قفزة أخرى إلى الأمام: كيف عزَّزت قمة شي-بوتين الاستدارة الروسية نحو الصين؟

عزز لقاء القمة بين الزعيمين الصيني شي جينبنغ والروسي فلاديمير بوتين، في 21 مارس الماضي، المسارات الموجودة المحددة مسبقاً للعلاقات بين القوتين، وعجَّل بعضها. وعلى الرغم من التكهنات بأن الصين تبنت خطوات للابتعاد عن الشراكة مع روسيا، سعياً للحفاظ على علاقاتها التجارية مع أوروبا، فقد اتفق الزعيمان خلال القمة على تعميق العلاقات الثنائية، خصوصاً في منطقة الإندو-باسيفيك.

 

تتناول هذه الورقة بالتحليل الدعم الروسي لسياسات الصين إزاء تايوان وتحالفي “أوكوس” و”كواد”، وأثره في الشراكة “بلا حدود” بين الجانبين، وتبعات ذلك على منطقة الخليج.

 

تعميق العلاقات الصينية-الروسية 

تناولت محادثات الرئيسين الصيني والروسي قضايا مهمة مثل تايوان، والعلاقات بين الشعبين، والتعاون اللوجستي. لكن المخرجات الأهم للقمة تتعلق بنجاح شي في تعزيز التحالف مع روسيا بشأن تايوان، على الرغم من وجود تساؤلات حول موقف روسيا في حال نشوب حرب في المضيق.

 

وكان منتقدون قد سلَّطوا الضوء على القمة الأخيرة التي عقدت بين شي وبوتين في موسكو؛ سعياً لتقييم العلاقات بين الصين وروسيا، واختبار مدى تماسك مبدأ “شراكة بلا حدود” الذي أُعلِن عنه في 4 فبراير 2022. فعلى سبيل المثال، أشارت  تقارير نُشرت قبل انعقاد القمة إلى أن هناك “إشارات بأن شي سيظل حذراً من التكاليف المحتملة التي من الممكن أن تعود عليه بسبب صداقته مع الزعيم الروسي، وبشكل خاص في أوروبا، حيث تسعى بيجين إلى تعزيز التجارة بعد أن تسببت سياستها “صفر كوفيد” في ضرب اقتصادها العام الماضي”.

 

لكن وعلى العكس، انتهت القمة بنتائج واضحة أشارت إلى تقوية الشراكة بين بيجين وموسكو. ففي بيان رسمي، قالت الصين إنها ستقف إلى جانب روسيا في وقت التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب. وأوضح البيان أن “الصين ستلتزم بدفع شراكة التعاون الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا في العصر الجديد”. وجرى التشديد على ضرورة تعاون الجانبين في الشؤون الدولية من خلال مؤسسات متعددة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة دول “بريكس”. ومع أن عمل هاتين المنظمتين، تحديداً، منذ تأسيسهما لم يتسبب في تحولات كبرى، لكن من المرجح أن يجعل تنافس القوى العظمى المحتدم حالياً، والعودة الصريحة إلى سياسة التكتلات، المنظمتين أكثر نشاطاً وفاعلية عبر تقوية الشراكات بين أعضائها. وقد أشار بوتين إلى أنه على “استعداد لتعزيز التعاون الدولي مع الصين”، في إشارة منه إلى أطر العمل التي تقودها الصين، مثل “مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية”.

 

وكان لافتاً، من خلال البيان المشترك، أن الصين تنظر إلى العلاقات مع روسيا باعتبارها تتجاوز التعاون الجيوسياسي، وتمتد إلى “التبادلات بين الشعبين”، والعلاقات “بين الأقاليم الشقيقة والمدن الشقيقة”. وقد أشارت نفس الوثيقة إلى أن شي يرغب في أن يرتقي بمستوى التعاون بين موسكو وبيجين “في قضايا تخص الابتكار وتسهيل التنقل واللوجستيات عبر الحدود”. ويكشف هذا الاتجاه عن الحد الذي يمكن أن يتضمنه بند “الابتكار” في تقنيات ذات استخدام مزدوج من الممكن أن يكون لها أبعاد عسكرية محتملة، في حين يقصد بالتركيز على “اللوجستيات عبر الحدود” تعزيز الترابط والتعاون بين الدولتين على المستويين الاقتصادي والتجاري.

 

حسم الموقف الروسي تجاه تايوان

من الممكن الاستنتاج، إذن، أن القمة دفعت بالعلاقات الصينية-الروسية خطوة إلى الأمام، خاصة فيما يتعلق بنجاح شي في تأمين دعم روسيا إزاء السياسات الصينية تجاه تايوان. وأوضح بيان القمة المشترك، الذي صدر باللغة الصينية، أن روسيا “تؤكد التزامها بمبدأ الصين الواحدة، والذي يقرّ بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، كما أنها تعارض أي شكل من أشكال استقلال تايوان، وتدعم بشكل قاطع الإجراءات التي اتخذتها الصين لحماية سيادتها ووحدة أراضيها”. ووفقاً لصحيفة “نيكاي آسيا” اليابانية، فقد استطاع شي، من خلال هذا البيان، العودة إلى الصين حاملاً “جائزة دبلوماسية كبرى تتمثل في بيان دعم بشأن قضية تايوان في الوقت الذي سعى فيه للعب دور الوساطة في حرب أوكرانيا”.

 

وتمثل عبارتا “تدعم بشكل قاطع”، وتعترف بتايوان “كجزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية” في البيان المشترك، تحولاً مهماً فيما يخص السياسة الروسية تجاه قضية تايوان. وفي الماضي، التزمت روسيا “بمراعاة” مبدأ “الصين الواحدة”، ولم تذهب أبعد من ذلك فيما يخص تايوان. وانحازت روسيا إلى الجانب الصيني في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، لتايوان في أغسطس العام الماضي. وصرَّح المتحدث الرسمي باسم الكرملين بأن “كل ما يتعلق بهذه الجولة له طابع استفزازي”، مُضيفاً أن موسكو “تتضامن بشكل مطلق مع الصين”، وأن “حساسية بيجين تجاه هذه المسألة لها مبرراتها”. وفي سبتمبر 2022، وخلال أول محادثات شخصية بين شي وبوتين، وصف الرئيس الروسي زيارة بيلوسي بأنها “نشاط استفزازي من قبل الولايات المتحدة في مضيق تايوان” مكرراً ذكر مبدأ “الصين الواحدة”.

 

لقد كانت الصورة قبل بداية الحرب الأوكرانية أكثر غموضاً، بيد أن هذه الحرب أنهت أي التباس بشأن الموقف الروسي من تايوان. فحتى عام 2021، كانت روسيا تفكر في إقامة تعاون اقتصادي مع تايوان، بالتزامن مع سعيها إلى تطوير “شراكة اقتصادية” مع دول عدة في شمال شرق آسيا، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية. أي أن روسيا كانت تنظر إلى علاقاتها الاقتصادية بالصين على نفس مستوى شراكاتها المحتملة مع قوى آسيوية أخرى منافسة لها. ونبعت هذه المقاربة من تخوفات روسية من الهيمنة الاقتصادية للصين في منطقة شرق آسيا. مع ذلك، فإن قضايا الأمن القومي احتلت الأولوية في التفكير الاستراتيجي الروسي على وقع عملية “إعادة انحياز” متسارعة إثر الحرب الأوكرانية، وإعادة تسلح اليابان، وتركيز الغرب على جبهة الصين وروسيا باعتبارها مُهدداً وجودياً. وقد أنهت هذه التطورات احتمالات إقامة موسكو علاقات اقتصادية أو شراكات سياسية موازية مع دول منافسة للصين في شمال شرق آسيا، على الأقل في المدى القريب.

 

لكن، رغم التطور الواضح في الموقف الروسي إزاء تايوان، لا يزال هذا الموقف غير كاف، وفقاً لبعض المسؤولين الصينيين الذين يرغبون في رؤية موقف روسي أوضح حول سلوك موسكو في حال أقدمت الصين على ضم تايوان بالقوة. وستظل هذه القضية نقطة هشة في العلاقات الثنائية، إذ إن غياب التزام رسمي روسي بدعم الصين (حتى بالأساليب العسكرية) يؤكد أن العلاقة بين بيجين وموسكو لم تصل إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي يتضمن بعداً عسكرياً. وقد يتوقف هذا التحول على استمرار أو انتهاء حالة عدم اليقين فيما يخص دعم الصين العسكري لروسيا في أوكرانيا.

 

دعم روسي غير مشروط للصين تجاه “أوكوس” و”كواد” 

يمثل دعم روسيا للصين في قضية تايوان قيمة رمزية عالية، ويُظهِر قوة العلاقات الثنائية بين الطرفين. لكن، ينبغي النظر لهذه القضية من خلال المنظور الأكبر للتطورات الحالية في منطقة الإند-وباسيفيك، وبشكل خاص صعود سياسة بناء التحالفات بقيادة الولايات المتحدة في وقت تتبلور فيه معالم نظام دولي جديد.

 

وتضمَّن البيان المشترك الذي أعقب القمة بين شي وبوتين بعض النقاط المهمة حول كلٍّ من تحالف “أوكوس”، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي أشارت إلى وجود توافق بين الدولتين فيما يخص منطقة الإندو-باسيفيك. فقد أوضح البيان أن “الطرفين أعربا عن مخاوفهما بشأن التداعيات والمخاطر المحتملة لتوقيع اتفاقية شراكة أمنية ثلاثية (أوكوس)”، على افتراض أنها ستقوِّض “الاستقرار الاستراتيجي الإقليمي”. ويهدف تحالف “أوكوس” إلى احتواء القوات البحرية للجيش الصيني داخل سلسلة الجزر الأولى في غرب المحيط الهادئ. لذلك، وإذا كان موقف الصين الداعم ضمنياً لروسيا في حربها ضد أوكرانيا يجعل من بيجين شريكاً لروسيا، فإن معارضة روسيا لتحالف “أوكوس” يعني أن موسكو قد تُستهدَف من قبل نفس التحالف في منطقة الإندو-باسيفيك.

 

بالإضافة إلى ذلك، أكَّد الشريكان خلال القمة الأخيرة رؤيتهما لتحالف “أوكوس” على أنه امتداد لحلف الناتو، في انعكاس لنفس رؤية الصين إزاء تحالف “كواد”، باعتباره حلف ناتو آسيوياً. وبشكل خاص، “أعرب الطرفان عن مخاوفهما بشأن استمرار الناتو في تعزيز الروابط العسكرية الأمنية مع دول آسيا والمحيط الهادئ”، وهو ما ترى الدولتان أنَّه “يخلق سياسات جماعية تعتمد على المواجهة بين التكتلات” ضمن استراتيجية “حرب باردة” لبناء التحالفات. واتفقت القوتان على أن توسُّع تحالفي “أوكوس” والناتو يأتي في صميم “استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الإندو-باسيفيك”، وهو شعار صيني تبنته روسيا أيضاً. ورددت روسيا صدى الصين، موجهةً “انتقاداتها لبناء الولايات المتحدة تحالفات مع أستراليا والهند واليابان تحت شعار منطقة إندو-باسيفيك حرة ومفتوحة”. ولهذا، تقف الصين وروسيا على نفس الجبهة عندما يتعلق الأمر بأمن منطقة الإندو-باسيفيك. وأحد الأسباب المهمة لذلك، هو تمدُّد الولايات المتحدة نحو المنطقة. وكما أوضح لافروف في بيان، في أكتوبر 2021، فإن “استراتيجية الإندو-باسيفيك الخاصة بالولايات المتحدة تهدف إلى تفكيك هذا النظام الذي اعتمد على الحاجة إلى احترام عدم قابلية الأمن للتجزئة”، وتعلن بشكل صريح “أن هدفها الرئيس هو احتواء الصين”.

 

وبينما لا يوجد أي شكوك حول دعم موسكو لبيجين سياسياً كما هو الحال في مسألة تايوان، لا يزال من غير الواضح أيضاً إلى أي مدى ستكون روسيا قادرة على دعم الصين في منطقة الإندو-باسيفيك من وجهة نظر عسكرية. ومن بين جميع القوى – لاسيما الولايات المتحدة وفرنسا – التي اتجهت نحو منطقة الإندو-باسيفيك خلال هذه السنوات، يبدو أن روسيا لا تزال تفتقر لنفوذ كبير في المنطقة، على الرغم من الاعتقاد السائد أن انفصال موسكو عن أوروبا قد يدفعها لاستثمار موارد أكبر في المنطقة.

 

وبالنسبة لروسيا، لن يصبح الإندو-باسيفيك منطقة فرض نفوذ بنفس الطريقة التي أصبحت بها منطقة أوروبا الشرقية، لكنها ستوفر مساحة يمكن لروسيا أن تتعاون مع الصين وتدعمها من خلالها. وترى موسكو منطقة الإندو-باسيفيك باعتبارها فرصة لتنويع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، خاصة بالتزامن مع العزلة المفروضة عليها من الغرب نتيجة حرب أوكرانيا. وفي ضوء ذلك، تنص العقيدة البحرية الروسية على أنه من الضروري الحفاظ على علاقات “ودية” مع الهند في منطقة المحيط الهندي، وأن منطقة المحيط الهادئ تتمتع بأهمية “كبرى” بفضل العلاقات مع الصين. ومن هذا المنطلق، قد تسعى بيجين إلى الاستفادة من علاقتها بموسكو لتسوية أي خلافات مع الهند وإرسال رسائل طمأنة لها عبر المسؤولين الروس، بفضل علاقات الهند وروسيا العسكرية والاقتصادية العميقة والانحياز الهندي المتزايد باتجاه واشنطن فيما يتعلق بتنافسها مع بيجين.

 

الآثار المحتملة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي

لا يُغيّر اللقاء بين شي وبوتين في موسكو قواعد اللعبة بالنسبة لدول الخليج في الوقت الحالي. لكن قد ينتج عنه مُقدمات لأحداث مهمة في المستقبل، في ظل ما حمله من مؤشرات على تسارع الاندفاع الصيني والروسي نحو بناء شراكة قوية وشاملة وتعميقها، رغم عدم اكتمال إضفاء طابع رسمي على ديناميات التعاون بينهما على المستوى العسكري.

 

وتتعلق أهم التداعيات التي من الممكن أن تؤثر على دول الخليج بـ “سياسات التكتلات” أو مجالات النفوذ بين القوى العظمى. ومع أنه ليس من الواضح بعدُ ما إذا كان لهذه التطورات تداعيات سلبية أو إيجابية على المنطقة، إلا أن من المرجَّح أن تتجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه كل من الصين وروسيا نحو مزيدٍ من التوحد، بمعنى أن واشنطن ستنظر إلى هاتين الدولتين باعتبارهما قوة واحدة.

 

وفيما يتعلق بمصالح الخليج، يتمثل التهديد الأهم في أن الولايات المتحدة يمكن أن تضغط باتجاه تحقيق أهداف تتسق مع مصالحها دون تفكير كاف مسبقاً، أو بشكل يغيب عنه المنطقية أحياناً. وثمة أثر ثانوي قد ينتج عن تقوية العلاقات الصينية الروسية، وهو توقُّع روسيا المحتمل تبني دول الخليج لمواقف مشابهة لتلك التي تتخذها إزاء قضايا صينية محددة، إلى جانب توقُّع الصين نفس التصرف الخليجي بالنسبة للعلاقات الروسية الخليجية. وتظل هذه السيناريوهات محتملة على المدى المنظور، كما أنها ستعتمد على المدى الذي سيصل إليه عُمْق الشراكة بين الصين وروسيا.

 

وبشكل جوهري، فإن قمة شي وبوتين تدفع النظام العالمي خطوة أبعد باتجاه نسخة جديدة من “الستار الحديدي”. وفي الوقت الحالي، يظل هذا الانقسام مسامياً ومتسقاً مع درجة عالية من الاعتماد المتبادل بين المعسكرين المتنافسين مقارنة بتفاعلات الحرب الباردة في القرن الماضي. وقد أصبح التنافس بين الصين والولايات المتحدة في منطقة الخليج أكثر وضوحاً، لكنه لا يزال عند مستويات يمكن السيطرة عليها. ومع ذلك، تُقدِّم التطورات الأخيرة دافعاً أكبر للاقتصادات الناشئة والقوى الصغيرة والمتوسطة لتكثيف التعاون من خلال منتديات متعددة الأطراف، تتبنى نهجي عدم الانحياز وتجنُّب التسييس، لبناء درجة من المرونة في المجالات الاقتصادية التي أصبحت عرضة لـ”الانفصال” بسبب الانقسام العالمي الآخذ في التزايد.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/kayf-azzazt-qimat-chi-putin-aliaistidara-alruwsia-nahw-alsiyn

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M