مسلم عباس
نشطت في الآونة الأخيرة المحكمة الاتحادية كسلطة ضابطة لدستورية الإجراءات القانونية والسياسية في العراق، ما جعلها عامل تغيير يوجه دفة السياسة نحو مسارات تثير الغضب والاستهجان لأطراف معينة، والفرحة والاحتفال لآخرين.
كما أن ذات المحكمة أغضبت من أفرحتهم قبل أسابيع بقرارات صدرت لصالحهم، وأفرحت من هزموا سياسياً نتيجة فصلها في الإجراءات الانتخابية الأخيرة.
قوى الإطار التنسيقي التي تضم فصائل الحشد الشعبي وائتلاف دولة القانون خسرت قرارين من المحكمة الاتحادية رغم التهديد والتخويف بحرب شيعية داخلية.
الخسارة الأولى عندما قدمت قوى الإطار شكوى بشأن وجود تزوير في الانتخابات، والثانية عندما خسرت مع نواب آخرين معركة إلغاء انتخاب هيأة رئاسة البرلمان.
أجواء خسارة الإطار التنسيقي كانت مثيرة للاحتفال لدى التحالف الصدري البرزاني الحلبوسي، أو ما أطلق عليه تحالف الأغلبية.
لم تدم احتفالات تحالف الأغلبية طويلاً، فقد خسروا قرار المحكمة الاتحادية القاضي بأن انتخاب رئيس الجمهورية مشروط بحضور نصاب جلسة برلمانية كاملة مخصصة لانتخاب الرئيس فقط، حيث لا يستطيع التحالف جمع العدد الكافي ما أدخله في مأزق ما يزال مستمراً.
ضربة أخرى هزت أركان تحالف الأغلبية الصدري البرزاني الحلبوسي، حين قررت المحكمة الاتحادية منع مرشحهم لرئاسة الجمهورية هوشيار زيباري، الذي وصف القرار “إنه زمن انحشار القضاء في بوتقة السياسة إذا لم نقل إنه زمن مسك القضاء بأزمّة السياسة لتوجيهها حيث يريد الكبار!”.
الحَكَم الصارم
أن تتحول المحكمة الاتحادية إلى ما يشبه “الحَكَم الصارم” في نظام مباريات كرة القدم، لها كلمة الفصل في المنازعات فهذا خبر عظيم يستحق منا كل التقدير لنظامنا السياسي.
إنها مرحلة نضوج كنا نطلبها وندعو للاحتكام للدستور بصفته الخارطة التي تسير على هداها سفينة السياسية، بينما عشنا سنوات طوال والخارطة على الرف الجانبي للملاح.. بل على رفوف عدد من الملاحين لأن سفينة العراق يقودها أكثر من ملاح في آن واحد.
على سبيل الإيضاح، لا توجد سفينة واحدة تدير تصدير النفط الوطني العراقي، في الجنوب حيث الحكومة الاتحادية تحكم قبضتها على منافذ التصدير وتوزع الواردات على جميع المحافظات حسب ما مقيد في الموازنة العامة للدولة.
أما في الشمال حيث يقع إقليم كردستان، فعند الحديث عن النفط والموارد الطبيعية، كأنك تعيش في دولة مجاورة، كيف؟
نفس الإقليم الشمالي يعتمد مالياً على أموال نفط الجنوب _وهذا حقه الوطني_ لكنه يقوم بتصدر نفطه بنفسه ولا يعطي أمواله لخزينة الدولة _وهذا غير مشروع دستورياً_ وفق القرار الأخير للمحكمة الاتحادية الذي قضى بدوره على ما يقرب من عقد ونصف من عمليات بيع النفط خارج سلطة الحكومة المركزية في بغداد.
تلك كانت الضربة القاضية التي أسقطت سقف الأغلبية العالي تحت ركام الأزمات المؤجلة، فقد عادت كل الأحداث إلى المربع الأول أو اقتربت منه بضع مترات.
تقول المحكمة الاتحادية أن النفط والغاز ثروة وطنية صلاحيات التصرف فيها حصرية بيد الحكومة الاتحادية في بغداد، وعلى هذا الأساس يلغى قانون النفط والغاز المشرع في إقليم كردستان عام 2007.
الزعيم القوى في الإقليم رفقة أسرته مسعود برزاني عد القرار غير دستوري، وأعطى إشارات إلى إمكانية عدم تطبيقه لما يمثله من خروقات للدستور العراقي حسب رأيه، لكن إشارات البرزاني تبدو شبيه بصراعات اللاعبين مع حكم المباريات في كرة القدم، إنها بدون فائدة لأن القرار قد اتخذ وسوف تترتب عليه كل النتائج التالية وحيث يجب أن يباع نفط العراق بسفينة واحدة وبعلم عراقي واحد.
نتساءل وكثير من العراقيين معنا، كيف استطاعت المحكمة الاتحادية العودة بالعراق إلى أجواء عام 2007 وما قبلها حيث أقر قانون النفط والغاز في الإقليم، وكيف يمكن تجاوز هذه المدة الطويلة التي كانت تجارة العراق النفطية تباع بسفينتين بينما الدستور يقرها بسفينة واحدة؟ وكيف يمكن حل مشكلة سفينة الإقليم التي لا تعرف الرقابة المالية إين كانت وجهتها وإين صرفت أموال نفطها؟
ما بعد قرار الاتحادية بشأن قانون النفط والغاز في الإقليم يختلف عما قبله، بشرط عدم زحف السياسة نحو قلعة المحكمة الاتحادية، والسياسة العراقية مشهورة بالتهام كل ما يقف بوجهها وأساليبها القائمة على المحاصصة بعيداً عن الدستور.
إذا كانت الأحزاب والتيارات السياسية حريصة فعلياً على هيبة العراق واستقراره في المستقبل، عليها إثبات ذلك عبر دعم المحكمة الاتحادية وعدم التدخل في قراراتها وقبول ما تقوله لكونه يثبت أسس الدولة العراقية على أرضية دستورية صلبة.