قراءة في نتائج الانتخابات: هل تتجه ماليزيا إلى واقع أقل تعددية؟

نرمين سعيد

 

تمتلك ماليزيا كأحد النمور الآسيوية نظامًا سياسيًا فريدًا، مكّنها منذ الاستقلال من إدارة مجتمع متعدد الأعراق والأديان. وتفصيلًا من الناحية السياسية، فإن ماليزيا تحسب على الأنظمة الملكية الدستورية، وتتكون من تسع ولايات بحيث يتم تداول الحكم دوريًا على رأس كل أربع سنوات بين سلاطين الولايات التسع، أما السلطة التنفيذية فهي في يد رئيس الوزراء وينتخبه البرلمان كل خمس سنوات. ويضاف إلى ما تقدم وجود ثلاث مناطق ذات حكم فيدرالي في ماليزيا وهي: العاصمة كوالامبور، وبتروجايا أو ما يعرف بالعاصمة الإدارية، وجزيرة لابوان.

وبتسليط الضوء على الغرفة التشريعية في النظام الماليزي “البرلمان” فهي تتكون من 222 عضوًا، ويسند إلى الحكومة الماليزية اختصاص تقسيم الدوائر الانتخابية طبقًا للكثافة السكانية، في الوقت الذي ترى فيه المعارضة أن الحكومة تقوم بتنفيذ هذه المهمة بما يضمن لها حصد أكبر قدر من الأصوات الموالية.

ومع ديمقراطية الحكم في ماليزيا، يبقى ملك البلاد متمتعًا بسلطة مطلقة في الفصل في نتائج الانتخابات التشريعية التي لا تسفر عن وجود كتلة أغلبية قادرة على تشكيل الحكومة، كما هو الحال في الانتخابات التي جرت أخيرًا في 19 نوفمبر ولم تسفر عن تقدم أحد الأحزاب بأغلبية كبيرة تؤهله لتشكيل الحكومة؛ فقد فاز تحالف الأمل بقيادة أنور إبراهيم بفارق أغلبية بسيطة، قبل أن يطلب منه ملك البلاد تشكيل الحكومة العاشرة ودعوة الأحزاب إلى المشاركة فيها للخروج من المأزق السياسي المتمثل في تعطل عمل البرلمان الماليزي للمرة الأولى من الناحية التاريخية.

الخريطة السياسية للانتخابات الماليزية

من الخطأ من الناحية المنطقية قياس الانتخابات الماليزية في 2022 على الانتخابات التي جرت في عام 2018، ويعزى السبب الرئيس إلى أن الانتخابات السابقة تم التوصل فيها إلى أغلبية حزبية لأن هدفها كان التخلص من حكم نجيب عبد الرازق ومنع حزب “الأمنو” من الوصول للحكم، وذلك عن طريق التحالف بين أنور إبراهيم ومهاتير محمد، أما هذه المرة فقد انقسم تحالف مهاتير وأنور نظرًا إلى تغير المصالح، مما أدى إلى تشتيت الأصوات بشكل كبير، مسفرًا عن فراغ سياسي للمرة الأولى، مما دفع الملك إلى ممارسة سلطاته.

وذلك لأن ماليزيا تعاني من الأساس من أزمة سياسية بعد الإطاحة بحكومة إسماعيل صبري المسجلة كأقصر فترة حكم، وحل البرلمان الماليزي عقب ضغوط كبيرة مارسها عليه حزب “المالايو” نتيجة تخوفهم من مصير الرئيس المسجون نجيب عبد الرازق الذي أطاح به مهاتير محمد وسُجن على ذمة قضايا رشوة وفساد، إضافة إلى الصراع داخل الحزب الحاكم الذي يقود البلاد، ورفض المعارضة للذهاب لهذه الانتخابات لأنها ترى أنها تمثل عودة لرؤوس الفساد.

وما ميز انتخابات 2022 أنها ضمت حوالي 5.7 مليون ناخب جديد من الشباب الذين أصبح لهم حق الانتخاب، وكانوا من العوامل التي أثرت بشكل كبير على اتجاهات النتائج؛ لأنهم لم يكونوا على الأقل من الجيل الذي شهد نهضة ماليزيا وخروجها من أزمة النمور الآسيوية في عام 1997 بأجندة وطنية بحتة. وقد اكتسبت هذه الفئة هذا الحق في التصويت عن طريق تعديل دستوري تم إدخاله في 2019 تضمن خفض سن الاقتراع القانوني من 21 إلى 18 عامًا.

فشكل المواطنون الذين يحق لهم الانتخاب والذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا النسبة الغالبة من الناخبين؛ أي أننا أمام مجتمع سياسي شاب في ماليزيا يفرض أوراق لعبة مغايرة تمامًا عن تلك الأوراق السياسية التي تم طرحها وقت استقلال ماليزيا وما تلاها من مرحلة النهضة التي قادها مهاتير محمد وأبدى فيها تمييزًا مال ناحية العرقية لـ “المالايو”، وهي الأزمة التي لازالت ضاربة بجذورها في عمق المجتمع الماليزي حتى الآن، بل يمكن القول إن الانقسام العرقي كان له أكبر الأثر في تحديد نتائج الانتخابات الحالية.

على كل حال، تضمنت الانتخابات الأخيرة معركة ثلاثية بين: ائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم بقيادة المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة برئاسة رئيس الوزراء الحالي إسماعيل صبري يعقوب، وائتلاف التحالف الوطني برئاسة محيي الدين ياسين، وائتلاف الأمل المعارض بزعامة أنور ابراهيم. بينما انحسر السباق بين تيارين سياسيين أساسيين: الأول بقيادة أنور إبراهيم لمواجهة الفساد، والثاني يوجهه صاحب السلطة التقليدي في ماليزيا “المالايو” والذي يدعو إلى عودة الاستقرار، إلا أنه لم يفلح حتى في حصد مقاعد تحفظ له تفوقه السياسي، ومُني بهزيمة أنزلته عن عرش السلطة بعد احتكار دام لستة عقود.

ولذلك، فإنه ليس من المهم أن يشكل “الأمنو” حزبًا معارضًا؛ لأنه سيكون خارج التشكيلة الحكومية، وإذا أراد ان يكون جزءًا من المشهد السياسي فلابد له من الانضواء تحت تحالف الأمل. كما جرت الترشيحات في الخامس من نوفمبر عندما تم الإعلان عن 945 مرشحًا لشغل 221 مقعدًا، استطاع الحزب الإسلامي حصد 44 مقعدًا منها وهي الأعلى في تاريخه ولكنه على ذلك يرفض التعامل مع الأحزاب التي يشير إليها بأنها تتبنى أفكارًا ليبرالية غربية، كما تقف الأحزاب ذات المرجعية المالاوية على طرفي نقيض مع الأحزاب ذات الانتماءات الصينية وتحذر من تنامي نفوذها.

الأزمات الاقتصادية والسياسية تطفو على السطح

أجريت الانتخابات الماليزية وسط أزمة سياسية تضاف إليها أوضاع اقتصادية متردية تضمنت ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع العملة الوطنية “الرينجت”، وحسب دراسة حديثة أجراها البنك الدولي فإن حوالي 70% من الأسر الماليزية ذات الدخل المنخفض أصبحت غير قادرة على توفير احتياجاتها الأساسية. ورغم أن ماليزيا تعد شريكًا تجاريًا أساسيًا للولايات المتحدة والصين، فإن الأحزاب لم تطرح رؤية اقتصادية تتيح النفاذ من الأزمة الاقتصادية الحالية، حتى أن المعارضة أحجمت عن تقديم خطط تقشفية تستهدف خفض الميزانية العامة وتقليل الإنفاق رغم تقليدية الأمر في أي أزمة اقتصادية وبالتحديد لأن اتهامات الفساد المالي تلاحق قادة “الملايو”.

ولكن على الرغم من عدم الاستقرار السياسي شبه المستمر والأضرار التي سببها الوباء، انتعشت ماليزيا بسرعة وتفتخر الحكومة هناك بواحد من أسرع برامج التطعيم ضد Covid-19 في العالم. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن تفشي فيروس كورونا كان من الأمور التي عول عليها السياسيون الماليزيون في ترجيح أن الماليزيين لن يقوموا بأفعال محفوفة بالمخاطر تزيد من تفاقم الأوضاع، ويعزى إلى ذلك التمكن من ضبط الانتخابات التي جرت في التاسع عشر من نوفمبر على الرغم من بعض الاضطرابات المحدودة التي شهدتها مدن متفرقة.

وحتى الآن، تعتمد خطة الإنفاق التي تم تمريرها وتبلغ 80 مليار دولار لعام 2023 على خفض الضرائب، مع استمرار تضييق العجز المالي من خلال المزيد من الإعانات الموجهة. وتستند الحكومة في ذلك إلى ارتفاع أسعار الطاقة هذا العام، مما أسفر عن زيادة أرباح شركة النفط الحكومية الماليزية Petroliam Nasional Bhd، وأسهم مع الحكومة في دفع فاتورة الدعم المتضخمة. ولكن استمرار حالة عدم اليقين بشأن مصير الميزانية أوجد رياحًا معاكسة جديدة للعملة المحلية التي تقبع بالفعل عند أدنى مستوى له منذ 24 عامًا مقابل الدولار، وما يشكله ذلك من واقع سيئ لماليزيا التي تستورد النسبة الأكبر من غذائها.

من جانب آخر فإن الأوضاع السياسية في كوالالمبور لم تكن أحسن حالًا؛ فقد شكلت الانتخابات الحلقة الأخيرة في عامين ونصف من ذروة الانشقاقات الحزبية، وهي الفترة التي شهدت انهيار حكومة واحدة وتولى ثلاثة رؤساء وزراء مختلفين زمام القيادة، إضافة إلى المشاحنات المستمرة واستعراض القوة بين الفصائل المتنافسة داخل الأحزاب الرئيسية. وقد كان أشهر مثال على ذلك الاقتتال الداخلي بين فصيلين رئيسين تحت ما يسمى بحراك شيراتون في فبراير 2020 والذي أطاح بتحالف الأمل بزعامة مهاتير محمد وشراكة أنور إبراهيم، وهو ما وضع الديمقراطية الماليزية في مواجهة الشعبوية للمرة الثانية بعد الأحداث الدامية التي شهدتها ماليزيا في ستينيات القرن الماضي وتم تحريكها أيضًا من قبل الأحزاب السياسية.

لماذا خسر مهاتير محمد؟

لم يكن صعود أنور إبراهيم المعارض الذي سعى جاهدًا إلى اقتناص فرصة وصفت بالأخيرة لرئاسة وزراء ماليزيا هو الأمر الأكثر إثارة للدهشة في الانتخابات الماليزية، فخسارة مهاتير صانع النهضة وقائد البلاد لمدة 24 عامًا على فترتين حتى في منطقته كانت بمثابة جرس الإنذار الذي ينبئ بتغير المزاج السياسي للمجتمع الماليزي، ويرجع أحد الأسباب وربما أهمها إلى تنامي القطاعات الناخبة الشابة بعد التعديل الدستوري الذي تم إقراره في 2019 وما يستتبعه ذلك من اختلاف في النظرة للواقع الماليزي والرغبة الملحة في التغيير.

لأنه لما يقرب من نصف قرن، كان أمام الناخبين الماليزيين خيار مخل في بساطته؛ إما اختيار تحالف الجبهة الوطنية الذي أدار البلاد منذ استقلالها في عام 1957، أو المعارضة، ومالت الكفة في كل الأوقات لتحالف الجبهة الوطنية، فيما لم يكن هناك وجود للمرشحين المستقلين الذين وصل عددهم لـ 108 مرشحين في الانتخابات الأخيرة في ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ السياسي لماليزيا.

ويضاف إلى ذلك الاستياء البالغ من تردي الأوضاع الاقتصادية والفساد، والتي تجلت في صورة واضحة أمام الأجيال الشابة الأكثر تحكمًا في المشهد اليوم بعد أن حوكم رئيس الوزراء الأسبق نجيب وأدين بتهم إساءة استخدام السلطة، وخيانة الأمانة الجنائية، وغسيل الأموال لدوره في فضيحة “وان.إم.دي.بي”، التي وصفتها وزارة العدل الأمريكية بأنها أكبر حكم “كليبتوقراطي” حتى الآن.

ولكن بالنسبة إلى المؤمنين بحزب ” الأمنو”، فإن التهم التي أدين بها نجيب لا تعني الكثير لأن الانتماء هنا لعرقية “المالايو” أكثر من كونها إلى أي شيء آخر. وليس من سبيل المبالغة الإشارة إلى أن نجيب عبد الرازق الذي يقضي حاليًا عقوبته كان ليتمكن من حجز مقعد برلماني في حال تم العفو عنه، أو تمكن “الأمنو” من شق طريقه للسلطة، وهو الأمر المستبعد بعد نتائج الانتخابات الحالية وصعوبة انضوائه تحت تحالف الأمل بقيادة أنور إبراهيم.

وتتبع المعارضة إلى حد ما تكتيكًا مشابهًا لحزب “الأمنو”، عائدة إلى الشعارات التي كانت سائدة قبل عقدين. وعلى الرغم من أن المعارضة لديها بعض الدعم بين “الملايو”، فإن قاعدتها المميزة يهيمن عليها الصينيون والهنود، الذين يشكلون ثلث الناخبين.

وعلاوة على ما تقدم، فإن مهاتير محمد عندما عاد إلى رئاسة الوزراء في عام 2018 لم يحقق ما وعد به الشارع الماليزي. صحيح أنه أطاح بنجيب عبد الرزاق ومنع “الأمنو” من العودة للحكم، ولكنه لم يحقق مطالب الشارع الاقتصادية والسياسية. ويضاف إلى ما تقدم أنه لم يف بوعده في تسليم السلطة لأنور إبراهيم والذي شكل معه تحالفًا في ذلك الوقت. ولذلك يُنظر للانتخابات الحالية بوصفها تسطر النهاية السياسية لمهاتير محمد؛ لأن الأمل الأكثر تجليًا وهو التحالف مع أنور إبراهيم يبدو بعيد المنال بعد جولتين خسر فيهما أنور إبراهيم أمام قائد النهضة: الأولى كانت في التسعينيات عندما تمت الإطاحة بأنور إبراهيم سياسيًا والزج به في السجن لمدة عشر سنوات على خلفية تهم بالفساد المالي والأخلاقي، والثانية عندما لم يسلمه مهاتير السلطة في 2018.

وفي كل الأحوال، كان على أنور إبراهيم أن يدرك بشكل مسبق أنه من غير المرجح أن يفي مهاتير بوعوده وأن يقتنص فرصة ذهبية تمثلت في حصوله على عفو ملكي في 2018 بعد فوز المعارضة. مع الاعتبار هنا إلى أن خسارة مهاتير محمد لا تلغي بحال من الأحوال تاريخه السياسي، وإن كانت تؤكد على إساءته للتقدير في المشهد الحالي، فكان من الأفضل ألا يعيد ترشيح نفسه أو على أقل تقدير أن يقدم جيلًا شابًا للقيادة.

ختامُا؛ يسوق الرجل القادم إلى ماليزيا “أنور إبراهيم ” نفسه بوصفه رائد التعددية، ووفرت له نتيجة الانتخابات الفرصة لإثبات ذلك بعد أن ذهبت أغلب التوقعات إلى أن أيًا من الأحزاب لن يستطيع تحقيق أغلبية تمكنه من الانفراد، وهو ما تحقق بالفعل عندما فاز تحالف الأمل بأغلبية بسيطة، مما يفتح الباب واسعًا أمام التحالفات “الخلفية” مع كل القوى. وتبقى أمام المجتمع الماليزي معضلة دائمة في مواجهة التغير، وهي التعددية العرقية التي تفرز نوعًا من الصراع يعيد البلاد إلى نفس المربع الانتمائي في كل مرة توشك الأمور فيها على الانقلاب.

بحيث تستقر الأزمة العرقية على الدوام بين “الملايو” الذين يؤمنون بأمة تأتي فيها مصالحهم أولًا مع مزج الإسلام بالسياسة في ثنائية تقليدية تقتل المشروع التعددي الذي يروج له أنور إبراهيم، وأولئك الذين يدعمون مجتمعًا تعدديًا تتمتع فيه المجموعات العرقية الأخرى في ماليزيا، ومعظمهم من الهند والصين، بحقوق متساوية. وقد كشفت الانتخابات الأخيرة عن أمة ما زالت منقسمة على أساس العرق، أكثر مما يعتقد الكثيرون، بطريقة تجعل ماليزيا بشكل عام أقل تعددية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74279/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M