لاشك فى أن التطورات الأخيرة فى قضية السد الإثيوبى تؤكد بصورة واضحة أن هذه القضية الحيوية لم تغب يوما عن اهتمام القيادة السياسية المصرية، وأنها أهم أولويات سياستنا الخارجية، ورغم أن المفاوضات توقفت منذ نحو عامين فإن مصر كانت حريصة طوال هذه الفترة على تلمس أنسب الظروف لإعادة القضية إلى الصدارة على المستويين الإقليمى والدولى، وأن تجد طريقها إلى الحل السلمى.
لايمكن لأى متابع محايد لتطورات هذه القضية منذ بدايتها عام 2011 وحتى الآن إلا أن يؤكد بكل موضوعية أن الدولة المصرية كانت حريصة منذ اليوم الأول على أن تكون المفاوضات هى المسار الرئيسى لحل القضية، وأن تكون رسالة مصر للعالم أن القضايا المثارة على مستوى القارة الإفريقية لابد أن يتم حلها حلا سياسيا، وأن القارة ليست فى حاجة إلى مزيد من المشكلات بل فى حاجة إلى التنمية الاقتصادية.
ومن هنا طرحت مصر المبدأ الرئيسى لحل القضية بأن يكون نهر النيل نموذجا للتعاون بين دول حوض النيل دون الإضرار بالمصالح والحقوق المائية لأى من هذه الدول، وبالتالى فقد حاولت مصر ـ ومازالت ـ التوصل إلى اتفاق قانونى وعادل وملزم بشأن إدارة وتشغيل السد بما يحقق مصالح كل من مصر والسودان وإثيوبيا.
تحركت مصر بكل الجدية فى طريق المسار السياسى وشاركت فى جميع أنواع المفاوضات الثلاثية والرباعية وغيرها لأكثر من عقد، وقبلت بالوساطة الإفريقية ثم تعاملت بشفافية مع الوساطة الأمريكية ووقعت فى واشنطن بالأحرف الأولى فى فبراير 2020 على اتفاق لحل هذه الأزمة، بينما غابت إثيوبيا عن المشاركة فى اجتماع التوقيع رغم مشاركتها فى كل المفاوضات التى سبقت هذا الاتفاق، ثم لم يكن أمام مصر خيار سوى اللجوء إلى مجلس الأمن بعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود من أجل أن يتحمل المجلس مسئوليته فى حفظ الأمن والسلم العالمى .
وفى الوقت الذى لم تدخر فيه القيادة السياسية المصرية وسعا للتحرك فى طريق الحل السياسى كانت تؤكد دائما فى المقابل أنها لن تسمح لأحد بتعطيش مصر، وأن قضية المياه هى مسألة حياة أو موت، ومن ثم حرصت مصر على الانخراط فى العملية التفاوضية بحثا عن حلول عادلة وليس إلى تكريس الأمر الواقع، إلا أنه للأسف اتسمت السياسة الإثيوبية طوال هذه السنوات بالتشدد وبدأت فى عمليات الملء دون اتفاق مع دولتى المصب وانتهجت إجراءات أحادية تتعارض مع القانون الدولى .
ومن ناحية أخرى لايمكن الحديث عن قضية السد الإثيوبى دون التطرق إلى مرجعيته القانونية الأساسية، وهى إعلان المبادئ الموقع فى الخرطوم فى مارس 2015، وهو اتفاق قانونى وملزم للأطراف الثلاثة الموقعة عليه وهى مصر والسودان وإثيوبيا ويشمل عشرة بنود رئيسية ابتداء بالتعاون والتفاهم والمصلحة والمنفعة المشتركة، ومرورا بمبدأ عدم التسبب فى ضرر ذى شأن، وانتهاء بتأكيد مبدأ التسوية السياسية للمنازعات، وللأسف لم تلتزم إثيوبيا، بهذا الإعلان، ورغم ذلك ركزت مصر على التحرك السياسى وطالبت إثيوبيا بضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم بالتزامن مع مطالبتها المجتمع الدولى بالتدخل حفاظا على الأمن والاستقرار فى المنطقة .
ورغم التشدد الإثيوبى كان الرئيس عبدالفتاح السيسى يلتقى رئيس الوزراء الإثيوبى فى المحافل الإفريقية والدولية المختلفة، ويؤكد له أهمية دعم العلاقات الثنائية بين الدولتين ويسعى بشكل مباشر وغير مباشر إلى دفع إثيوبيا إلى إبداء المرونة اللازمة لتحريك المسار السياسى.
وقد جاء مؤتمر قمة دول جوار السودان الذى عقد فى القاهرة فى الثالث عشر من يوليو الحالى – والذى كانت إثيوبيا أحد أطرافه – فرصة لعقد لقاء ثنائى بين السيد الرئيس ورئيس الوزراء الإثيوبى أسفر عن إصدار بيان مشترك تضمن مايلى :
• الشروع فى مفاوضات عاجلة للانتهاء من الاتفاق بين الدول الثلاث لملء سد النهضة وقواعد تشغيله .
• الاتفاق على بذل جميع الجهود الضرورية للانتهاء من هذا الاتفاق خلال أربعة أشهر .
• التزام إثيوبيا خلال فترة المفاوضات وأثناء ملء السد خلال عامى 2023 و2024 بعدم إلحاق ضرر ذى شأن بمصر والسودان بما يوفر الاحتياجات المائية للدولتين .
وإذا كان هذا البيان المشترك يقترب كثيراً فى مضمونه من إعلان المبادئ الموقع فى 2015، إلا أنه من الضرورى الإشارة إلى أن إثيوبيا حرصت أيضاً على توفير مناخ إيجابى قبل إستئناف المفاوضات من خلال مايلى:
• تصريح رئيس الوزراء الإثيوبى فى السادس من يوليو الحالى أمام البرلمان الإثيوبى بأن عملية التخزين للعام الحالى سوف تتم تدريجيا خلافا للأعوام السابقة، مع التزام بلاده بعدم الإضرار بدولتى المصب، كما أن حكومته تفكر حاليا فى بناء خطة إستراتيجية مستقبلية مشتركة سيتم عرضها على مصر والسودان بما يخدم مصالح الدول الثلاث .
• إعلان مكتب آبى أحمد يوم 15 يوليو الحالى أن إثيوبيا لاتنوى الإضرار بدول حوض النيل واعتزامها العمل على إقامة شراكة حقيقية يربح فيها الجميع كما أن تخزين المياه سيكون ضمانا للجميع فى حالات الجفاف الصعبة التى قد تحدث فى المواسم المقبلة .
وفى النهاية إذا كانت جميع الشواهد تشير إلى أن هناك مرحلة جديدة تلوح فى الأفق يمكن أن تؤدى إلى التوصل إلى حل سياسى لقضية السد يحظى بموافقة جميع الأطراف، إلا أن المسئولية الأكبر تقع على إثيوبيا التى يجب عليها فتح صفحة جديدة وتبدى المرونة اللازمة فى المفاوضات، وأن يتم استثمار الأشهر الأربعة المقبلة فى مفاوضات جادة تؤسس لتعاون حقيقى مستقبلا بما يعود بالنفع على جميع الأطراف، ويصبح نهر النيل بمثابة النموذج الإفريقى الأمثل لترجمة مبدأ التعايش السلمى والمصالح المشتركة.
نقلا عن جريدة الاهرام
.
رابط المصدر: