يجتذب الصراع بين زعيم التيار الصدري والتحالف الذي يضم قوى الإطار التنسيقي وفي مقدمتها حزب الدعوة، أنظار العالم في ترقب لما سوف تؤول له الأمور في بغداد، وذلك لما يمثله العراق من أهمية كبرى تعتمد على وزنه النسبي المعلق على حجمه وطاقاته والذي ينعكس في كون العراق تأتي في المرتبة الخامسة من حيث احتياطات النفط علاوة على كونها ثالث أكبر مصدر للخام في العالم.
ولعل ذلك يفسر المعارك الكبرى التي دارت حول هذا البلد، والتي شهدت تنافسًا لعدد من القوى أبرزها الولايات المتحدة وإيران- وذلك بدءًا من الغزو الأمريكي للعراق في 2003 والذي أخلى الساحة لإيران، مرورًا بالدور الإيراني في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وصولًا للأزمة السياسية الحالية التي تناور فيها طهران بقوة للذهاب نحو خيار الحكومة الائتلافية المرفوض من الشارع العراقي قبل التيار الصدري، لتضع يدها على من خلال الإطار التنسيقي على عائدات النفط التي تضاعفت كأحد انعكاسات العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا.
ويعتمد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري في تحركاته على مقابلة كل مناورة إيرانية بمناورة مماثلة تفوت الفرصة عليها في رسم خريطة السياسة في العراق، وقد وصلت الأمور اليوم إلى إعلان السيد مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي، عقب دعوة وجهها يوم السبت وطالب فيها الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكومات منذ عام 2003 بالانسحاب من مواقعها وإخلاء الساحة، وهو ما يمكن وصفه بأن الصدر قد دعا لثورة حقيقية- قبل أن يلهب مشاعر الشارع العراقي اليوم في تغريدة محسوبة بل مطلوبة العواقب، طالب فيها بالدعاء له حال مات أو قتل لمطالبته بتحرير الإرادة السياسية العراقية، وعلى الفور التقط مريدو الصدر وغير مريديه في الشارع العراقي إشارته، واحتشدوا في المنطقة الخضراء في مشاهد أحيت صورًا من ثورة تشرين، دافعين بعثات دبلوماسية لمغادرة المنطقة الخضراء قبل أن يقوموا باقتحام القصر الجمهوري، ومن هنا ينبغي لنا أن نفهم نقاط القوة التي يستند إليها مقتدى الصدر في تحريك الشارع العراقي:
أولًا) نقاط ارتكاز الصدر في تحريك الشارع العراقي:
يتميز مقتدى الصدر بالجمع بين القوة الدينية “إرث والده” محمد صادق الصدر، والقومية من خلال التعهدات التي أطلقها بتطهير النظام السياسي، علاوة على قيامه في 2004 بقيادة التمرد ضد القوات الأمريكية والبريطانية. ومن خلال ما تقدم يستطيع توجيه الشارع بشكل غير مباشر، فلا هو في الاقتحام الأول للمنطقة الخضراء طالب أنصاره بذلك وإن كان قد طالبهم بالتزام السلمية، ولا طلب منهم الاحتشاد اليوم ردًا على إعلانه الاعتزال للعمل السياسي.
من ناحية أخرى، يمتلك الصدر خبرة في إدارة العمليات والتحركات في الشارع بدءًا من استعراضه للقوة خلال الاحتجاجات المناهضة للفساد في عام 2016، عندما اقتحم أنصاره المنطقة الخضراء إضافة إلى انتفاضة تشرين في 2019، وجدير بالذكر أنه في عام 2018 أصبح له حضور حكومي من خلال الانتخابات التي سمحت لحزبه بتقلد مناصب وزارية ومناصب خدمية عليا.
ومما سمح كذلك لمقتدى الصدر وتياره بأن يكون بهذه الفاعلية، هو حالة الضعف التي تسيطر على خصومه في التنسيقي وذلك بالرجوع لعاملين، الأول، تمثل في احتجاجات تشرين 2019 التي رفضت بشكل واضح أي شبهة للطائفية، وطالبت برفع يد إيران و”إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة” التي حكمت البلاد بدعم منها على مدى عقدين. أما العامل الثاني، فيتمثل في غياب قاسم سليماني عن العملية السياسية في العراق عقب اغتياله في يناير 2020.
ويمكن لمس مظاهر ضعف الإطار التنسيقي في غياب الفعل لديه منذ انتخابات أكتوبر 2021، حيث إن كافة تحركات الإطار التنسيقي جاءت في خانة ردة الفعل، مما أعاد التيار الصدري للواجهة السياسية بقوة بعد أن انسحب منها طواعية عقب استقالة نوابه من البرلمان.
وعلى الصعيد العسكري، فقد استطاع جيش المهدي أن يتفوق على خصومه بما في ذلك المجلس الشيعي الأعلى في العراق، وكذلك حزب الدعوة الإسلامية الذي يمتلك ميليشيات مسلحة، وفي ظل إزاحة قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس من المشهد الميليشياوي، فإن التيار الصدري يمتلك القوة الأكبر التي تمكنه من إخضاع أو على أقل تقدير وضع ضوابط حقيقية لقوات الحشد الشعبي، وهو ما يضع الصدر نفسه في موقع مساءلة عن مصير سرايا السلام التابعة له وما إذا كانت ستخضع لنفس الضوابط. وتمتد رؤية مقتدى الصدر حول ضوابط الحشد الشعبي إلى الضوابط التي تحكم الوجود الأجنبي في العراق، عن طريق تمرير وجودها للقيام بمهمة معينة عبر موافقة البرلمان العراقي فقط.
ثانيًا) لماذا تحرك الصدر الآن؟
بالنظر للتوقيت الذي اختار فيه مقتدى الصدر إطلاق مناورته فهو توقيت شديد الدقة والحساسية في آن واحد، ذلك أنه من المفترض أن تقوم المحكمة الاتحادية غدًا الثلاثاء بإصدار قرارها فيما يتعلق بالدعوة المرفوعة أمامها والخاصة بحل البرلمان العراقي، فمن ناحية استطاع زعيم التيار الصدري أن يستبق قرار المحكمة بحيث لا تفهم تحركاته اللاحقة لقرار المحكمة بأنها اعتراض على قرار القضاء العراقي، ومن ناحية أخرى فإن الضغط الذي يمارسه الشارع العراقي اليوم مؤتمرًا بإمرة مقتدى الصدر، قد يدفع المحكمة لتأجيل جلستها امتصاصًا لغضب الشارع خصوصًا في ظل التوقعات الحالية التي تدور حول رفض المحكمة للدعوى، كون الإجراء ليس ضمن دائرة اختصاصها، مع الإشارة هنا إلى أن قرار المحكمة الاتحادية لا يمكن الطعن عليه ويكون ملزمًا للجميع بمجرد صدوره، مما يعني إغلاق أبواب المناورة أمام مقتدى الصدر بعد أن قرر المجلس الأعلى للقضاء سابقًا أنه غير مختص بمسألة حل البرلمان، ومن ثم لا يتبقى أمام التيار الصدري سوى إجراءات حل البرلمان الواردة في الدستور العراقي والتي يستحيل تحقيقها الآن.
ولكن من ناحية أخرى، فإنه على الرغم من عدم وجود نص قانوني يجيز للمحكمة الاتحادية إصدار قرار بحل البرلمان، إلا أنه لا يوجد نص قانوني كذلك يمنع قضاتها من الاجتهاد وبالتالي يصبح من الصعب التنبؤ بقرار المحكمة غدًا، وإن بقي استباق قرارها هو الحل الأمثل بالنسبة للتيار الصدري.
ثالثًا) مخاطر المناورة الصدرية:
سبق المناورة الصدرية اليوم بإعلان اعتزال العمل السياسي، دعوة الصدر إلى انسحاب كل الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكم منذ 2003، وتكمن خطورة الدعوة في أنها تستعدي باقي القوى السياسية العراقية مما يترك التيار الصدري وحيدًا، ويمكن إرجاع ذلك إلى أنه لا يمكن عزل الكتل والأحزاب عن المرحلة المقبلة من خلال عدم إشراكها في الانتخابات أو المشهدين السياسي والحكومي، خصوصًا أن هذه الأطراف لها قواعد شعبية وهذه القواعد لن تسمح لأي طرف بمصادرة رأيها في اختيار من يمثلها سياسيًا وبرلمانيًا، وعليه فإن هذه الدعوة سوف تزيد من حدة الخلاف السياسي خصوصًا مع عدم وجود وعي حقيقي من الكتل السياسية العراقية بحجم المخاطر التي تحيط بالبلاد.
ربما ينجم عن المناورة الحالية ضرب التيار الصدري من الناحية الدينية، خصوصًا بعد أن أصدر المرجع الشيعي كاظم الحائري اليوم الاثنين، بياناً أعلن فيه الاعتزال الديني كمرجع، عازيًا الأمر إلى وضعه الصحي، فيما أوصى أتباعه في ذات الوقت باتباع مرجعية على خامنئي في إيران. والمفهوم من الأمر أنه غير متعلق تمامًا بوضع الرجل الصحي، وإنما هي محاولة من قبل إيران لضرب التيار الصدري من الناحية الدينية، وشق صف الصدريين فيما يتعلق بالمرجعية الدينية بالنظر إلى أن الجيل القديم من أتباع محمد صادق الصدر يرون أن في الحائري مرجعيتهم الدينية، وهو ما استفز مقتدى الصدر للتأكيد أنه حتى ومع اعتزاله العمل السياسي، فإنه يؤكد على أن المرجعية الدينية في النجف وليس في قم الإيرانية، فاستطاع بذكاء إعادة الكرة لملعبه واكتساب تعاطف الضفة الأخرى من الصدريين، عن طريق اللعب على وتر القومية والعروبة بإعلان النجف مرجعية عليا دائمة.
ويظل أسوأ السيناريوهات، هو وصول المحتشدين من الشارع العراقي والتيار الصدري إلى المعتصمين من الإطار التنسيقي الذين دخلوا في اعتصام مفتوح منذ 12 أغسطس الجاري، وحال تحقق هذا السيناريو فإن بالعراق سيدخل في حالة اقتتال أهلي تعطل العملية السياسية لأجل غير مسمى. علاوة على أن مقتدى الصدر نفسه قد يكون معرضًا لعملية تصفية، ويذكر هنا أن زعيم عصائب أهل الحق “قيس الخزعلي” كان قد أفتى بشرعية قتل مقتدى الصدر في 2007، وهو ما دفع الصدر لمغادرة العراق في وقتها، في حين كانت هناك أسباب أخرى قيل إنها دفعت مقتدى الصدر للمغادرة، منها ضجر المرجعية الدينية في النجف من التحركات العنيفة لزعيم التيار الصدري، وهو ما حاول الحائري استغلاله اليوم.
ختامًا؛ لا يملك التيار الصدري اليوم سوى الضغط عن طريق الشارع، وفي ظل أن قرار المحكمة الاتحادية غدًا قد لا يوصي بحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، فإن البلاد قد تدخل في حالة من العصيان المدني في ممارسة لسياسة الضغط الأقصى، وفي وقت لا يبدو فيه أن مقتدى الصدر سيتجاوب مع أية مبادرات داخلية أو خارجية، مما قد يجعل من المواجهات المسلحة أمرًا واقعًا.
.
رابط المصدر: