في الساعات الأربع والعشرين الأولى بعد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن تنحيه عن التنافس الانتخابي الرئاسي ومنحه دعمه لنائبته كامالا هاريس كبديل محتمل له، جمعت هذه الأخيرة نحو 81 مليون دولار كتبرعات للحملة الانتخابية التي ورثتها فجأة.
في جانب منه، يمثل النجاح في جمع هذا المبلغ الكبير على هذا النحو السريع حماسة الديمقراطيين المتصاعدة للالتفاف حول مرشح رئاسي غير خلافي، له فرصة حقيقية في الفوز بالبيت الأبيض، بخلاف ما آل إليه وضع بايدن في الآونة الأخيرة. ويرتبط الجانب الآخر، وربما الأهم، بجهود هاريس نفسها لحشد الدعم المالي والسياسي لحملتها الانتخابية. فحسب مصادر مطلعة، أمضت معظم يوم الأحد بعد إعلان بايدن تنحيه في إجراء اتصالات كثيرة مع ساسة ومانحين.
كانت هاريس مستعدة مسبقا للقيام بهذه الاتصالات والحصول على الدعم، لأنها كانت على تواصل هاتفي دائم مع الرئيس بايدن في الساعات التي سبقت إعلانه سحب ترشحه في ما يبدو تنسيقا بين الاثنين لضمان انسحاب الرجل من السباق واستمرار تركته الرئاسية.
استثمار بايدن في هاريس واضح ومنطقي، كما ظهر في الإعلان الذي ختمه بدعمه لنائبته بأن تكون مرشحة الحزب، ليقلل بذلك كثيرا من حظوظ أي مرشح ديمقراطي آخر يخوض التنافس الحزبي ضدها.
فوجودها على رأس “البطاقة” الانتخابية الرئاسية يعني استمرار نهجه السياسي عبرها في رئاسة مقبلة محتملة بضمنها التأكيد على أن أفكاره هي التي ستهزم ترمب حتى وإن غاب هو جسديا عن التنافس الرئاسي. ثمة عزاء حقيقي لبايدن وعائلته ومؤيديه الأقرب والأشد إخلاصا له في هذا الأمر. إنه سؤال الإرث الرئاسي الذي كان يقلق بايدن بحسب مصادر مختلفة: البصمة السياسية التي تتجاوز عمر الرئاسة نفسها، ففي الفهم السياسي الأميركي، يُعتبر عموما الرؤساء الذين حكموا لفترة رئاسية واحدة، عابرين، أقرب منهم للفشل من أي شيء آخر، بعكس الرؤساء من ذوي الفترتين الرئاسيتين الذين تجدد تفويضهم الشعبي انتخابيا، بوصفهم ناجحين وذوي إرث سياسي أبعد من سني إقامتهم في البيت الأبيض.
أ.ف.ب
نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس تصفق بعد أن أثنى عليها الرئيس جو بايدن خلال خطاب حالة الاتحاد مع رئيس مجلس النواب مايك جونسون في واشنطن
هنا يبدو التصويت الديمقراطي لهاريس تصويتا لبايدن نفسه، واستمرارا لخطه السياسي وإجماع الحزب عليه. لذلك تجتهد هاريس، على الأكثر بدعم قوى من وراء الكواليس من بايدن، للحصول على دعم كبار الديمقراطيين، وحصادها من هذا الدعم يبدو كبيرا ويتصاعد باضطراد سريع: نانسي بيلوسي، بيل وهيلاري كلينتون، بالإضافة إلى عدد كبير من المشرعين الديمقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب وحكام الولايات، فضلا عن مؤسسات معتبرة، حقوقية ونقابية، معروفة بميولها الديمقراطية. يساعدها هذا الدعم كثيرا في الفوز بأكثر ما يمكن من أصوات المندوبين الانتخابيين إلى مؤتمر الحزب الديمقراطي البالغ عددهم 3949 مندوبا يمثلون الناخبين العاديين الذين انتخبوهم، على مدى أشهر، في كل الولايات والأراضي التابعة للولايات المتحدة. تحتاج هاريس أن تفوز بـ 1976 مندوبا لتضمن الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي. ورغم إعلان نحو نصف العدد المطلوب من المندوبين دعمهم لها، فلا بد من تحديد آلية انتخاب واضحة، لحسم الأمر، بعيدا عن إعلانات الدعم التي لا قيمة قانونية لها.
يبدو التصويت الديمقراطي لهاريس تصويتا لبايدن نفسه، واستمرارا لخطه السياسي وإجماع الحزب عليه
يواجه الحزب بهذا الصدد تحديا تنظيميا عليه أن يحله سريعا في ضوء هذه السابقة الجديدة، فلم يسبق أن تخلى مرشح رئاسي بعد فوزه بالانتخابات التمهيدية لحزبه عن ترشحه قبل أن يعلنه الحزب مرشحا رسميا في المؤتمر الوطني العام. يحتاج الحزب إلى أن يغير نظامه الداخلي كي يستوعب هذه الحالة غير المسبوقة، ويعلن قواعد التنافس والانتخاب الجديدة التي فيها ما يكفي من رصانة وشفافية وتنافسية بحيث لا يحصل اعتراض داخلي على نتيجة الانتخاب أو آليته أو تتعرض لتحد أمام المحاكم في موسم انتخابي ساخن ومُقلق.
مصداقية هذه العملية مهمة لتشكيل تضامن حزبي قوي وراء المرشح الفائز، أيا يكن، هاريس أو غيرها. لحد الآن لم تعلن الجهة المسؤولة عن وضع هذه القواعد، اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، التي يقترب عدد أعضائها من 500 شخص من كل الولايات، ماهية هذه القواعد وكيفية تطبيقها، إذ بحسب رئيس اللجنة جيمي هاريسون، سيستغرق الأمر من اللجنة بضعة أيام لضمان أن “مندوبينا مهيئون كي يتولوا على نحو جدي مسؤوليتهم” باختيار المرشح الديمقراطي”.
رويترز
صورة أرشيفية لنائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس
وما إن يُحسم موضوع المرشح الانتخابي الديمقراطي، وحظوظ هاريس عالية في هذا الصدد في ظل غياب منافس ديمقراطي قوي لها، ستظهر الفوائد الأخرى والأهم للماكينة الانتخابية والسياسية الضخمة التي يتركها بايدن لهاريس، وهي الماكينة المتنوعة بقدراتها والمتماسكة بأدائها التي قضى بايدن نحو خمسين عاما في واشنطن لتشكيلها والاستفادة منها.
تسد هذه الماكينة ضعفا كبيرا لدى هاريس، الحديثة القدوم نسبيا إلى واشنطن في 2020، والقليلة الخبرة فيها، إذ كان يعوزها فريق سياسي خبير بالعاصمة وطرق التأثير وصناعة السياسة فيها. في الحقيقة، هي عانت خلال سنواتها فيها من الاستقالات في فريقها السياسي والإداري المحدود القادم من ولايتها كاليفورنيا، وهو الأمر الذي كان يضغط عليها نفسيا في بداية انتقالها إلى واشنطن، كما أشارت مصادر عديدة. لكن الآن، مع الزخم المتصاعد الذي يتمتع به ترشيحها، ووجود فريق سياسي وانتخابي قوى يدعمها، يبدو طريقها سالكا نحو نيل الترشيح الحزبي المطلوب.
يحتاج الحزب إلى أن يغير نظامه الداخلي كي يستوعب هذه الحالة غير المسبوقة، ويعلن قواعد التنافس والانتخاب الجديدة التي فيها ما يكفي من رصانة وشفافية وتنافسية
ثمة فائدة كبرى حصلت عليها هاريس تلقائيا، دون أن تصنعها، وهي أن خصمها هو دونالد ترمب، الخصم الجمهوري الشرس والعنيد، الحائز على كراهية عالية في صفوف الحزب الديمقراطي، جمهورا وزعامات، وتحولت هزيمته في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل إلى تحد وجودي وتعريفي لهم. يتحرق هؤلاء لوضع خلافاتهم بخصوص استمرار ترشيح بايدن وراء ظهورهم والاتحاد في معركة انتخابية يعتبرها الكثيرون “مواجهة العمر”.
كان هذا الإحساس الطاغي ديمقراطيا واضحا في رسالة تنحي بايدن التي ختمها بالقول: “حان الوقت كي نتحد معا ونهزم ترمب. لنفعلها”. وستختبر الأشهر المقبلة القليلة بشدة قدرة هاريس على تحقيق هذه الرغبة الديمقراطية..
المصدر : https://www.majalla.com/node/321586/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%83%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%84%D8%A7-%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%AF%D9%86-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8