يمان دابقي
مقدمة
تستمر دول الحصار بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات تعزيز جهودها وتوجهاتها الخارجية تجاه المنطقة العربية بما يتناسب مع تطلعاتها وأهدافها الخاصة، تجلّى ذلك علنيًا منذ اندلاع أزمة الخليج الثالثة في 5 يونيو/ حزيران – 2017، حيث فرضّت كل من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية والبحرين فضلا عن جمهورية مصر العربية حصارًا غير مسبوق على الدولة القطرية بعد اختراق وكالة أنبائها الرسمية، وفبركة تصريحات نُسبت لأمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
وبعد ثلاثة سنوات من اندلاع الأزمة قال نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن أل ثاني “إنه رغم المبادرات المترامية للأزمة لكن لا يوجد خطًا واحدًا للحل”، مع ذلك أعرب عن تفاؤله بمبادرة كويتية جديدة كان قد أعلن عنها في لقاءٍ له على قناة الجزيرة 5- يونيو/ حزيران – 2020 واصفًا إياها بالإيجابية، وأضاف أن المنطقة تمر بأوضاع ساخنة و” إنَّ ذلك يقتضي الحكمة في إيجاد الحلول حتى لا تصل الأوضاع إلى درجة الانفجار”.[1]
يعكس كلام وزير الدولة عن مؤشرات مهمة مفادها أن مسوغات دول الحصار لا تزال غير منطقية في قطع العلاقات مع بلاده وأن الحصار المفروض لم يكن حدثًا منعزلًا بنفسه بل ارتبط بسياق اتسم بإجراءاتهم التعسفية سواء علاقاتهم بشعوبهم أو جوارهم الحيوي، ولم يكن هذا السلوك إلا تعبيرًا عن قطع مسار الديمقراطية تجاه المنطقة، فخلال السنوات الثلاث الماضية بدا فعليًا أن توجهاتهم منقطعة عن المبادئ الأساسية للتقاليد والأعراف الخليجية، فالحرب في اليمن لم تعد غايتها إعادة الشرعية للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بل آلت مؤخرًا إلى محاولة بعض الدول فرض أجنداتها الخاصة في شمال وجنوب البلاد مما سبب أكبر كارثية إنسانية عالميًا. وفي مصر قاد دعمهم للمؤسسة العسكرية بقيادة عبد الفتاح السيسي إلى الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية منتخبة للرئيس الراحل محمد مرسي، الأمر الذي انعكس على تراجع مكانة مصر الإقليمية في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي بعد تنفيذه حزمة من السياسات الداخلية والخارجية هادفة إلى تثبيت شرعيته المدعومة خارجيًا.
وفي ليبيا بحسب تقارير دولية فإنّ دول الحصار لعبت دورًا محوريًا في قطع الطريق على أي تطور مدني، وذلك من خلال دعم الجنرال خليفة حفتر بهدف إبقاء إدارة البلاد تحت جناح المؤسسة العسكرية، وهو ما قاد مؤخرًا إلى انحسار هذا المشروع بعد المتغيرات الجيوسياسية منذ مطلع 2020. كذلك السلوك ذاته ينطبق على ما جرى في السودان وسورية وتونس والصومال والقرن الإفريقي، حيث شهدت هذه الدول تفاعلات وتحولات متسارعة على وقع استمرار أزمة الخليج الثالثة.[2]
الجدير ذُكره أن نقطة التقاطع بين كل هذه الملفات التي شهدت تدخلات مباشرة، أنَّ جميعها لا تزال ملفات ساخنة دون حلول، الأمر الذي طرح عدة تساؤلات عن ماهية التوجهات الخارجية لسياسة دول الحصار، وهل يمكن تفسير سلوكهم على أنه غير منضبط جاء في سياق ردود أفعال على التحولات التي شهدتها المنطقة، أم أنه ينُّم عن رؤى ومشاريع مدروسة وخاصة تجاه المنطقة، وإن كان كذلك فما هي المكاسب المُحققة بعد ثلاث سنوات، وهل يوجد إدراك أن استمرار الأزمات في المنطقة العربية سيُزيد من حجم أطماع الغرب ويفتح أبواب أخرى من الهيمنة على موارد البلاد وثرواتها وُيزيد من تفتيت تلك الدول خصيصًا بعد غياب القوى المركزية التقليدية.
تُناقش الورقة الأداء والفعالية للسياسات الخارجية لدول الحصار في منطقة النزاعات العربية وأثرها على أزمة الخليج الثالثة.
مُحددات السلوك الخارجي لدول الحصار (نموذج الرياض – أبو ظبي)
لقد قادت مساحة الفراغ في الشرط الأوسط على وقع اتساع دائرة الاحتجاجات منذ 2001 إلى تدخل فاعلين جُدد انطلقوا من اعتبارات تحديثية طارئة على سياساتهم الخارجية، بهدف رغبتهم في إعادة رسم ملامح المنطقة بعد إحباط احتجاجات ما بات يُعرف بالربيع العربي، وقد كان من قاد المشهد من دول المنطقة السعودية والإمارات، واللتين تتنافسان على لعب دور فاعل في الساحة الإقليمية.
ومنه يمكن تحديد ملامح السلوك الخارجي الجديد لكلا البلدين كما يلي:
أولاً: السلوك الخارجي الإماراتي
منذ تشكيل دولة الإمارات في سبعينيات القرن الماضي وحتى غاية 2004، كانت أبو ظبي تتبّنى سياسات خارجية قائمة على أساس بناء علاقات وثيقة مع دول الخليج، والدول العربية والإسلامية، وقد اتسمت هذه السياسة حينها بالتمسك بثوابت القضايا المحورية في المنطقة كالقضية الفلسطينية، والتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لكن مع استلام الأمير محمد بن زايد سدة الحكم تغيّرت هذه السياسة انطلاقًا من طموح خاص لديه ينم عن دور بلاده المستقبلي في المنطقة على صعيد الطاقة والقيادة والدور الإقليمي، من هذا المنطلق شكلّت الاحتجاجات التي ظهرت في المنطقة بدءً من تونس إلى سورية واليمن وليبيا، فرصة للتدخل الإماراتي والتي بموجبها خطّت ملامح سياستها الخارجية تجاه المنطقة.[3]
ولعل أهم سبب كشف عن توجهات بن زايد الخارجية هي خشيته من انتقال العدوى إلى داخل بلاده وتقويض ركائز حكمه القائم على مبدأ ملكي شمولي في إدارة البلاد، مما دفعه إلى انتهاج مقاربات جديدة اتسمت بالانفتاح على العالم العربي والتدخل المباشر في شؤونه الداخلية، بهدف التأثير على سياقاته، إلى جانب تشكيله تحالفات مضطربة تهدف إلى دعم وإسناد القوة العسكرية المناهضة لأي دور مدني ديمقراطي أو لتيارات إسلامية في مستقبل البلاد.
ومؤخرًا اعتمد مقاربة أمنية في التعامل مع ملفات المنطقة، مستخدمًا استراتيجيات القوة الناعمة والصلبة كأحد أهم أدوات سياسته الخارجية. فالقوة الناعمة لديه أصبحت ممثلة في الاقتصاد والدعاية والإعلام والأعمال الخيرية، تحت مظلة مجلس القوة الناعمة لدولة الإمارات والذي تم إنشائه في إبريل 2017، إذ كان أحد أهم أهدافه تفعيل سياسة خارجية متكاملة تُعزّز مكانة دولة الإمارات إقليمياً وعالمياً. إلى جانب ذلك اعتمد على القوة الصلبة بشكل مُركز على القوة العسكرية الخشنة، سواء من خلال إنشاء القواعد العسكرية في الخارج، أو تقديم دعم لوجستي وأمني ظهر بشكل فاعل عبر إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في السودان.[4]
ثانيًا: سمات التوجه الخارجي السعودي
قبل عقود سابقة اعتمدت المملكة العربية السعودية على سياسات هادئة غير اندفاعية ومتوازنة بهدف تحقيق أمن واستقرار المملكة السياسي والاقتصادي، وهو ما منحها قبل ظهور الأمير محمد بن سلمان كولي للعهد الحفاظ على مكانتها السيادية والإسلامية في المنطقة العربية ودول الخليج، فضلًا عن مكانتها الاقتصادية والتي تعطيها قيمة إضافة متميزة داخل مجلس التعاون الخليجي وخارجه في الساحة الدولية الاقتصادية.[5]
لكن منذ تولي الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد بقرار ملكي في 2015، تغيرّت ملامح وتوجهات المملكة بشكل جذري بهدف رغبة الأخير وصوله للعرش ، مما دفعه تبني مقاربة خارجية تتشابه لحد نسبي مع رؤية نظيره ولي العهد محمد بن زايد، حيث بدأت السياسة الخارجية السعودية تتخذ منحىً يعتمد على القوة العسكرية كما ظهر جلياً في اليمن وليبيا والسودان، إضافة إلى اعتماد ركيزة القوة الناعمة الاقتصادية بعمودها الرئيس منظمة أوبك السعودية والتي تم استنزافها على مراحل سواء من خلال انكشافها على جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، أو من خلال تراجع دورها الريادي في سوق النفط العالمي، ودخول الأمير محمد بن سلمان مغامرات اقتصادية مع بعض الدول الكبرى تزامنًا مع تفشي وباء كوفيد -19 داخل المملكة والذي تسبب في تراجع قطاع النفط والطاقة.[6]
من هنا اتسمت السياسة السعودية بفقدان الرؤية الإستراتيجية والخطط المنضبة تجاه المنطقة، وخلل واضح بين المصالح الخاصة والعامة، مما قاد إلى حدوث تصدّع في أواصر العلاقة مع البيت الخليجي، عبر زيادة تدخل المملكة في شؤون الدول الداخلية، وزيادة الاعتماد على العامل الأمريكي الغربي مقابل تلقي الحماية الخاصة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، ولعل قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في تركيا، إلى جانب صفقات التسليح كشفت عن مدى أهمية العامل الغربي في استراتيجيات الأمير محمدّ بن سلمان المستقبلية.[7]
أما أهم سمة كانت بارزة في توجهات الخارجية للمملكة العربية السعودية، هي كثرت التحالفات الغير فاعلة والتي تفتقر إلى رؤى واضحة، فعبر سنوات قليلة ماضية أنشأت المملكة خمسة تحالفات عربية وإقليمية، بدأتها في إنشاء التحالف العربي في اليمن، تلاها التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في أواخر العام 2015، وإنشاء الناتو العربي الذي تم طرحه لأول مرة من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بهدف مواجهة نفوذ إيران في المنطقة، وصولًا إلى تبني المملكة تحالف لم يظهر عملياً، وعُرف بمسمى “البحر الأحمر” [8] و الذي كان من المفترَض أن يضمن عمليات التنسيق والتشاور بشأن الممر المائي الحيوي، على أن يضم ثماني دول هي السعودية والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا ومصر واليمن والأردن.
وأخيراً تم الإعلان في 2017 عن التحالف الرباعي الذي يضم الدول المقاطعة لدولة قطر، وهي السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وقد أُنشئ التحالف بهدف تنسيق الجهود والاتفاق على سياسات محددة لفرض الحصار، كان من بينها وضع 13 مطلباً كشروط قبل إنهاء المقاطعة.
مفهوم الشراكة الهشّة بين قادة دول الحصار
في مطلع يونيو/ حزيران- 2018 ترأس الأمرين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد أول اجتماع لمجلس التنسيق السعودي الإماراتي، وأعلنا بموجبه عن استراتيجية مشتركة تكاملية بين البلدين أطلق عليها ” استراتيجية العزم”، تقتضي بإطلاق 44 مشروع تنموي وعسكري.[9] ومنذ ذلك الحين تعززت الشراكة بينهما لدرجة أنها انعكست سلبًا على مجلس التعاون الخليجي وأدت إلى تهميشه، ووفقًا لبعض الخبراء فإن هذه الشراكة هدفت إلى نقل مركز الثقل الخليجي من مجلس تعاون جماعي، إلى مجلس مشترك ثنائي بقيادة الرياض وابوظبي، مع ذلك ظل البلدين يحرصا في خطابهما على تصوير تحالفهما بأنه لا يتناقض مع مجلس التعاون الخليجي الذي ينتميان إليه، لكن بقي ذلك ضمن الإطار النظري واختلف من ناحية الفعل خاصة بالنظر للأدوار المشتركة في نزاعات المنطقة كاليمن وليبيا ومصر.
وانطلاقًا من هذه الشراكة التي حددت نوعية المخاطر المشتركة، خلصت الدولتان إلى أن الاحتجاجات التي اندلعت في المنطقة منذ 2011، تمثل خطرًا عليهما نظرًا لما تحمله من أثر على تيارات الإصلاح بالبلدين وبموجبه تبنت الدولتان مقاربة عسكرية مشتركة لإفشال هذه الاحتجاجات ومنعها من تخطي الحدود.
كذلك تُمثل إيران خطرًا مشتركًا لكليهما حيث تعد الأخيرة بمثابة العدو التاريخي مشترك، فبالنسبة للمملكة العربية السعودية تعد الجمهورية الإيرانية منافس لها في مجالات بسط النفوذ والزعامة على العالم الإسلامي في المنطقة، وقد تكرست حالة العداء بين الطرفين بعد تنامي حالة التنافس بينن الولايات المتحدة وإيران والتي انعكست سلبًا على أمن المملكة من الجهة الجنوبية.[10]
إماراتيًا يمكن توصيف العلاقة مع إيران على أنها حالة مصلحة براغماتية أكثر من كونها حالة عدائية، فرغم بسط إيران يدها على جزر الإمارات الثلاثة طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى، واندفاع الأخيرة إلى تعزيز شراكتها مع من تعتبره إيران خصماً لها، مع ذلك استمرت العلاقة التجارية والاقتصادية بين البلدين وفق عدة تقارير،[11] ما يفسر عدم الالتقاء الكلي بين السعودية والإمارات في كامل الملفات، بل على العكس مثلّت خطوة إعلان الإمارات أواخر 2019 سحب جزء من قواتها من اليمن وإعادة انتشارها أولى المفارقات بينهما لكن دون أن يقود ذلك إلى إحداث تصدع على الشراكة الاستراتيجية.[12]
ظهر تباين آخر في مفهوم الشراكة حول التهديد الذي تمثله التيارات والجماعات الإسلامية، فبينما صنفت المملكة العربية السعودية حزب الإخوان تنظيمًا إرهابيًّا. في 2015، إلا أنها لم تُعمّم القرار على كل التيارات ذات التوجه الإسلامي، وهو ما دفعها إلى دعم بعض الفصائل الإسلامية في سورية، بينما الإمارات تعتبر كل الجماعات الإسلامية دون أي تميز على أنها خطرًا وجوديًا عليها وتضع الجميع في خانة الإرهاب.
وما يعمق شرخ العلاقة بين البلدين الخسائر الناتجة عن القرارات المتأرجحة في حرب اليمن، حيث فشلا حتى الآن في تحقيق أهداف التحالف فلم يتم إعادة الشرعية ولم يتم القضاء على الحوثي، مما دفع الإمارات إلى المضي منفردة نحو تحقيق مصالحها الخاصة في بسط السيطرة على موانئ الجنوب اليمني تحت غطاء التحالف، وإحداث توازن منفعي بعلاقاتها مع إيران والذي نتج عنه توقيع تفاهمات أمنية مشتركة لضمان أمن الحدود وممرات التجارية البحرية.[13]
وبعيدًا عن مستويات التخبط في العلاقة بين دول الحصار وتباين المواقف كما تم ذُكره أنفًا، إلا أنّ ذلك لم يمنع من استمرار التنسيق المشترك بهدف تحقيق المصالح العليا التي لا يشوبها خلاف أو توتر في بعض الملفات وهو الأمر الذي اتضح من خلال سلوكهم المُعلن منذ تنفيذهم موضوع الحصار على دولة قطر 2017، حيث تسارعت تحركاتهم في التأثير على مجريات الأحداث في مصر وليبيا وسورية واليمن والسودان لتحقيق جملة من الأهداف أهمها التضيق على تركيا وحلفائها في دعم موجات التغيير، وزيادة التضيق على دولة قطر لعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، بالإضافة إلى هدف إعادة هندسة ترتيب الشأن الداخلي في تلك الدول بشكل يمنع خروج السلطة من قبضة العسكر إلى المدنيين.
وبموجبه سيتم التطرّق بإيجاز لبعض النماذج في المنطقة التي تدخلت فيها دول الحصار لمعرفة ماذا حققت من أهدافها الواضحة، وكيف انعكست على حصار قطر.
دور التدخل في دول المنطقة ومآلاته (نموذج مصر- اليمن)
مصر: لعبت دول الحصار دوراً محورًيا في مصر نظرًا لإدراكهم الأهمية الجيوسياسية التي تتمتع بها مصر ودورها المحوري في المنطقة فهي كانت عبر عقود طرف رئيسي وفاعل في القضية الفلسطينية وملفات الطاقة والغاز، إضافة إلى غناها بالموارد والثروات الطبيعية، واستنادًا لهذه الأهمية فمن الطبيعي أن تكون مصر مطمع دائم وبوابة للتدخلات عند أي منعطف تتعرّض له، وهو ما حصل منذ انتهاء حقبة الرئيس حسني مبارك، وصعود الرئيس الراحل محمد مرسي، حيث شكًل صعود الإسلامين لسدة الحكم مخاوف كبيرة لدى دول الحصار، فتم دعم المجلس العسكري وتنفيذ انقلاب 2013 بقيادة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، ومنذ ذلك الحين ودول الحصار تدعم القوة العسكرية المصرية وتُقدم معونات عسكرية ومنح مالية بهدف توظيف الدور المصري في خدمة تطلعاتهم في المنطقة.[14] وقد كان أهم ما نتج عن هذا الدعم
_ تمكين القوة العسكرية داخليًا على حساب إنهاء وتصفية التيارات الإسلامية وتصنيف تيار الإخوان كإرهابين
_ الاستفادة من موارد مصر عبر تدشين حزم من الاستثمارات التجارية والاقتصادية تابعة لدول الحصار
_ ضم مصر للتحالف الرباعي في 2017 لفرض حصار على دولة قطر
_ توظيف الدور المصري في موضوع القضية الفلسطينية بما يتناسب مع تطلعات ترامب في صفقة القرن
_ استغلال موقع مصر الحيوي البري والبحري بهدف التأثير على دول الجوار فبريًا تم الاستفادة من الحدود المشتركة بين مصر وليبيا والسودان لإيصال الدعم المالي واللوجستي للمؤسسات العسكرية التي تخوض نزاعات أهلية مع تيارات إسلامية بقيادة حفتر في ليبيا وقائد قوات المجلس العسكري في السودان محمد حمدان دقلو المُلقب بحميدتي.[15]
_ وبحريًا تم الاستفادة من موقع مصر الحيوي لرفع الفعالية والتأثير في ملفات صراع الغاز في شرق المتوسط، حيث تخوض مصر جبهة مفتوحة مع تركيا حول مسائل ترسيم الحدود البحرية، لا سيما بعد محاولة الأخيرة تدشين اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبي في ترسيم الحدود البحرية لحوض المتوسط أواخر 2019. ومن المعروف أن مصر يتم دعم مواقفها في هذا الملف ليس فقط من قبل دول الحصار وإنما تعدّى الأمر لإسناد أوربي غربي من بينها إسرائيل وفرنسا واليونان عبر تشكيل تحالف غاز شرق المتوسط.[16]
_ مؤخرًا دعمت دول الحصار بقيادة الإمارات مواقف الرئيس المصري عبيد الفتاح السيسي المعارض للتوجهات التركية في ليبيا، مما دفعه بعد تغير كفة الموازين في معركة طرابلس إلى إعلان نيته التدخل عسكريًا في ليبيا لمنع وتقويض دور تركيا الداعم لموقف حكومة الوفاق.[17]
وكنتيجة لسلوك دول الحصار في دعم التطلعات المصرية، يتضَح جليًا أن الجمهورية العربية المصرية لم تُحقق مكاسب استراتيجية تتعلق بمصلحتها الإقليمية حتى الآن، بل تم إنجاز بعض المكاسب الشخصية الخاصة بتثبيت شرعية الرئيس عبد الفتاح السيسي، على حساب إفقار الشعب المصري وتراكم الأزمات الداخلية في ظل تفشي كوفيد- 19، إضافة إلى إغراق البلاد بمشاكل إقليمية كانهيار مفاوضات سد النهضة مع آثيوبيا، واستنزاف طاقتها الغازية من قبل إسرائيل فبعدما كانت القاهرة مصدرًا للغاز أصبحت تستورده من قبل إسرائيل، يُضاف للأزمات فتح جبهة مصرية مع ليبيا وأخرى تستعد لها مع تركيا، فضلًا عن تراجع ملحوظ في دورها الحيوي مع دول إفريقيا والمنطقة العربية ككل.
اليمن: شاركت دول الحصار في عملية عاصفة الحزم على اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية منذ تدشين العملية في مارس 2015، وقد كان هدف التحالف إعادة الشرعية اليمنية والقضاء على جماعة أنصار الله الحوثي، وبعد مضي خمس سنوات على إطلاق العمليات، انحرف التحالف عن أهدافه الأساسية وخرجت جميع الدول المنخرطة به ولم يبقى منه إلا السعودية والإمارات، وقد أصبح كل منهما يتجه لتحقيق أجنداته الخاصة بعيدًا عن أهداف التحالف الرئيسية.[18]
ولعل الدور الأبرز في اليمن كان للإمارات التي أصبحت تنظر لليمن نظرة جيوإستراتيجية، فرغبتها في الاستئثار بالجزء الجنوبي يعكس نيتها السيطرة على الموانئ الجنوبية ومضيق باب المندب، وتعزيز حلقة السيطرة على مدخل البحر الأحمر، مما دفعها لدعم مليشيات تتواجد في الخطوط الأمامية للمواجهة، والاهتمام بالموانئ اليمنية الإستراتيجية بهدف دعم خطة المحاصصة التي تنظر لها في اليمن، وهذا ما أدى إلى تباين في وجهات النظر مع نظيرتها السعودية التي تحاول جاهدةً رأب الصدع وتحقيق توافق بين جميع الأطراف لكن لم يحصل ذلك حتى الآن بل شهد اليمن حدثين مهمين مؤخرًا
الأول: فشل اتفاق الرياض الذي جاء على أعقاب انهيار اتفاق ستوكهولم.[19]
الثاني: إعلان المجلس الانتقالي في جنوب اليمن المدعوم إماراتيًا تطبيق الإدارة الذاتية في المناطق التي يُسيطر عليها، أدى ذلك إلى تأجيج الخلاف الداخلي بين جميع الفصائل واستمرار تشظي وحدة اليمن وتفاقم الكارثة الإنسانية في البلاد على وقع تفشي وباء كوفيد-19.[20]
قادت جميع هذه التطورات في اليمن إلى ارتفاع المخاطر على دول الحصار، بدلًا من وأدها، فالهدف الجوهري في القضاء على الحوثي وتأمين أمن جنوب المملكة لم يتحقق، بل ارتفعت المخاطر خلال العامين الماضين بفعل وصول الأخطار إلى عمق المملكة بريًا من جهة الجنوب، وبحريًا من خلال ارتفاع المخاطر على المنشآت النفطية والتي تم الاعتداء عليها أكثر مرة من قبل جماعة أنصار الله الحوثي المدعومة من قبل إيران.
عطفًا على ما تم ذُكره أعلاه، فإن موضوع فرض المقاطعة على دولة قطر لم يأتي كحدث منعزل داخل أجندات دول الحصار وإنما جاء في سياق التأثير لإنهاء قوة التأثير القطرية التركية في ملفات المنطقة بما يتناسب مع توجهات الفاعلين الرئيسين في المنطقة كالمملكة العربية السعودية والإمارات، وكان الهدف الجوهري هو عزلها عن محيطها العربي والإقليمي، بيد أن نجاح دولة قطر في امتصاص الصدمة واجراء تعديل على سياساتها الداخلية والخارجية آلت دون تحقيق أهداف التحالف الرباعي وذلك عبر ما يلي:
_ اعتمادها على سياسات تعزيز الاكتفاء الذاتي وتشجيع التصنيع المحلي من السلع الأساسية
_ توسعة رقعة تحالفاتها الاستراتيجية بهدف تدوير عجلة الاقتصاد والتبادل السياسي والحافظ على مكانتها كمصدر عالمي للغاز
_ إحداث المزيد من التنويع الاقتصادي للقطاعات المحلية عبر دعم الشركات الصغرى والكبرى في البلاد.
خاتمة
رغم عملية الصمود إلا أن ذلك لم يُلغِ حقائق أن استمرار عملية المقاطعة سببَت خسائر شاملة لجميع الأطراف على كافة الأصعدة، فضًلا عن ازدياد الشرخ داخل أواصر مجلس التعاون الخليجي، والذي أصبح مهددًا بالتفكك، إضافة إلى أن استمرار الأزمات والانقسامات بين جميع الفاعلين ستنعكس بشكل أو بآخر على كامل ملفات المنطقة وستزيد من تشتيتها على حساب خسارة العمق العربي والإسلامي، في المقابل فإن كل المكاسب الفعلية ستنصب في دائرة التوجهات الغربية والأوربية في المنطقة، والتي لا تُلقي بالًا لتنفيذ أي عملية استقرار مستقبلية.
وبموجبه فإن الورقة تُلفت انتباه جميع الأطراف إلى ما يلي:
- جميع الملفات المفتوحة في المنطقة متداخلة ولا يمكن عزلها عن بعضها البعض بما فيه موضوع أزمة الخليج الثالثة
- من الأهمية استغلال وتفعيل أي مبادرة عربية أو دولية تُساهم في رأب الصدع لحل أزمة الخليج تقوم على أرضية حلول وسط ومعادلة رابح – رابح، لأن استمرارها ليس من مصلحة أي طرف وقد يُزيد من حالة الانقسام داخل البيت الخليجي، وتفتح شهية الغرب لاستنزاف ثروات المنطقة.
- ضرورة إعادة النظر في سياسات وسلوك دول الحصار تجاه المنطقة العربية، والتي سببت خسائر وهدر لمواردها في نزاعات المنطقة، إلى جانب تراجع مكانة تلك الدول في المحيط العربي والإسلامي.
- الحفاظ على وحدة الصف داخل مجلس التعاون الخليجي وإنهاء حالة الانقسام أصبح ضرورة ملحة لدرء الأخطار عن أمن الخليج المائي والبري، لا سيما بعد تعاظم المُهددات في بحر العرب وتراجع فعالية الدور الأمريكي في المنطقة.
- تبنّي مقاربات واقعية جديدة تتناسب مع حجم مخاطر المنطقة قائمة على تحقيق مصالح مشتركة كالأمن الجماعي وتحقيق الاستقرار في المنطقة.
إعطاء الأولوية لحل أزمة الخليج كبوابة يتم الدخول عبرها لحلحلة أزمات المنطقة العربية، خصيصًا بعدما تم تدمير قواها المركزية التقليدية واستنزف اقتصادها.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
Youtube، الحصاد، الأزمة الخليجية، الثالثة، ن- 5-6، 2020.
BBC، من يدعم خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا، ن- 10- إبريل- 2019.
الجزيرة للدراسات، الإمارات العربية: تحولات القوة والدور، ن- 8-6- 2017.
المعهد المصري للدراسات، الصراع التركي الإماراتي: جدلية القوة والدور، ن- 19- يونيو2020.
الجزيرة للدراسات، السياسة السعودية تجاه ثورات الربيع العربي، ن- 23-7- 2011.
قناة العالم، رؤية بن سلمان ‘الاستراتيجية’ تفشل سياسات السعودية الخارجية، ن- 10- إبريل- 2020.
معهد دول الخليج العربية في واشنطن، العلاقات الاقتصادية السعودية-الأمريكية: ما سبب أهمية المملكة العربية السعودية، ن- 19- مارس- 2018.
مركز المستقبل للدراسات، تحالف البحر الأحمر، ن- 16- ديسمبر- 2018.
مركز الإمارات للدراسات والإعلام، خطة لتنفيذ 44 مشروعا مشتركا بين السعودية والإمارات ضمن مبادرة “خلوة العزم، ن- 24- 11، 2019.
الجزيرة للدراسات، التحالف السعودي الإماراتي تصدع الركائز وضياع الجدوى، ن- 28-11- 2018.
مليار دولار حجم التبادل التجاري بين الإمارات وإيران، ن- 7- سبتمبر- 2019.
برق للسياسات والاستشارات، انسحاب الإمارات من اليمن، ن- 31- يوليو- 2019.
العربية، إيران والإمارات توقعان مذكرة تفاهم لتأمين الحدود البحرية بين البلدين، ن- 2- أغسطس- 2019.
صحيفة الاستقلال، الدور الإقليمي الإماراتي: حصاد فراغ القوة، ن- 21-2- 2019.
مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، الإمارات والموقف من الربيع العربي، ن- 2- يناير- 2018.
الشرق الأوسط، منتدى غاز شرق المتوسط» ينطلق اليوم في القاهرة… وتركيا تواصل التنقيب، ن- 25- يوليو- 2019.
اليوم السابع، سرت والجفرة خط أحمر.. الأسباب الكاملة لتحذير السيسي من الحرب الليبية، ن- 23- يونيو- 2020.
الإمارات، تحقيق: سياسات الإمارات بالتدخلات الخارجية تهددها بالمستقبل المجهول، يناير- 2- 2019.
صلاحيته انتهت وتنفيذه فشل.. ما مصير “اتفاق الرياض” في اليمن، 26-2- 2020.
الجزيرة للدراسات، إعلان “الإدارة الذاتية”: القضم المتدرج للسلطة في جنوب اليمن، ن- 7-5- 2020.