملف الهجرة.
وبالنظر للأحزاب المكونة للتحالف الحكومي وموقفها من أوروبا، فإن حزب فورزا إيطاليا (تحيا ايطاليا) بقيادة السياسي المخضرم سيلفيو بيرلسكوني المشارك في التحالف اليميني المكون للحكومة، عضو فاعل في حزب تحالف الشعب الأوروبي منذ بداية الألفية، وله سياسة داعمة تتفق مع سياسات الاتحاد الأوروبي وهو ما أوضحته عدة مواقف سابقة، وذلك على العكس من حزب الرابطة الإيطالية “ليجا إيطاليا” اليميني المناهض في سياساته للوحدة الأوروبية بقيادة اليميني ماتيو سالفيني، إلا إنه وبنظرة تحليلية على تصويت البرلمان الذي جاء بح زبي ليجا إيطاليا و فورزا إيطاليا بفارق كبير خلف حزب فراتيلي إيطاليا الذي ترأسه ميلوني، يتضح أن سالفيني وبيرلسكوني لن يكون لهما تأثير كبير على السياسة الخارجية لحكومة التحالف اليميني، فيما ترأست جورجينا ميلوني رئيسة الوزراء الجديدة التجمع الأوروبي للإصلاحيين والمحافظين، الذي يركز على القضايا الأكبر في مواجهة الاتحاد الأوروبي، كقضية الهجرة غير الشرعية التي تشكل أولوية لميلوني وأدت لتصادم سابق بينها وبين الإليزيه.
ومن خلال التصريحات والتحركات المعلنة للحكومة الجديدة، يمكن فهم أنه هذه الحكومة ستركز أولوياتها الخارجية على إعادة تثبيت أقدام روما كلاعب أساسي على الساحة الدولية من العمق الأوروبي، وما يدل على ذلك أولى بيانات الحكومة الجديدة التي أشارت إلى أن ” إيطاليا جزء كامل من أوروبا والتحالف عبر الأطلسي، سنرى المزيد من إيطاليا في أوروبا والمزيد من أوروبا في العالم “، وقد اجتمعت ميلوني في أول تحرك خارجي لها للقاء رؤساء مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، الأمر الذي يرمز إلى إعطاء الحكومة الأولوية للعلاقات الأوروبية البناءة بما في ذلك الدفاع الأوروبي المشترك، لكنها لن تتخلى عن نهجها النقدي حيث ستضطر لخلق توازن بين النقد داخل أروقة الاتحاد ودعم القومية الأوروبية للحفاظ على مظهرها أمام ناخبيها، وللاستفادة الاقتصادية القصوى من الاتحاد والعودة بقوة للساحة الدولية من خلال التحالف مع قوى يمينية أوروبية، فقد دعمت ميلوني حزب الشعب القومي الإسباني كما يتكهن البعض بإمكانية تحقيق تحالف بين حكومة ميلوني وحكومة المجر وبولندا، المتوافقين في سياساتهم القومية في مواجهة الهيمنة الفرنسية الألمانية على أروقة الاتحاد.
الناتو والولايات المتحدة
فيما يتعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، فمن الواضح أن إدارة ميلوني ذات توجه أطلسي متوافق مع السياسات الرامية لتعزيز التعاون عبر الأطلسي والعلاقات مع الولايات المتحدة، وهو موضع أساسي لسياسات اليمين الإيطالي، وما يدلل على ذلك اللقاءات رفيعة المستوى بين القيادة الجديدة في إيطاليا في بداية عهدها والولايات المتحدة وحلف الناتو، وقد أكد ذلك بيان الخارجية الأمريكية بعد الاجتماع الإيجابي بين وزير الخارجية الإيطالي الجديد أنتونيو تاجاني ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، بالإضافة إلى لقاءات ميلوني مع الأمين العام لحلف الناتو جينس ستولينبرج، والرئيس الأمريكي جو بايدن في بالي.
يضاف إلى ذلك تصريحات ميلوني في البرلمان الإيطالي في أولى لقاءاتها بالنواب، والتي ذكرت فيها بشكل واضح أن “إيطاليا هي جزء من التحالف الغربي ومنظومته الأمنية”، بالإضافة إلى افتخارها في ذات الخطاب بكون “إيطاليا واليونان هما مهد الحضارة الغربية وأسستا نظام القيم المبني على الحرية والديمقراطية”، وتتضمن تلك التصريحات إشارات واضحة بتوافق إيطالي أمريكي مع منظومة الأمن الغربي المشترك بغض النظر عن نوع الإدارة في واشنطن، فاليمين الإيطالي ينظر لتحالفه مع الولايات المتحدة كمركز ثقل للدولة الإيطالية لا يمكن أن يكون بديل للتحالف مع أوروبا، لكنه بالتأكيد يضع إيطاليا في موقع متقدم من صناعة السياسة الأوروبية.
وفيما يتعلق بالناتو، فإن الالتزام الإيطالي يوضح عمق العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين، إذ تقود إيطاليا عدد من مهمات التحالف في العام الحالي، منها كتيبة الناتو متعددة الجنسيات في بلغاريا وقيادة العمليات في كوسوفو والعراق، ويضاف لذلك تصويت كل الأحزاب اليمينية والقومية المعتدلة في أغسطس الماضي لصالح توسع الناتو بضم السويد وفنلندا.
وفي مقابلة له نشرت على موقع الخارجية الإيطالية صرح وزير الخارجية الجديد ماريو تاجاني، أن بلاده لديها ذخيرة من الخبرات تمكنها من الترشح لأي منصب، ردًا على سؤال حول إمكانية تقدم إيطاليا بمرشح لخلافة الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ، وهو ما يعد مؤشرًا إلى توجه الحكومة الإيطالية تجاه حلف شمال الأطلسي ويؤكد أولويته بالنسبة لحكومة ميلوني.
الحرب الروسية الأوكرانية
أوضحت تحركات الأحزاب اليمينية الإيطالية خلال الفترة الماضية موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، إذ دعمت تصدير الأسلحة لكييف، ودعمت قرار زيادة الإنفاق على العمليات الخارجية للقوات المسلحة الإيطالية بما فيها العمليات مع حلف الناتو، وقد أكد خطاب رئيسة الوزراء ميلوني أمام البرلمان الإيطالي موقف حكومتها من الحرب الروسية الأوكرانية، حيث قالت “إيطاليا ستستمر في دعمها للشعب الأوكراني الشجاع، الذين يقاومون الغزو الروسي ليس فقط لأننا لا نقبل العدوان، لكن لأن دعم أوكرانيا هو أفضل سبيل للدفاع عن مصالحنا الوطنية”، فالتحالف الحكومي الحالي يبني مواقفه الخارجية بالارتباط بالمصلحة الوطنية، بمعنى أن الدفاع عن أوكرانيا والعلاقات الأوروبية والالتزام مع الناتو ومكافحة الهجرة غير الشرعية وأمن الطاقة، هي ملفات ستركز عليها الحكومة وفقًا لما تقتضيه المصلحة الوطنية وهو ما يخدم التوجه اليميني الناخبين.
وتأكيدًا على موقفها من الحرب، أشار وزير الدفاع الإيطالي الجديد جويدو كروسيتو إلى أن إيطاليا ستتفاوض مع حلفائها الغربيين، حول الدفعة السادسة من تبرعات الأسلحة إلى أوكرانيا، مؤكدًا “أن ذلك هو الأمر الصحيح للقيام به”.
الشرق الوسط أولويات متشابكة
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط المنطقة التي تشكل أهمية خاصة لميلوني بسبب أزمة الهجرة وملف الطاقة، فسيتعين على الحكومة الإيطالية الجديدة خلق حالة توازن في سياساتها حول ملفات نوعية كدعم حقوق الإنسان ودعم الحريات، في مقابل الحصول على مكتسبات مهمة لها كالعودة كلاعب أساسي في الأزمة الليبية، التي تمثل أهمية لميلوني للتعبير عن قدرتها على إعادة السياسة الخارجية الإيطالية للواجهة، وهو ما تمكنت من التعبير عنه في 5 ديسمبر في خطابها الختامي في النسخة الثامنة من “حوار المتوسط” عندما قالت “أن أمن ونمو منطقة المتوسط هو شرط أساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وأفريقيا تشمل أولويات السياسة الخارجية للحكومة الإيطالية” الأكثر إلحاحًا “تحقيق الاستقرار الدائم والكامل في ليبيا”.
وبالنظر للملفات ذات الأولوية لها، ستحتاج إيطاليا لتعزيز علاقاتها بدول الشرق الأوسط لخلق تحسن أني ومطلوب في ملفات الاقتصاد والطاقة وملف الهجرة غير الشرعية، الذي يعتبره البعض سببًا رئيسًا لتولي ميلوني منصبها، بعد تعهدها بقدرتها على إيجاد حل من خلال تأمين الحدود البحرية، والتفاوض مع دول الاتحاد الأوروبي، وعقد اتفاقات مع دول المتوسط ، كما يمكن لدول الشرق الأوسط توفير الطاقة بأسعار تنافسية لإيطاليا وسيكون التعاون معها ضروري في ملف الهجرة، الذي خلق بالفعل توتر مبكر بين حكومة ميلوني وقصر الإليزيه، ويمكن ترجمة ذلك في التحركات الخارجية الإيطالية، حيث صدق البرلمان الإيطالي هذا الشهر على تجديد اتفاق مع ليبيا يتعلق بمنع تدفق المهاجرين، بالإضافة لزيارتها للمنطقة وحضورها قمة المناخ (كوب27) في مدينة شرم الشيخ، وتأكيدها على أن أمن منطقة شمال المتوسط والشرق الأوسط، هو أمر محوري لحكومتها وللأوروبيين.
ختامًا ، ستكون التحديات الاستراتيجية والمصلحة الوطنية المصطلح الذي كررته ميلوني كثيرًا محددًا أساسيًا للسياسات الخارجية للحكومة الإيطالية، وهو ما سيجعلها أكثر حرصًا على التحالفات الأوروبية والأطلسية والاستثمار في دائرتها المتوسطية ، وستستمر حكومة ميلوني في تقديم دعم كبير لأوكرانيا وستظل حليفًا قويًا في الناتو وستعمل على مصالحها في الاتحاد الأوروبي مع توقع لتحولها إلى دولة نقدية ومنتفعة من عضوية الاتحاد بفضل التوجه اليميني في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، كما أنها ستكون حريصة على الالتزام بواجباتها الدفاعية مع الحلفاء وستكون الأولوية للتحركات الخارجية الداعمة للقطاع الصناعي والاقتصادي، وإعادة إيطاليا للواجهة العالمية، وسيكون التحالف اليميني ذا صبغة محافظة في سياساته الخارجية المحددة بالمصلحة الوطنية.
.
رابط المصدر: