عادل رفيق
نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية في 23 أغسطس 2021 مقالاً لروبرت د. كابلان، رئيس وحدة “روبرت شتراوس هوبي” المتخصصة في الجغرافيا السياسية بمعهد أبحاث السياسة الخارجية بالولايات المتحدة، يتناول فيه الأسباب وراء قدرة أمريكا على التعافي من إخفاقات مثل أفغانستان والعراق، أكد فيه أن جغرافيا الولايات المتحدة الملائمة تمنحها العديد من المزايا على منافسيها، بما في ذلك إمكانية ارتكاب أخطاء فادحة ثم القدرة على التعافي منها تماماً. وقد جاء المقال على النحو التالي:
لقد كانت تلك الصورة في صميم أعماقي: صورة قدامى المحاربين الرائعين في الحرب الإسبانية الأمريكية من عام 1898 وهم يسيرون على بعد أمتار قليلة مني في موكب لإحياء ذكرى اليوم الوطني بإيسترن باركواي في بروكلين في عام 1958. إنها واحدة من أقدم ذكريات طفولتي وأكثرها حيوية. لقد كانت الحرب الإسبانية الأمريكية، التي بدأت في كوبا وأدت إلى احتلال أمريكي دموي وطويل الأمد للفلبين، بمثابة إعلان لبزوغ شمس الولايات المتحدة كقوة عالمية.
كان أساس تلك القوة للولايات المتحدة في الأصل جغرافياً بشكل صارخ. فقد وصف هانز مورغنثاو، الأب المؤسس لـ “الواقعية” في العلاقات الدولية، الجغرافيا بأنها المكوّن الأكثر استقراراً للقوة الوطنية. فأمريكا قارة شاسعة وغنية مرتبطة بشكل كثيف بالأنهار الصالحة للملاحة، ولديها اقتصاد واسع النطاق، ويمكن الوصول إليها من خلال خطوط الاتصال البحرية الرئيسية، ولكنها في نفس الوقت محمية بالمحيطات من اضطرابات العالم القديم.
وتلك الجغرافيا لا تزال مهمة، على الرغم من حقيقة أن التكنولوجيا قلّصت نطاق الكرة الأرضية. وفي ظل ابتلاء العالم بأشد الأمراض فتكاً – كالإرهاب، والأوبئة الفيروسية، وبرامج الفدية – إلا أن أمريكا، على عكس الصين، تتمتع في ذات الوقت بالاكتفاء الذاتي في الهيدروكربونات، ولديها موارد مائية وفيرة، ولا يوجد لها جيران أقوياء يعادونها. أما الحدود الجنوبية، التي يبكي عليها المحافظون الأمريكيون، فهي تضم المهاجرين الفقراء فقط، وليس جنود لجيشين يواجه بعضهم البعض، كما هو الحال على الحدود الجنوبية للصين مع الهند.
وتساعد هذه الجغرافيا في تفسير أسباب سوء تقدير أمريكا وفشلها في الحروب المتعاقبة، ومع ذلك فإنها سرعان ما تتعافى تماماً، على عكس الدول الأصغر والأقل أهمية من حيث الموقع، والتي يكون لديها هامش ضئيل لإمكانية الخطأ. وبالتالي، فإن الحديث عن التراجع الأمريكي أمر مبالغ فيها. لقد ورَّثت الجغرافيا الولايات المتحدة مثل هذه القوة والحماية؛ وفي ظل عالم قد أصبح يتضاءل بشكل متزايد، فإنه لا يمكن لهذه البلاد إلا أن تظل في وضع شبيه بالإمبراطورية، مع التزامات اقتصادية وعسكرية بعيدة المدى حول العالم.
نعم، قد تنسحب أمريكا من التدخلات البرية الفاشلة في الشرق الأوسط، لكن قواتها البحرية والجوية لا تزال تحرس مساحات كبيرة من هذا الكوكب باعتبارها حصناً لأنظمة التحالف في أوروبا وآسيا. وهذا مستمر بغض النظر عن إخفاقاتها في العراق وأفغانستان. ورغم أن مشاهد الفوضى في مطار كابول مع انسحاب أمريكا مثيرة للقلق، إلا أنها من الناحية الإستراتيجية مشاهد صورية أكثر من كونها جوهرية. ولنتذكر أنه بعد سقوط سايجون عام 1975، واصلت الولايات المتحدة مسيرتها وانتصرت في الحرب الباردة.
وحتى هوس النخب الأمريكية بحقوق الإنسان له أساس جغرافي كذلك، لأن الحماية التي توفرها المحيطات للبلاد جعلتهم يُشكّكون في السياسة الواقعية القاسية التي تلجأ إليها الدول ذات الحدود البرية غير الآمنة. ولكن لا تزال الولايات المتحدة قادرة على الوقوف بمعزل عن الآخرين وإصدار الأحكام الأخلاقية وفقاً لذلك.
ولا تزال الميزة الجغرافية الكبيرة لأمريكا تمنحها ميزة إضافية ضد خصوم القوى العظمى. وهذا صحيح أيضاًعلى الرغم من التهديدات الداخلية، من تحديات تمس التماسك الاجتماعي للولايات المتحدة بما في ذلك التكنولوجيا الجديدة وعدم المساواة في الثروة التي لا تستطيع الجغرافيا الدفاع عنها بالكامل (والتي تعكر صفو الدول الأخرى أيضاً، لا سيما الصين وروسيا، اللتان تتنافسان على وضع “القوة العظمى”).
لقد أشعلت العولمة الانقسامات الداخلية، حيث انجرف الأمريكيون الأكثر ثراءً إلى داخل طبقة عالمية، بينما تركوا وراءهم جماهير غفيرة من الأمريكيين الأكثر فقراً. وعلى عكس الصحف الكبرى في عصرها، تكافئ وسائل التواصل الاجتماعي المتطرفين وتستقطبهم، بما لذلك من آثار سامة على المشاعر العامة والأحزاب السياسية. ولذلك، فإن التحديات الداخلية هي التي تهدد القوة الأمريكية الآن.
وقد تفاقمت المشكلة بسبب الحقائق التي يذكرها التاريخ. حيث كتب إرنست رينان، الفيلسوف السياسي الفرنسي من القرن التاسع عشر، “أن ينسى المرء و … أن يخطئ في تاريخه هما عاملان أساسيان في تكوين الأمة. وبالتالي فإن تقدم الدراسات التاريخية غالباً ما يكون خطراً على الوطنية”. ولكن في الواقع، كان التفسير الأسطوري للماضي، بالنسبة للأمريكيين، عنصرا أساسيا في الانتصارات التي حققتها الولايات المتحدة في حربين عالميتين بالإضافة للحرب الباردة.
لكن قيام الدراسات التاريخية اليوم بكشف الكثير مما يجب أن تخجل منه أمريكا، يُجبر الجبهة الداخلية على إعادة اكتشاف الوطنية من جديد على أسس مختلفة، حيث لا يزال غزو القارة الأمريكية يُعتبر بين الشعب أمراً مقبولاً، حتى على الرغم من أن بعض الأساليب التي استخدمت في ذلك الغزو قد تملأ الأمريكيين بمشاعر الندم. لقد أصبحت تلك المسيرة التي كانت تحتفل بذكرى اليوم الوطني عام 1958، حيث كان كل الناس من حولي في مدينة نيويورك الليبرالية يهتفون لقدامى المحاربين في حرب إمبريالية صارخة وغير ضرورية، أمراً لا يمكنني تقريباً تصوره اليوم.
في الواقع، قد تساعد الجغرافيا الشاسعة للبلاد على تهدئة الاستقطاب الذي قد ينشأ نتيجة إعادة تفسير التاريخ الوطني للبلاد. وقد صمم مؤسسو أمريكا في القرن الثامن عشر على وجه التحديد نظاماً في قارة مترامية الأطراف قليلة السكان، حيث كان السفر من أحد الولايات الثلاث عشرة الأصلية إلى أخرى يستغرق أحياناً عدة أيام.
وكان مؤسسو الولايات المتحدة مدركين لهذا الأمر، عندما ابتكروا نظاماً من الضوابط والتوازنات بحيث لا تستبد العاصمة الجديدة واشنطن بتلك الولايات المتنوعة والمتباعدة، وبالتالي تسمح بالمرونة في الحكم. (حتى إن روبرت فروست كتب قصيدة، هي “الهِبة الكاملة”، قرأها في حفل تنصيب جون ف. كينيدي، حول الارتباط العاطفي بين المستوطنين الأوائل في أمريكا وأرضهم الجديدة: “كما كانت ، كما كانت ستصبح”).
امتازت هذه الجغرافيا أيضاً بتوافر الأراضي بأسعار معقولة، وهي التي شكّلت المصدر الأساسي لتفاؤل الشعب الأمريكي وعدم الود مع النخب والأرستقراطيين. إن الفكرة الكاملة للحدود، كما شرحها المؤرخ فريدريك جاكسون تورنر في عام 1893، كانت مبنية على قارة شاسعة بها أراضي كافية للجميع. وكانت المساواة التقريبية بين المواطنين متأصلة في المناظر الطبيعية الوفيرة وجيدة المياه في أمريكا.
وهذا، في الأساس، هو السبب في أن الأمريكيين يصرخون الآن من أجل استعادة الطبقة الوسطى ويطالبون السياسيين باتخاذ إجراءات حيال ذلك. إنهم يريدون تخفيف حدة الفروق الاقتصادية الصارخة في البلاد. وهذا، بدوره، قد يساعد في التخفيف من حدة سياساتها السياسية والعرقية – ويمنع الانجراف نحو نظام بلوتوقراطي يتركز في عدد قليل من الأماكن.
ومع الوضع في الاعتبار أن القوة نسبية، فإن التوترات الداخلية في أمريكا علنية، في حين أن التوترات الصينية وروسيا أكثر غموضاً، والمناطق الجغرافية عندهم أقل حظاً مما هو الحال في أمريكا. ولدى الصين مناطق حدودية صعبة، وهي تلجأ إلى القمع الشديد لإدارة الأقليات العرقية والدينية. أما روسيا فهي قوة برية غير آمنة في ظل قلة الحدود الطبيعية، وبالتالي فقد كانت عرضة للغزو عبر التاريخ: وهذا هو السبب العميق غير المعلن للعدوانية التي تنتهجها روسيا.
وبالإضافة إلى ذلك، فالصين وروسيا تعتمدان بشكل كبير على زعيم أوحد في قمة السلطة، كما أن الأنظمة الاستبدادية التي تتسم بعدم المرونة تخفي داخلها الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية العميقة على امتداد الظروف الطبيعية القارية الهائلة الخاصة بها. وبالتالي، فبينما نركز بشكل أكبر مما ينبغي على نقاط القوة لدى القوى العظمى الثلاث، إلا أن لكل منهم نقاط ضعفه الخاصة به، مما قد يخلق عالماً أكثر فوضوية.
لطالما كان التأثير المنظّم للقوى العظمى والإمبراطوريات هو الذي تنتج عنه فوضى محدودة. وقد يبرز هنا سؤال: أي من تلك القوى العظمى ستضعف بوتيرة أسرع من الأخريات؟ إن إتقان القدرة على التحول قد يقرر صراع القوى العظمى. فمن منهم ياترى يتمتع بالمرونة الكافية في بنيته السياسية؟ لقد أظهرت الديمقراطية الأمريكية، على الرغم من إشكالياتها، أن لها نزعة تاريخية في القدرة على التكيف وإعادة إنتاج نفسها أكثر من الأنظمة الكبيرة الأخرى.
ومن المؤكد أن مساحة اليابسة الأمريكية الممتدة التي حبتها الطبيعة بالكثير من المميزات تساعد في خلق بيئة مرنة تضيف إلى عناصر الحماية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فلا تزال البلاد بحاجة إلى حلفاء وإلى عناصر ردع ذات مصداقية في عالم أصغر خانق تهدد فيه روسيا أوكرانيا، وتهدد فيه الصين تايوان. لا يُمكن أن تحل الميزة الجغرافية جميع المشكلات، ولكنها، على حد تعبير مورغنثاو، عنصر حاسم في القوة من بين عناصر أخرى. ومع ذلك، فإن أكثر المناطق الجغرافية حظاً على الإطلاق (الولايات المتحدة) ما زالت تقدم لنا دروساً مُفعمة بالأمل.
.
رابط المصدر: