في ظل تركز الأنظار حول العالم على التطورات “الميدانية” للمعارك الدائرة منذ أكثر من عام في أوكرانيا، جاءت نهاية الأسبوع الماضي بحدث لافت وغير متوقع يرتبط بهذه التطورات، لكن لم يكن محل هذا الحدث هو الميدان، بل كانت مواقع شبكات التواصل الاجتماعي هي مصدره، وتحديدًا منصة تبادل الصور “4CHAN” ومواقع التواصل الاجتماعي “ديسكورد” و”تويتر” و”تيليجرام”.
بداية هذا الحدث كانت أواخر الشهر الماضي، حين بدأت تظهر بشكل متقطع دفعة أولى من صور لوثائق عسكرية أمريكية ممهورة بأختام “سري” و”سري للغاية”، تم تداولها على موقع “ديسكورد” أولًا، ومن ثم بدأت وتيرة نشر هذه الوثائق في تصاعد تدريجيًا منذ الخامس من الشهر الجاري، حيث تم نشر بعضها في منصة “4CHAN”، وصولًا إلى نشر دفعة ثانية من صور هذه الوثائق على منصتي تويتر وتيليجرام في السابع من الشهر الجاري.
خريطة عامة للموقف الميداني في الأول من مارس 2023
السمة الأساسية في هذه الوثائق – التي تم إعدادها خلال الفترة بين أواخر شهر يناير الماضي، والأول من شهر مارس الماضي – أنها تتضمن تقديرات موقف حول الوضع الميداني والتكتيكي والتسليحي في أوكرانيا، أعدتها هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، وأن عددًا كبيرًا منها يحمل ختم “Secret / NoForn”، أي أنها لم تكن قابلة للعرض على أي طرف خارجي، في حين تشير بعض هذه الوثائق إلى أن ما تحتويه من معلومات تم تداولها مع أطراف أخرى مثل أوكرانيا وحلف الناتو والتحالف الاستخباراتي “العيون الخمس”، الذي يضم بجانب جهاز المخابرات المركزية الأمريكية أجهزة مخابرات كل من كندا ونيوزلندا والمملكة المتحدة وأستراليا. المفارقة هنا أن بعض هذه الوثائق تمت الإشارة إلى أنه تم إرسال محتواها إلى فنلندا، والتي لم تكن خلال الشهرين الماضيين قد أكملت عملية انضمامها إلى حلف الناتو.
السمة الثانية التي يمكن تسجيلها في هذه الوثائق، تتعلق بأنها مثلت دليلًا مهمًا على عدة أدوار “خفية” للداعمين الغربيين للجيش الأوكراني – سواء على المستوى التسليحي أو مستوى الانخراط القتالي الميداني المباشر – ناهيك عن أن حجم التفاصيل الواردة فيها أشار بوضوح إلى حجم التغطية الاستخباراتية التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية في الداخل الأوكراني، حيث شملت التفاصيل المتداولة في هذه الوثائق أرقامًا وتفاصيل كثيفة تتعلق بالمعارك الدائرة حاليًا في أوكرانيا، بما في ذلك خطوط السيطرة والقتال العامة في جبهة باخموت والجبهة الجنوبية وكذا محيط مدينة خاركيف شمال شرق البلاد، بجانب الأوقات التقريبية التي سيتم فيها تسليم الأسلحة والمنظومات القتالية الجاري التدريب عليها حاليًا، مثل الدبابات وعربات القتال المدرعة.
حقيقة الأمر أن المستوى “المرتفع” من الوعي الأمريكي بدقائق الميدان الأوكراني، ربما يشير بطريقة أو بأخرى إلى وجود مصادر استخباراتية مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يمكن ربطه بما تحدثت عنه الأوساط الأمريكية خلال العام الماضي، بشأن وجود مخاوف أوكرانية جدية من إمكانية تسريب الخطط العسكرية الخاصة بالجيش الأوكراني، والتي يتم تداولها مع البنتاجون، وهو ما انعكس لاحقًا بشكل سلبي على تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الجانبين، والذي تشير بعض المعلومات إلى أن وتيرته قد انخفضت خلال الفترات الأخيرة.
احتوت خريطة الموقف الميداني العام التي تضمنتها إحدى الوثائق المسربة، على إحصائية لحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها الجيش الروسي والجيش الأوكراني منذ انطلاق العمليات العسكرية في فبراير 2022، واللافت هنا أن ما تم تداوله من وثائق احتوى على نسختين من هذه الإحصائية، أشارت النسخة الأولى “يسار الصورة المرفقة”، إلى أن الجيش الروسي قد تكبد خسائر بشرية تتراوح بين 16 و17 ألف جندي، وفقد 600 مركبة قتالية متنوعة، وسبع مقاتلات، وثماني مروحيات، في حين فقد الجيش الأوكراني ما بين 61 و71 ألف جندي، و60 طائرة مقاتلة، و32 مروحية، و21 بطارية دفاع جوي ثابتة، و74 منظومة دفاع جوي ذاتية الحركة.
أما النسخة الثانية “يمين الصورة”، فقد أفادت أن الجيش الروسي قد فقد ما بين 35 و43 ألف جندي، و72 مقاتلة، و82 مروحية، وأكثر من 6 آلاف عربة قتال متنوعة، في حين فقد الجيش الأوكراني ما بين 16 و17 ألف جندي، و60 مقاتلة و32 مروحية، بجانب 11 بطارية دفاع جوي ثابتة، و34 منظومة دفاع جوي ذاتية الحركة. وجود كلتا النسختين يمكن اعتباره النقطة الأساسية التي من خلالها تحدثت بعض الأوساط الأمريكية عن تعرض هذه الوثائق – التي لم يتم نفي صحتها رسميًا – لنوع من أنواع التلاعب أو التعديل قبل نشرها على الإنترنت، وهنا لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن عدة تصريحات سابقة تحدثت عن أن معدل القتلى اليومي في صفوف الجيش الأوكراني قد يتراوح بين 100 و200 جندي، مثل تصريح سابق لأحد كبار مستشاري الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودولياك، الذي صرح لإحدى وسائل الإعلام البريطانية بتصريحات تحمل هذا المضمون في يونيو الماضي.
وعلى الرغم من أن الوثائق المسربة لا تقدم بشكل واضح خطط قتال محددة سيتبعها الجيش الأوكراني ميدانيًا، إلا أنها قدمت إيضاحات مهمة حول الاستعدادات الأوكرانية والغربية لشن هجوم مضاد على القوات الروسية، والتي تتلخص في إعداد وتجهيز 12 لواء أوكراني، وأشارت إحدى الوثائق إلى أن تسعة منها تم الانتهاء بالفعل من عمليات تدريب وتسليح عناصرها، وأن ستة من هذه الألوية ستكون قد وصلت إلى حالة الجاهزية القتالية الكاملة بحلول أواخر مارس “الماضي”، في حين ستصل بقية الألوية إلى هذه الحالة بحلول أواخر الشهر الجاري، كما تشير الوثيقة إلى أن القوة المدرعة اللازمة لتسليح هذه الألوية تتكون من 250 دبابة و350 عربة قتال مدرعة على الأقل، وأن التأخير الذي طرأ على عدة مراحل في جداول تسليم وحدات هذه القوة المدرعة، قد أثر على جداول تدريب الطقم الأوكرانية، وكذا على الخطة الزمنية الخاصة بإطلاق هذا الهجوم.
تحتوي الوثائق المسربة أيضًا على معلومات مهمة تتعلق بحالة التدريب والذخائر الخاصة بالمدرعات وعربات القتال المدرعة والمدفعية التي تتسلمها وتسلمتها سابقًا القوات الأوكرانية، وكذا أسماء الوحدات المدرعة الأوكرانية التي ستتسلم الدبابات التي ستدخل إلى الخدمة في الجيش الأوكراني، مثل اللواء المدرع الثاني والثمانين، الذي سيتلقى 14 دبابة بريطانية من نوع “تشالنجر-2” و40 مركبة ألمانية من نوع “ماردر”، واللواء المدرع الثالث والثلاثين، الذي سيتلقى دبابات “ليوبارد” الألمانية، بنسختيها “أيه-5″ و”إيه-6”. تشمل هذه المعلومات بيانات حول الوسائط المدفعية والصاروخية الأهم في الترسانة الأوكرانية، مثل ذخائر منظومة “هيمارس” الصاروخية، التي قالت إحدى الوثائق إنه تم إطلاق أكثر من 9500 صاروخ خاص بهذه المنظومة، في حين تم إطلاق ما يقرب من 935 ألف قذيفة مدفعية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن معدل الإطلاق الصاروخي والمدفعي الأسبوعي في أوكرانيا – على الأقل خلال شهر فبراير الماضي- بلغ 2750 قذيفة مدفعية وأربعة عشر صاروخ “هيمارس”.
تضمنت وثيقتان من هذه الوثائق تفاصيل دقيقة حول المنظومات العامة في شبكة الدفاع الجوي الأوكرانية، وأماكن تموضعها وحالتها القتالية، واللافت هنا أن هاتين الوثيقتين احتوتا على قراءة “متشائمة” لحالة الدفاع الجوي الأوكرانية خلال الأسابيع المقبلة، حيث أشارت هذه الوثائق إلى قرب نفاذ الذخائر المتوفرة لعدة أنواع من منظومات الدفاع الجوي الأوكرانية، خاصة المنظومات الدفاعية المخصصة للارتفاعات المتوسط والعالية، وهي منظومات “بوك-1-2″، التي استنفذت بالفعل ذخائرها أواخر الشهر الماضي، ومنظومات “إس-300″، التي يتوقع أن تستنفد ذخائرها في الثاني من مايو المقبل.
كذلك تشير الوثائق المتعلقة بالدفاع الجوي إلى نقص مماثل في ذخائر منظومات الدفاع الجوي التي تزودت بها أوكرانيا من دول حلف الناتو، مثل منظومتي “ناساماز” النرويجية و”أيريس-تي” الألمانية، التي أشارت الوثائق إلى قرب انتهاء ذخائرهما المتوفرة لدى أوكرانيا، وهو ما تعكسه القراءة العامة التي وردت في الوثيقة الخاصة بمنظومة الدفاع الجوي الأوكرانية الموحدة، التي تشير إلى أن وحدات الدفاع الجوي الأوكرانية – في حال ما إذا لم تتوفر لديها ذخائر خاصة بالدفاع الجوي متوسط – طويل المدى – لن تستطيع توفير الحماية اللازمة للقوات العاملة على خطوط المواجهة الأممية، وأن ما سيتوفر من منظومات متوسطة أو بعيدة المدى سيتم توفيره للدفاع عن البنية التحتية الحيوية.
من الوثائق المهمة فيما تم تسريبه، وثيقة تتناول تحديثات التحركات العسكرية العامة لحلف الناتو على المستوى البري والبحري نحو شرق أوروبا، بما في ذلك أعداد القوات والطائرات والغواصات المتواجدة في النطاقات المحيطة أو القريبة من أوكرانيا. لكن النقطة الأكثر إثارة للاهتمام في هذا الصدد، تتعلق بوجود إحصائية لأعداد القوات الخاصة التابعة لحلف الناتو والجيش الأمريكي، التي تتواجد على الأراضي الأوكرانية، والتي أشارت إلى أن عددها مجتمعة كان ما يقرب من مائة جندي، من بينهم 50 جنديًا ألمانيًا، وهي إشارة مهمة نظرًا لأنها ترتبط بنقطة طالما تحدثت عنها موسكو مرارًا، وتتعلق بأنها تقاتل – عمليًا – حلف الناتو وليس الجيش الأوكراني فحسب. يضاف إلى هذه الوثيقة، ثلاث وثائق أخرى تتناول الوضع الميداني التفصيلي في جبهة باخموت وجبهة خاركيف والجبهة الجنوبية، حيث أشارت إحداها إلى ان القوات الروسية في الخطوط الأمامية بجبهة دونيتسك تبلغ 91 كتيبة يقدر تعداد أفرادها الإجمالي بـ 23 ألف جندي، في حين تمتلك أوكرانيا في هذه الجبهة إجمالًا نحو ثمانية ألوية و40 كتيبة مستقلة، يبلغ إجمالي عدد المقاتلين فيها بين 10 و20 ألف جندي.
جدير بالذكر أن الوثائق المسربة – وإن كانت قد ركزت بشكل طاغي على الميدان الأوكراني – إلا أنها تناولت أيضًا معلومات إضافية عن الصين والمسرح العسكري في المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط، بجانب برنامج إيران النووي، وبرنامج الصواريخ الكوري الشمالي، لكن لم تنتشر المعلومات المتعلقة بهذه الملفات بشكل سريع، نظرًا لشروع الحكومة الأمريكية في حذف ما تسرب من وثائق على الإنترنت، لكن رغم هذا يمكن – بتقييم أولي – اعتبار الوثائق المسربة بمثابة اختراق مهم للبيئة الاستخباراتية الأمريكية، وستكون له بالتأكيد انعكاسات مهمة على “الهجوم الأوكراني المرتقب”، وكذا على الحالة المعنوية والنفسية للأطراف التي تقاتل الجيش الروسي، والتي اتضح أنها – على الأرض – لا تقتصر على الجيش الأوكراني فقط.
وإلى أن تنتهي تحقيقات وزارة العدل الأمريكية والبنتاجون حول هذه التسريبات، وتتضح ماهية الجهة المسربة لهذه التقارير، وما إذا كانت الوثائق المسربة تقتصر على ما تم إعلانه فقط، أم أن هناك دفعات أخرى سيتم الكشف عنها في القريب العاجل.
.
رابط المصدر: