قناة السويس في مواجهة المنافسة العالمية (2):الممرات البرية ومتعددة الوسائط

طُرحَ على مدار السنوات الأخيرة عدد من المشروعات اللوجستية التي تقوم فكرتها على استغلال دولة أو عدد من الدول لموقعها الجغرافي بهدف تشييد ممرات لوجستية تخدم خطوط التجارة الإقليمية والعالمية المارة في نطاق إقليم محدد أو العابرة للقارات خاصة الواصلة منها بين شرق آسيا وغرب أوروبا وأمريكا، ولقد تنوعت تلك المشروعات اللوجستية المطروحة بين ممرات مائية تعتمد على المحيطات والبحار المفتوحة وأيضًا القنوات الصناعية في عملية تنقل السفن، وممرات برية تستخدم السكك الحديدية والطرق وخطوط الأنابيب في عملية نقل البضائع والمنتجات البترولية، فضلًا عن ممرات متعددة الوسائط تقوم بالدمج بين الطرق البرية والبحرية في عمليات تداول السلع.

وتحسب تلك المشروعات الجديدة على أنها منافس مستقبلي محتمل لقناة السويس، لأنها قد تنتقص من حصة التجارة المارة بهذا الممر المائي المصري الذي يعد حاليًا أهم ممر ملاحي صناعي في العالم، مما قد يعود بالسلب على اقتصادات القناة وبالتالي الاقتصاد المصري ككل. تقابل هذه الخطط في أحيان كثيرة بالشكوك أحيانًا، والمبالغة أحيانًا أخرى، والمطلوب هو تقييم موضوعي وتحليل لمستوى التقدم الحاصل في عملية تنفيذ وتشغيل تلك المشروعات حتى تاريخ نشر هذا التقرير، وذلك للوصول إلى تقييم موضوعي حول فرضية خسارة قناة السويس لجزء من حركة أعمالها في المستقبل.

سيركز التقرير الثاني من سلسلة ” قناة السويس في مواجهة المنافسة العالمية” على الممرات البرية ومتعددة الوسائط التي قد تتحول لأداة مستحدثة لنقل البضائع بين آسيا وأوروبا، وهو ما سيجعلها منافسًا صاعدًا في مواجهة قناة السويس، خاصة وأن التكنولوجيات الجديدة تتيح إمكانية نقل كميات أكبر من البضائع عبر السكك الحديدية والطرق البرية، بتكلفة أقل، فضلًا عن مراعاة البيئة من خلال تقليص حجم الانبعاثات الدفيئة الناتجة عن عوادم تشغيل القطارات والشاحنات، والتي بلغت كمياتها الإجمالية في 2019 فقط حوالي 1.89 مليار طن متري، أي ما يقارب على 23% من إجمالي التلوث الناتج عن استخدام وسائل النقل عالميًا.

يبلغ عدد الممرات البرية ومتعددة الوسائط التي يُحتمل منافستها للقناة حتى الآن تسع ممرات، خمسة منها منتشرة حول قارات العالم، فيما يمر الأربعة الآخرون عبر إقليم الشرق الأوسط.

  1. ممرات الحزام الصينية:

سعت الصين منذ العقد الأخير في القرن الماضي إلى تطوير وتعزيز هيمنتها الاقتصادية العالمية، هذا ما دفعها إلى وضع استراتيجية عُرفت باسم سياسة الخروج للعالم، ولقد كانت عملية تقوية الروابط التجارية مع دول وسط وغرب قارة آسيا وأيضًا دول قارة أوروبا، هي وسيلة الصين المطروحة لتحقيق هذا الهدف، وهو ما شجعها في 2013 على إعلان مشروعها الطموح المسمى طريق الحرير الجديد، والقائمة فكرتها تدشين ممرين لوجستيين أحدهما بري والآخر بحري.

أعرب العديد من دول العالم على مدار العقد الماضي عن رغبتهم مشاركة الصين في مثل هذا المشروع الواعد، لتقوم الحكومة الصينية على إثر ذلك بتوسيع نطاق مبادرتها لتشمل أكثر من 150 دولة في أربع قارات، ولقد تعاونت الصين في هذا الصدد مع تلك الدول من خلال تشييد البنى التحتية الخادمة لحركة التجارة والاقتصاد المحلي والإقليمي، كما استغلت هذا الزخم الإيجابي لزيادة عدد الممرات اللوجستية المرتبطة بمبادرتها -التي سميت لاحقًا باسم مبادرة الحزام والطريق- إلى تسعة ممرات، ستة منها برية وثلاثة بحرية، ويورد الجدول التالي -رقم 1- أبرز المعلومات حولها.

أسم الممر نوع الممر الدول التي يخدمها الممر
1 محور الصين – منغوليا – روسيا الاقتصادي بري دولتي منغوليا وروسيا
2 الجسر الأوراسي الجديد بري دول كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا
3 محور الصين – وسط آسيا – غرب آسيا الاقتصادي بري دول كازاخستان واوزباكستان وتركمانستان وإيران وتركيا
4 محور شبه الجزيرة الهندية الصينية الاقتصادي بري دول فايتنام ولاوس وتايلاند وكامبوديا وماليزيا وسنغافورا
5 محور الصين باكستان الاقتصادي بري دولة باكستان
6 محور الصين – بنجلادش – الهند – ميانمار الاقتصادي بري دول بنجلادش، الهند، ميانمار
7 طريق الحرير عبر المحيط الهندي والبحر المتوسط بحري كافة الدول الواقعة على طريق قناة السويس البحري بين البحرين الأصفر والمتوسط
8 طريق الحرير عبر المحيط الهادئ بحري دول وجرز جنوب شرق آسيا
9 طريق الحرير القطبي بحري دول شمال أوروبا

ويمكن لثلاثة من تلك الممرات البرية الصينية أن تمثل منافسًا محتملًا لقناة السويس المصرية، وأولهم الجسر الأوراسي الجديد الذي تم تدشين أول خطوطه في يوليو 2011 بين مدينتي تشونغ تشينغ في وسط الصين ودويسبرج في غرب ألمانيا، أي قبل الإعلان عن مشروع الحزام والطريق الصيني، لكن أعمال هذا الممر أخذت في التوسع على مدار السنوات اللاحقة وذلك بالتوازي مع نمو طموحات الصين نحو توسيع علاقاتها التجارية بدول أوروبا، حتى تمكن في 2017 من الربط بين 35 مدينة صينية و34 مدينة أوروبية، كما ساهم خلال ذات العام في تفويج 3,270 رحلة قطار بضائع بين قارتي آسيا وأوروبا.

لم تتوقف التطورات الجارية على هذا الممر اللوجستي خلال السنوات اللاحقة، وذلك على الرغم من زيادة التوترات السياسية بين روسيا والغرب، والتي وصلت لأقصى درجاتها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث اتفقت الدول الست المشاركة في تشغيل الممر على إطلاق أول خط بضائع بين آسيا وأوروبا بجدول ثابت، ولقد تم تنفيذ باكورة رحلاته في نوفمبر 2022 بعد أن قطع القطار الأول مسافة تقارب على عشرة آلاف كيلو مستغرقًا أحد عشر يوم من المسير المتواصل، كما لعبت الأقدار دورًا إيجابيًا في دعم أعمال هذا الممر بعد اندلاع أزمة الاعتداء على السفن المارة بمضيق باب المندب في نوفمبر 2023، حيث لوحظ تزايد الطلب على خدماته بنسبة 37% خلال الأشهر الأولى من العام الحالي 2024، ومن المتوقع أن يزيد الاعتماد على الجسر الأوراسي خلال السنوات القادمة مع استمرار الدول المشغلة في تنفيذ مشروعات تطويره.

نجد أيضًا من بين ممرات الحزام الصينية التي يمكنها منافسة قناة السويس محور الصين -منغوليا – روسيا الاقتصادي، الذي يعد أقصر طريق بري بين الصين وروسيا بطول 1,100كم من السكك الحديدية وأقل من ألف كيلو متر من الطرق السريعة، الذي يمكنه بعد ذلك أن يرتبط مع الممرات اللوجستية الأوروبية، لكنه يعاني إلى الآن من محدودية استغلاله وضعف بنيته التحتية، على الرغم من اتفاق الدول الثلاث في 2016 على تطويره وتعظيم الاستفادة منه، ويعزى هذا التباطؤ إلى اندلاع التوترات على الجبهة الأوكرانية، وانشغال الجانب الروسي عن مجهودات تنميته بملفات أخرى ذات صلة بعمليتها العسكرية الجارية على حدودها الغربية.

آخر الممرات الصينية التي يمكنها منافسة قناة السويس المصرية محور الصين – وسط آسيا – غرب آسيا الاقتصادي، الذي يتخذ من طريق الحرير التاريخي مسارًا جغرافيًا له، وتستهدف الصين من خلال تشييده بالتعاون مع دول وسط وغرب آسيا وتركيا أن تفتح لنفسها منفذًا تجاريًا جديدًا نحو قارة أوروبا، ليكون وقت الضرورة بديلًا عن الممرات العابرة بإقليم شرق أوروبا الذي تزايدت التحديات السياسية بداخله خلال العقد الماضي. لكن يواجه هذا الممر جملة من التحديات الرئيسية مثل تواضع بنيته التحتية، وعدم استقرار الدول المشغلة له سياسيًا، فضلًا عن ضعف التنسيق اللوجستي بين تلك الدول، وأيضًا التقلب الحاد في الأحوال المناخية ببعض مواقعه، لينطبع ذلك كله على زيادة تكاليف النقل عبر هذا الممر، مما يقلل جاذبيته لحركة التجارة الدولية.

  1. سكك حديد سيبيريا:

يوصف خط سكك حديد سيبيريا الروسي بأنه الأطول عالميًا، حيث يمتد على مسافة 9,288 كم بين العاصمة الروسية موسكو ومدينة وميناء فلاديفوستوك الواقعة في إقليم بريمورسكي بجنوب شرق دولة روسيا الاتحادية (انظر الخريطة التالية رقم 2)، كما يعد واحدًا من أقدم خطوط السكك الحديدية في روسيا حيث بدأت أعمال تشييده عام 1891، ولقد طمحت السلطات الروسية خلال السنوات الأخيرة إلى الاستفادة من ميزات هذا الخط كي تحوله إلى ممر تجاري دولي يربط دول شرق أسيا بأوروبا، خاصة دولتي كوريا الجنوبية واليابان اللتين بلغت قيمة تجارتيهما في 2021 مع الاتحاد الأوروبي 107.3 مليارات يورو، و62.4 مليار يورو بالترتيب، ليعزز ذلك من مكانة روسيا السياسية والاقتصادية إقليميًا وعالميًا.

خريطة رقم 2: مسار خط سكك حديد سيبيريا

بدأت روسيا منذ 2021 في تنفيذ مشروع تحديثي شامل هدفه زيادة حجم المنقول عبر هذا الممر إلى 200 مليون طن بحلول 2025، ولقد رصدت الحكومة الروسية في هذا الصدد ما يفوق 520 مليار روبل، إلا أن المشروع واجه العديد من العثرات والتأخيرات التي يعزى بعضها لحالة التوتر الاقتصادي التي تعيشها البلاد منذ فرض الغرب عقوبات عليها، وذلك بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014. تلك العقوبات التي تزايد عددها بشكل لافت بعد الاجتياح الروسي الأخير للأراضي الأوكرانية عام 2022، هذا ما يدفع الدولة الروسية الآن إلى البحث عن مستثمرين لضخ الكثير من الأموال في سبيل تنفيذ هذا المشروع، وهو ما يُستبعد تحقيقه خلال الفترة القريبة نظرًا لاستمرار التوترات العسكرية على الأرض الأوكرانية.

  1. مشروع إيلات – أسدود:

أعلنت إسرائيل في بداية 2012 عن سعيها مفاوضة الصين لتمويل مشروع خط سكك حديد تجاري منافس لقناة السويس، من خلال تشييد وصلة سككية بين ميناء إيلات على خليج العقبة ومدينة ديمونة بصحراء النقب، لتتلاقى تلك الوصلة مع نهاية خط السكك الحديد القائم والرباط بين ديمونة من جهة ومدن المواني الإسرائيلية بغرب البلاد مثل إسدود وحيفا من جهة أخرى، ولقد قدرت السلطات الإسرائيلية قيمة المشروع في حينها 7.9 مليارات دولار، كما خططت أن يبلغ طول مساره 240 كم، ولقد عزى المخططون علو التكلفة المالية لاعتماد المشروع المُقترح على تكنولوجيات وبنية تحتية متقدمة تخدم قطاعي نقل الركاب والبضائع، بالإضافة لكثرة عدد الأعمال الصناعية بمساره والتي وصل إجماليها لثمانية وستين نفقًا وكوبري، إلا أن المشروع لم يشهد أي خطوات عملية نحو التنفيذ بسبب علو تكلفته في مقابل محدودية عوائده المادية.

عادت إسرائيل في منتصف عام 2023 لتطرح خطة أخرى مشابهة وبنطاق أوسع من ذي قبل، حيث استهدفت مد خط سكك حديد فائق السرعة من مدينة كريات شمونة في أقصى شمال إسرائيل إلى مدينة وميناء إيلات في أقصى الجنوب، ولقد قُدرت القيمة الإجمالية للمشروع بحوالي 27 مليار دولار، كما خطط السلطات الإسرائيلية لأن يربط المشروع بين مختلف المراكز التجارية واللوجستية على امتداد الدولة، لكن خطط إسرائيل لم تفعل على الأرض حتى حينه، وهناك احتمالية لأن تقوم السلطات الإسرائيلية بدمج جزء من المشروع في إطار مشروع الممر الاقتصادي الهندي الذي أعلنته الولايات المتحدة في سبتمبر من العام الماضي 2023 وذلك لضمان وجود التمويل المادي الكافي.

  1. ممر شمال جنوب:

ظهرت الفكرة الأولية لهذا المشروع أواخر القرن التاسع عشر في عهد روسيا الإمبراطورية، التي رغبت في الوصول للمياه الدفيئة عبر ممر تجاري بري يهبط من الأراضي الروسية نحو إمارة أفغانستان وصولًا لبلاد فارس المطلة على المحيط الهندي، لكن طرح الفكرة في حد ذاته لم يرَ النور حتى عام 2000 حينما وقعت ثلاث دول هي روسيا وإيران والهند على اتفاق لتشييد ممر تجاري متعدد الوسائط رابط بينهم، ولقد انضم إليهم على مدار العقدين اللاحقين ما مجموعه إحدى عشر دولة موزعين على غرب ووسط آسيا وأقصى شرق أوروبا. بلغ طول الطريق المقترح 7,200 كيلو مترًا، كما خُطط لأن يكون طرفيه عند مدينة مومباي الهندية جنوبًا ومدينة سان بطرسبرج الروسية شمالًا- انظر الخريطة التالية رقم 3-.

خريطة رقم 3: مسار ممر شمال جنوب بالمقارنة بمسار طريق قناة السويس الملاحي

بقي العمل على هذا المشروع بطيئًا ومحدودًا حتى السنوات الأخيرة، حيث أسهمت التحولات السياسية التي عايشتها آسيا وعايشها العالم في علو الصوت المنادي بتفعيل هذا الممر، حيث تسعى إيران من جانبها إلى تشغيل مثل هذا الخط أملًا في التحول إلى مركز لوجستي محوري في منطقة وسط وغرب آسيا وهو ما سيقوي بدوره قطاعها الاقتصادي المنهك، فيما تهدف موسكو إلى تجاوز العقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب والتي تعرقل حركة تجارتها، فضلًا عن اختصار زمن إيصال البضائع بين الشرق الأوسط وروسيا إلى قرابة 20 يومًا، أي ما يساوي 40-50% من الوقت المستغرق لإيصال ذات البضائع عن طريق البحر مرورًا بقناة السويس، فيما تتطلع دول وسط وغرب آسيا إلى زيادة اتصاليتها بسلاسل الإمداد العالمي، وهو ما يحفز اقتصاداتها المحلية على النمو، كما ترى الهند في هذا الممر فرصة للوصول إلى أسواق آسيوية جديدة دون الحاجة لاستخدام الممرات البرية الصينية المناظرة، أو العبور على الجارة باكستان.

تواجه أعمال تشييد ممر شمال جنوب جملة من العقبات التي تواجه مختلف الدول المشاركة فيه، ومنها مثلًا تردي البنية التحتية لخدمات النقل في بعض الدول كإيران التي توصف شبكات سككها الحديدية بغير المتلائمة مع أعمال النقل التجاري، فضلًا سوء الحالة الفنية لشبكات الطرق السريعة وتقادم الموانئ البحرية، ويعترض مختلف الدول المشاركة تحدٍ متمثل في توفير التمويل اللازم لأعمال التطوير، خاصة وأن المؤسسات المالية الكبرى في الغرب والصين تحجم عن إعطاء القروض المطلوبة تبعًا لوجود عدد من الأهداف السياسية، كما يعاني المشروع من سوء حالة التنظيم الجمركي بين دوله، وعدم وجود كيانات لوجستية واضحة لتنسيق سلاسل إمداده العابرة للحدود، ويزيد على كل ذلك وجود خلافات سياسية وتوترات أمنية بين بعض الدول الآسيوية المشاركة في تشييد الممر.

تحاول الدول المساهمة في الممر أن تتجاوز عقبات تنفيذ المشروع من خلال ما يتاح من وسائل، فنجد إيران مثلًا وهي تسعى لتشييد خط سكك حديدية في شمال البلاد بهدف خدمة حركة التجارة العابرة نحو بحر قزوين، كما تتعاون دول تركمانستان وروسيا وإيران في تطوير بعض البنى التحتية للجانب الشرقي من الممر، وتفسح الدول المؤسسة لمشروع الممر المجال أمام شركات القطاع الخاص لضخ استثماراتها في عمليات التشييد والتشغيل، فضلًا عن التسويق لخدمات ممر- شمال بواسطة الإعلان عن إطلاق شحنات تجريبية لنقل أنواع مختلفة من البضائع بين الحين والآخر، كما لا يتم الاعتراض تقريبًا على ما يقترح من توسعات جديدة قد تسهم في إعادة تشكيل خريطة المشروع مستقبلًا بما يتلاءم مع إمكانات بقية الدول المساهمة ويعظم من قيمة الممر اللوجستية.

ويمكن التعقيب في هذا الصدد بأن ممر شمال- جنوب لن يحقق الفائدة المرجوة منه على المدى القريب، لكن الحرص والاهتمام الذي تبديه مختلف الدول المشاركة في تشييده، يدفع بالاعتقاد أن هذا الممر سيشهد حالة من التراكم التطويري على المديين المتوسط والبعيد، وهو ما سيؤدي إلى تقوية مرافقه الخادمة وسيجعل منه مسارًا قابلًا لتداول عشرات ملايين الأطنان من البضائع سنويًا.

  1. الممرات التركية- العربية:

حرصت تركيا على استغلال جهود التهدئة السياسية التي نفذتها خلال الأعوام الأخيرة، في إفادة اقتصادها الوطني الذي واجه العديد من العثرات على مدار العقد الماضي، هذا ما حفزها على طرح العديد من مشروعات الشراكة الاقتصادية مع دول الخليج العربي، التي كان من بينها الممرات اللوجستية التي ستربط موانئ شرق شبه الجزيرة العربية بموانئ جنوب تركيا خاصة ميناء مرسين.

دشنت تركيا أولى ممراتها اللوجستية الرابطة مع الخليج في نوفمبر 2021 تحت اسم ممر الشارقة – بندر عباس- مرسين، ولقد بدء مسار الممر في حينها من ميناء الشارقة الإماراتي عابرًا مياه الخليج العربي نحو ميناء شهيد رجائي الإيراني ليستكمل طريقه بعد ذلك عبر الطرق البرية إلى ميناء مرسين التركي، ولقد كان مستهدفًا أن يسهم الطريق -حال تنميته- في تقليص زمن مدة نقل البضائع بواقع 60% لتصل إلى ثمانية أيام على الأكثر، وذلك بعد أن كانت تفوق العشرين يومًا باستخدام طريق قناة السويس البحري التقليدي.

لكن الحديث عن هذا الممر أخذ في الخفوت على مدار الأشهر اللاحقة، خاصة مع وجود تحديات سياسية وفنية أعاقت طموحات تطويره، وهي تحديات مرتبطة بتذبذب العلاقات الإيرانية مع تركيا والخليج، وازدياد العقوبات الغربية على إيران، إضافة إلى تدهور البنية التحتية اللوجستية في الأراضي الإيرانية.

تحولت تركيا سريعًا نحو مشروع آخر رسمته العراق أوائل 2022، وهو المتمثل في تشييد ممر سككي وطريق بري يبدأ مساريهما من ميناء الفاو الكبير على الخليج العربي مرورًا بعدد من المدن العراقية الكبرى كالبصرة وبغداد والموصل انتهاءً بخط الحدود العراقية التركية شمال محافظة دهوك – انظر الخريطة التالية رقم 4-، لذلك أعلن الرئيس التركي في ختام قمة مجموعة العشرين المنعقدة بنيودلهي في سبتمبر من العام الماضي 2023 عن اعتزام دولته مشاركة السعودية والإمارات والعراق في تشييد هذا الممر المستحدث.

خريطة رقم 4: مسار ممر التنمية العراقي 

ومن المخطط أن تتوزع عمليات تشييد الممر الذي سيتكلف  على ثلاث مراحل زمنية تتوازى في تنفيذها مع خطط تشييد ميناء الفاو الكبير، حيث ستنتهي المرحلة الأولى منه عام 2028 مع إكمال خط السكك الحديد والطريق البري المتجه صوب تركيا، فيما سيتم إكمال المرحلتين الثانية والثالثة بحلول عامي 2038 و2050، وتتمحور عمليات تنمية هاتين المرحلتين الأخيرتين حول مضاعفة الطاقة الاستيعابية للممر تبعًا لتنامي الطاقة الاستيعابية لميناء الفاو الكبير.

تشير بعض التكهنات السياسية إلى وجود رابط بين استبعاد تركيا من مشروع الممر الاقتصادي الهندي المدعوم أمريكيًا، وبين توجهها نحو المشاركة في تنفيذ مشروع ممر التنمية العراقي، حيث تريد تركيا أن تعزز فرص وجودها على الساحة اللوجستية الإقليمية رغمًا عن الاستبعاد الأمريكي، لكن هناك توقعات بأن يواجه مشروع ممر التنمية العراقي عقبات في التمويل والتنفيذ حال توجيه السعودية والإمارات جل انتباهها لمشروع الممر الهندي المزمع.

  1. الممر الهندي:

وقعت الولايات المتحدة في التاسع من سبتمبر 2023 مذكرة تفاهم مع كل من الهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي بهدف تطوير ممر اقتصادي رابط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ولقد كان الهدف المعلن من تدشين هذا الممر هو تعزيز الارتباط والاندماج الاقتصادي بين الدول الحليفة للولايات المتحدة في آسيا وأوروبا، فيما يعتقد أن أهم الأهداف الأساسية من طرح ذلك هو مناوءة الصين ومشروعها العالمي المعروف باسم الحزام والطريق، فضلًا عن فتح آفاق للتعاون الاقتصادي بين دول الخليج العربي وإسرائيل، بما يكمل طموحات عقد اتفاقات التطبيع السياسي مع تلك الدول.

ومن المخطط أن يبدأ مسار الممر من مينائي ماندرا ومومباي التجاريين على الساحل الغربي لشبه الجزيرة الهندية عبر المحيط الهندي وبحر العرب باتجاه ميناء جبل علي الإماراتي، لتتحول حركة التجارة المتداولة عبر الممر بعد ذلك إلى السكك الحديدية التي ستمر بأراضي المملكة العربية السعودية قبل أن تنتهي عند ميناء حيفا التجاري الإسرائيلي، ومن ثَمّ تعود البضائع إلى التحميل على ظهر السفن حتى وجهتها النهائية بالمواني الأوروبية – انظر الخريطة التالية رقم 5-.

خريطة رقم 5: مسار المحور الاقتصادي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي

وتطمح الدول المشاركة في المشروع لزيادة حركة التجارة البينية عبر هذا الممر بنسبة 40%، لكن الملف التجاري ليس كل شيء، حيث ترغب تلك الدول في إضافة أنشطة اقتصادية ذات طبيعة متقدمة تقنيًا وتراعي أيضًا الاستدامة البيئية مثل مدّ خطوط نقل الهيدروجين النظيف، وكابلات نقل الكهرباء وخطوط الألياف الضوئية لتداول البيانات الرقمية والاتصالات، وهو ما سيضمن خلق حالة من الترابط الاقتصادي والتكنولوجي بين تلك الدول، فضلًا عن تسهيل التواصل والتطبيع بين شعوبها ومجتمعاتها.

يواجه مشروع الممر الاقتصادي الهندي جملة من التحديات رغم الطموحات الكبيرة التي جرى ترويجها في شأنه، وأولها التحديات السياسية المتعلقة بإمكانية إتمام اتفاقات التطبيع السياسي بين إسرائيل ودول الخليج العربي في الوقت الراهن، إضافة إلى وقوع الدول المشاركة في هذا المشروع خاصة الشرق أوسطية منها تحت ضغط التجاذبات الدولية، والمتمثلة في حالة المنافسة التقليدية بين الصين والولايات المتحدة، فضلًا عن التحديات التمويلية والاقتصادية المتعلقة بتقسيم الأعباء المالية المرتبطة بتشييد البنية التحتية لهذا المشروع وحجم العوائد المنتظرة منه على مدار السنوات والعقود القادمة، وأخيرًا التحديات الأمنية المتمثلة في تكرار الصراعات المسلحة بالمنطقة، ومنها مثالًا التوتر الحالي الذي بدأ في أكتوبر 2023 ولا يزال يشهد حالة من التوسع والتعقد اليومي.

ختامًا، يمكن القول إن أغلب الممرات البرية التي تُحسب على أنها منافسة لقناة السويس لا تزال في طور النمو، كما أن الكثير من التحديات والمشكلات تعيق طريق عملها (انظر الجدول الأخير رقم 6)، وهذا ما سيؤدي إلى فشل بعضها، فيما سينجح بعضها الآخر في معالجة تحدياته وتقوية إمكاناته بشكل تراكمي، ليصبح مستقبلًا من الممرات اللوجستية الفاعلة إقليميًا أو عالميًا، مما يمثل تحديًا لقناة السويس، ويؤكد أهمية قيام مصر بتطوير وتنفيذ مشروعات تضمن لها الحفاظ على حصة عادلة من عوائد شبكات النقل واللوجستيات العالمية بما يتناسب مع موقعها الجغرافي المميز.

جدول رقم 6: الصورة العامة لمشروعات الممرات البرية ومتعددة الوسائط (حاليًا ومستقبلًا

المراجع المستخدمة

  • دراسة بعنوان “ممر الشمال- الجنوب: حدود الدور والمراهنات الإيرانية”، محمد فايز فرحات، العدد السابع، مجلة الدراسات الإيرانية، يونيو 2018.
  • تقرير بعنوان “لماذا لا يمكن لإيران عمليا تفعيل ممر “شمال – جنوب” بديلا لقناة السويس؟”، على عاطف، المصرد المصري، 3 أبريل 2024.
  • تقرير بعنوان ” تراكم الأزمات: هل تتصاعد الخلافات بين إيران وأذربيجان؟”، شروق إبراهيم، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 6 فبراير 2023.
  • تقرير بعنوان “طريق التنمية في العراق: الشئون الجيوسياسية، والريعية، والممرّات الحدودية”، حارث حسن، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 21 مايو 2024.
  • تقرير بعنوان “الموانئ التجارية الإسرائيلية: نجاح محلي وتعثر إقليمي”، مصطفى عبداللاه، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 28 يوليو 2024.
  • دراسة بعنوان ” الممر التجاري العالمي الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي.. الفرص والتحديات، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 5 أكتوبر 2023.
  • مقال بعنوان ” الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا: خطوة محدودة جدًّا ومتأخّرة جدًّا؟”، عبد المعز خان، مركز كارنيجي للسلام العالمي، 12 ديسمبر 2023.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/47606/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M