في حديث تليفزيوني، مساء الأحد 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021، اتهم رئيس الدبلوماسية الفرنسية، جان إيف لودريان، قوات فاغنر الروسية الخاصة بأنها أصبحت بديلًا عن سلطة الدولة في جمهورية إفريقيا الوسطى، وأنها -أكثر من ذلك- صادرت القدرة المالية لهذه الدولة الإفريقية الغنية بمواردها الطبيعية. فقوات فاغنر، ما إن تدخل بلدًا، حسب الوزير الفرنسي، إلا وضاعفت الانتهاكات، ومارست الابتزاز، بل والافتراس أحيانًا حتى تحل محل سلطة البلد.
من الواضح أن لودريان يوجه رسالة علنية إلى السلطات المالية الجديدة التي تُجري مناقشات حاليًّا مع الشركة المقربة من الكرملين، على طريقة “إياك أعني واسمعي يا جارة”. ومن الواضح كذلك أن أصحاب القرار السياسي في باريس، يتجاهلون أن منافسيهم في الخريطة الاستراتيجية العالمية ليسوا بالضرورة أعداء للدول الإفريقية التي كانت يومًا ما مستعمرات فرنسية، وأن الدول الإفريقية غير مطالبة برفض أي شريك لا ترضى عنه فرنسا، أو أي خصم يزاحم باريس تجاريًّا واقتصاديًّا أو عسكريًّا وأمنيًّا. بل إن منافسي فرنسا وخصومها على الساحة الدولية قد يكونون حلفاء للدول الإفريقية، بل وأكثر مردودية على شعوبها وأنظمتها، وقد ينجحون في علاقاتهم مع إفريقيا فيما فشلت فيه باريس منذ عدة عقود. فحتى الساعة، يبدو أن صانعي القرار في فرنسا لا يرون أن ما يقدمونه لإفريقيا لم يعد فعالًا ولا منافسًا لما تجده دول القارة عند شركاء آخرين، بل يُفهم من سلوكهم وتصريحاتهم أن إفريقيا، وخصوصًا الفرنكوفونية منها، لم تخرج بعد عن طور الحضانة.
هل دفعت فرنسا إفريقيا الوسطى للتوجه نحو موسكو؟
ظلت الصين خلال العقدين الماضيين حاضرة لدى دول الغرب عمومًا وفرنسا بشكل خاص، التي ما فتئت تحذر من “الاستعمار الصيني الجديد”، فبيجين -حسب التصور الغربي- تضع يدها على مقدرات إفريقيا وموادها الأولية. ويبدو أن الدور الآن صار لروسيا التي يظهر أنها فعلًا حطَّت رحالها بالقارة السمراء، خصوصًا في المجال المحسوب استراتيجيًّا على فرنسا.
في يوم 30 مارس/آذار 2016، تم تنصيب رئيس إفريقيا الوسطى الحالي، فوستين تواديرا، بعد نجاحه في الدور الثاني بنسبة 62.7% في انتخابات رئاسية حامية الوطيس. وكان من بين حضور حفل التنصيب وزير الخارجية الفرنسي الحالي، لودريان، الذي كان يومها وزير دفاع بلاده. وقد أعلن لودريان في مراسم خاصة، تزامنت مع حفل التنصيب المذكور، انتهاء العمليات العسكرية الفرنسية “سانغاريس” في جمهورية إفريقيا الوسطى التي أُطلقت في ديسمبر/كانون الأول 2013 لدعم القوة الأممية إثر مواجهات دامية بين ميليشيات مسيحية ومسلمة في البلاد. ويبدو أن الرئيس المنتخب، تواديرا، لم يكن على علم بالقرار الفرنسي المفاجئ، وقد رأى في سحب فرنسا قواتها من بلاده إمكانية ظهور خطر أمني وشيك، خصوصًا أن شبح الجماعات المسلحة المعارضة يهدد البلاد في كل وقت، بل إنها تحتل مساحات واسعة، وهذا ما يعني أن نظامه مهدد بالإطاحة به في أي وقت.
لم يمهل الرئيس تواديرا الفرنسيين طويلًا، بل توجه إلى باريس، في 24 أبريل/نيسان 2016، طالبًا من الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، الإبقاء على قوات “سانغاريس” الفرنسية في بلاده، ولكنه لم يجد لديه سوى وعد بتأطير الجيش الفرنسي لقوات إفريقيا الوسطى. وفي 13 مايو/أيار 2016، أعلنت باريس أن عملية “سانغاريس” انتهت مبرِّرةً ذلك بانشغال الجيش الفرنسي في عمليات عسكرية وأمنية أخرى، أبرزها انخراطه في منطقة الساحل والصحراء.
وفي محاولة أخيرة، قام رئيس إفريقيا الوسطى، في 21 مارس/آذار 2017، بالتوجه إلى باريس طالبًا تجهيزات ومعدات عسكرية لجيشه المهدد من لدن الجماعات المسلحة المرابطة حول العاصمة، بانغي. وفي تلك الفترة بالذات، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتداول صورًا لعناصر من جيش إفريقيا الوسطى وبأيديهم عِصِي وسياطٌ لم يجدوا غيرها عدة وعتادًا؛ فوعد الفرنسيون الرئيس تواديرا بتزويده بألف وخمسمئة بندقية كجزء من تسليح جيشه المحتاج للوسائل.
ولم يكد الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، يتسلم السلطة حتى كان الرئيس، تواديرا، أول الواصلين إلى باريس، في سبتمبر/أيلول 2017، وبعد إلحاح تواديرا على الرئيس الفرنسي بضرورة وفاء بلاده بوعدها وتسليم إفريقيا الوسطى البنادق الموعودة، كانت إجابة ماكرون أن السلاح جاهز للتسليم، لكنه ينتظر موافقة مجلس الأمن. وبما أن روسيا أعربت أكثر من مرة عن تحفظها على تسليم إفريقيا الوسطى تلك التجهيزات العسكرية، ولوَّحت باستعمال حق النقض، فإن فرنسا لا تستطيع تسليم ما وعدت به.
من هنا، بدأ التواصل بين بانغي وموسكو، وقد مَرَّ بمراحل كان من أبرزها حضور الرئيس تواديرا القمة الروسية-الإفريقية التي عُقدت في سوتشي، بتاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019. وخلال تلك القمة، طلب الرئيس، تواديرا، من وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، رفع الحظر على مستوى مجلس الأمن عن تسليح بلاده. وقد أوضح لافروف لضيفه الإفريقي أن روسيا ليست لها مصلحة في منع إفريقيا الوسطى من التسلح، إلا أن السلاح الذي تنوي فرنسا تسليمه لبانغي عبارة عن سلاح استولت عليه باريس في بعض معاركها ضد الجهاديين، وأنه في الأصل كان عند حركة الشباب المجاهدين الصومالية. وبما أن القانون الدولي ينص على أن سلاحًا من هذا النوع، كان قد استُعمل في إزهاق أرواح، ينبغي تحطيمه في مكانه، وتُمنع إعادة استعماله مرة أخرى. وعلى هذا الأساس، حسب لافروف، فإن تحفظ روسيا بخصوص هذا السلاح بالذات، يستند إلى تطبيق القانون الدولي، وليس موقفًا موجهًا ضد إفريقيا الوسطى.
وحرصًا من روسيا على إظهار حسن نيتها، فقد وعدت ضيفها الإفريقي بتزويد بلاده بضعف ما كانت فرنسا وعدت به، وأن بانغي ستحصل على ثلاثة آلاف قطعة من موسكو. ومن المفارقات أن روسيا، حين أرادت من مجلس الأمن أن يمرِّر قرارًا يسمح لها بتزويد إفريقيا الوسطى بثلاثة آلاف قطعة سلاح، أعلنت فرنسا تحفظها ولوَّحت باستعمال حق النقض، وأخذت باريس مكان موسكو في مجلس الأمن وصارت هي من يمنع تسليح بانغي. وقد استطاعت موسكو في النهاية تمرير القرار وبدأت في تسليح جيش إفريقيا الوسطى، وابتعاث المئات من مسلحي فاغنر إلى هذا البلد الإفريقي.
لكن الملاحظ أنه ما إن وطئت أقدام مسلحي فاغنر إفريقيا الوسطى حتى جرى إبعاد خطر الجماعات المسلحة، ووقع استرداد أغلب الأراضي التي كانت تستحوذ عليها تلك الجماعات، وصارت بيد الجيش الوطني المدعوم بقوة من طرف قوات فاغنر الروسية. ويبدو أن ما عجزت عنه قوات “سانغاريس” الفرنسية في ثمانية أعوام أنجزته قوات فاغنر وجيش إفريقيا الوسطى في عامين. لقد أثبتت قوات فاغنر فاعليتها ونجاحها في الوقت الذي كانت مردودية عمليات الجيش الفرنسي ضئيلة جدًّا. ولا شك أن وجود فاغنر في إفريقيا الوسطى لم يخل، حسب المراقبين، من انتهاكات جسيمة للناس وترويع في بعض الأحيان للساكنة.
ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت صورة تواديرا في الإعلام الفرنسي صورة الشخص الذي سلَّم دولته لقوات فاغنر، وفتح خزائن بلاده لروسيا. ومع أن تتبع مسار علاقات تواديرا بروسيا يُظهر أن فرنسا هي من دفعه في هذا الاتجاه، فالفرنسيون هم الذين سحبوا قوات “سانغاريس”، وهم الذين ماطلوا في تسليح جيش إفريقيا الوسطى؛ ما دفع بانغي للبحث عن حليف جديد.
هل ستكون جمهورية مالي وجهة فاغنر القادمة؟
انخرطت فرنسا عسكريًّا في مكافحة الإرهاب في مالي وبدأت بعملية “سيرفال”، في يناير/كانون الثاني 2013، ثم عملية “برخان”، في أغسطس/آب 2014، إلا أنها وبعد فشل كل تلك العمليات تواجه احتمال وصول مجموعة فاغنر إلى مالي لتدريب القوات المسلحة المحلية. ومن الجلي التشابه بين إنهاء عملية “سانغاريس” بإفريقيا الوسطى واستقدام قوات فاغنر، سنة 2019، وإنهاء عملية “برخان” بمالي والإعلان عن إمكانية وصول مسلحي فاغنر إلى مالي. فالفرنسيون لم ينجحوا في مواجهة خطر الجماعات المسلحة في إفريقيا الوسطى فانتهى بهم الأمر إلى الانسحاب، وحلَّت محلهم قوات فاغنر التي نجحت في إزالة خطر تلك المجموعات. وهاهم ينسحبون مجددًا من مالي بعد فشلهم في التغلب على الجهاديين منذ 2014، فدفعت روسيا بمسلحي فاغنر مرة أخرى لتحل محل الفرنسيين.
الواقع أن روسيا وجدت لها موطئ قدم في العديد من الدول الإفريقية ومن أبرزها إفريقيا الوسطى، وربما تكون مالي محطتها القادمة، ومن الواضح أن المقاربة الروسية في التعامل مع إفريقيا والقائمة أساسًا على تطوير العلاقات الاقتصادية وتشجيع حركة المال والأعمال فضلًا عن الدعم العسكري والأمني أكثر نجاعة فيما يبدو من المقاربة الفرنسية.
وأيًّا كانت تصريحات موسكو بخصوص علاقتها بفاغنر، فإن تلك القوات ليست في النهاية سوى الواجهة العسكرية لتأمين وتسهيل ولوج روسيا إلى القارة الإفريقية. ولا شك أن كون روسيا ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا، بل إن روابطها مع البلدان الإفريقية والحركات المناهضة للاستعمار طويلة وإيجابية بشكل عام، فإن ذلك قد يسهِّل تغلغلها في القارة السمراء.
.
رابط المصدر: