عرض ومناقشة: جهاد سعد
1. تعريف الكتاب
الكتاب الذي نقدّمه ونناقشه في هذا العدد، يتميّز بأنّه أصلًا مقاربةٌ نقديّةٌ للتلاعب الإعلامي البريطاني بصورة الإسلام والعرب والمسلمين خصوصًا، تحت تأثير الصّور النّمطيّة الجاهزة التي تشكّلت بفعل النّشاط الاستشراقي، الذي حرص على أن يرسم بخطابه العام حدودًا فاصلة وانطباعاتٍ سلبيّةً عن «الآخر» المسلم. يعني ما هو جديد فيه هو إبرازه لحضور الخطاب الاستشراقي في الإعلام المعاصر، فهو لا يتكلّم عن الاستشراق كتاريخ، بل كمعرفة فاعلة تساهم إلى يومنا هذا في تحديد لغة الإعلام الغربي وأجنداته.
الكتاب أطروحة دكتوراه قدّمت لجامعة ويست منستر سنة 2005، وصدر سنة 2008 عن (Ithaca Press) في 244 صفحة، ولكن ما هو متوفّر بين أيدينا هو نصّ الأطروحة المقدّمة بالإنكليزيّة إلى الجامعة سنة 2005، المؤلّفة من ثلاثة أقسام وثمانية فصول، والتي سنعتمد عليها في ترجمة كتاب الزين الغمري وعرضه ومناقشته، الذي لم أجد له على المواقع تعريفًا شخصيًّا. وفي مطلق الأحوال فإنّنا سنناقش ما قيل لا من قال.
في الاستهلال يقدّم الكاتب خلاصةً مكثّفةً لأطروحته كالتالي: منذ الثورة الإسلاميّة في إيران 1979، ولغاية الانفجار الانتحاري في مترو لندن في 7 تموز 2005، تهيمن صورة الإسلام كعدوّ عقائديّ للغرب على مجمل المادة الإعلامية. يناقش الكتاب بأنّ الإعلام الغربي يُقدّم ديانة يعتنقها أكثر من مليار مؤمن بأحكام سلبيّة مسبقة ويحاول تعميمها. ويعود هذا التعميم والاختزال إلى الاستقطاب التّاريخي في علاقة الإسلام بالغرب. وترتكز هذه المحاججة على أنّ الإعلام الغربي عمومًا والصحافة بشكلٍ خاصٍّ تميل إلى تقرير صورة جزئيّة لأوضاع معقّدة، وتقدّم أفعال الحركات الإسلاميّة المتطرّفة كبناء نمطي للإسلام.
باستخدام تحليل الخطاب، يسعى البحث إلى تفكيك التقارير الإخباريّة المختارة، من أجل تسليط الضّوء على ما تمّ تغطيته بالفعل وكيف تمّ نشر الأخبار مؤطّرة، وكيف تمّ إنتاج المعرفة بالإسلام بشكل عام من خلال الخطاب، وأنّ هذه العمليّة كانت تسترشد بجهات نافذة وعلاقات قوّة معيّنة. (ص4)
وأخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا العرض سيهتمّ بما هو جديد ومعاصر في الكتاب؛ لتجنّب تكرار معلومات يعرفها المهتمّون بتاريخ الاستشراق عمومًا، فنحن بصدد معايشة عمليّة تحدث الآن، ولسنا بصدد إعادة صياغة لتاريخ الخطاب الاستشراقي، إلّا بمقدار ما يساعدنا على فهم الخطاب الإعلامي البريطاني أو الغربي اليوم.
2. رؤية الشرق من خلال الأحداث وتحديد الأجندا
هيمنت الأحداث السلبيّة على العالم العربي والإسلامي، فاصبحت نافذةَ العبور لتكوين رؤيٍة مجحفةٍ عن العرب والمسلمين من قبل وسائل الإعلام الغربية على اختلاف اتّجاهاتها، وبحسب نظريّة الانعكاس الشرطي لبافلوف، فقط تمّ ربط الشّرق بالأحداث السيّئة بالنسبة للمتلقّي الغربي: «تتدخل وسائل الإعلام في حياة كلّ شخص، وهي تعمل كمصدرٍ معقّد للمعلومات يربط جوانب عدّة من مجتمعنا. وقد شهد العقدان الماضيان أحداثًا لافتةً تتعلّق بالعالم العربي والإسلامي بشكل عام، وصعود الإسلام المتشدّد على وجه الخصوص. الإسلام والمسلمون والعرب والعالم العربي، عناوين قُدّمت بشكلٍ بارزٍ في وسائل الإعلام نتيجة سلسلة من الأحداث، بدءًا بقضيّة رشدي، وحرب الخليج الأولى عام 1991، وانتهاءً بقضيّة هجمات 11 سبتمبر والحرب اللّاحقة على أفغانستان والعراق». (ص7)
وليست تلك الوسائل مجرّد مرآةٍ تعكس الواقع كما هو، بل هي بالأحرى «مصفاة»، ومكنة معالجة للحدث تخرجه مشحونًا بجدول أعمالها وتوجّهه إلى حيث تريد أن يكون في مخيال المتلقّي. أسطورة الموضوعيّة والحياد تسقط هنا تمامًا خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالعرب والمسلمين: «فأهمّ دور تلعبه وسائل الإعلام في هذا الصدد هو تحديد الأجندا وتقديم التمثّلات. وتحصل هذه العمليّة بفضل قدرة وسائل الإعلام على إخبار النّاس بما هو الجدير بالاهتمام، يعني تحديد ما هو «مهم» من القضايا المطروحة. محور مفهوم «تحديد الأجندا «يرتكز على قوّة تأثير هذه الوسائل في تكوين الصّور للعامّة وتقديمها. وقد تمّ تقديم مفهوم تحديد الأجندا من قبل برنارد كوهين (1963)، الذّي جادل بأنّ «الصحافة قد لا تكون ناجحةً في كثير من الأوقات في إخبار النّاس كيف تفكّر، لكنّها ناجحة بشكل مذهلٍ في إخبار القرّاء بما يفكّرون «ويستفاد من مفهوم كوهين، أنّ الصّحافة ووسائل الإعلام لا تعكس الواقع، بل تصفّيه وتشكّله، فتركيز وسائل الإعلام على قضايا معيّنة يقود الجمهور إليها و إلى النّظر إليها على أنّها أكثر أهميّة من غيرها». (ص8)
3. دور الاستشراق
ما كان الأمر هكذا لولا جهود الحركة الاستشراقيّة، المتشابكة مع المصالح السياسيّة. وتلك النّظرة العنصريّة الاستعلائيّة، التي حوّلت العداء للشّرق والإسلام إلى معمل نشطٍ للمفاهيم والمصطلحات والصّور. والشعور بالعداء والاستعلاء؛ لأنّه «شعور» يتعرّض للفتور والضعف غالبًا، فقد سخّرت له مؤسّسات تعيد إنتاجه في كلّ مرحلة، وتزوّده بما يحتاجه من حوافز وأفكار ليشتعل في كلّ عصر، وبعد كل حدث بما يناسب جدول الأعمال الغربي: «أسّست الخطابات الاستشراقيّة لمجموعة من الثنائيات المتعارضة، التي تتناقض فيها وفرة الغرب مع ما هو متصوّر من أوجه القصور في الشّرق، وهي تعرّف الإسلام باستمرار بالسلب أو بمصطلحات متناقضة. كما أنّها تؤسّس ثنائيّة أساسيّة مفترضة مسبقًا بين الغرب والشرق، مما يعزّز الاختلاف الأساسي الملحوظ في الغرب مقابل بقية العالم». (ص17)
عمليّةٌ معقّدةٌ قادتها الدّوائر الاستشراقيّة لإضافة مزيدٍ من التعقيد على علاقة الغرب المسيحي بالشرق المسلم. عمليّة تبدأ باحتكار إنتاج مفهوم الشّرق والإسلام، وتسويقه بغزارة علميّة وإعلاميّة، بحيث طغت فترات التّوتّر والصّراع على فترات التّكامل والتّبادل والحوار وهي ليست قليلة. حتى في ذروة الكلام عن الغزو الإسلامي للأندلس كان الغربيون يدرسون في جامعاته الإسلاميّة، وفيما بعد عندما تحوّل الصّراع إلى العثمانيين دخلت الدولة العثمانية في أحلاف سياسيّةٍ، وأحيانًا عسكريّة، وأصبحت طرفًا في صراعات أوروبا. والحروب التي خاضها الغربيون بين بعضهم البعض كانت أشرس من أيّ حرب وقعت بين «دولة» إسلاميّة ودولة أو دول غربيّة. نفهم من ذلك أنّه حتى الحروب الطاحنة ليست كافية لإبقاء هذا التّوتّر قائمًا إذا لم يكن ذلك التّوتّر محلّ عناية وتربية من جهات محدّدة بعينها، من دون أن ننسى غزارة إنتاج المستشرقين الصهاينة الذين سمح لهم انتشارهم في كلّ دول أوروبا وأميركا الشمالية، في تقديم أنفسهم «كأساتذة» في فهم الشرق ومعرفته… يقول الكاتب: «مرّ تطوّر العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي بعدّة مراحل، وبدون شكّ كانت علاقة متوتّرة وصعبة، ولكنّها لم تأخذ دائمًا شكل الحروب الصليبية من جهة الغرب والجهاد من قبل الإسلام. فبالإضافة للتبادل التجاري كان هناك أيضًا تبادل الأفكار. ولكن رغم ذلك فإنّ مفهوم الشّرق الوثيق الصّلة بالإسلام قد تشكّل في ظلّ المقاربة الاستشراقيّة المهيمنة على الدّراسات الغربية للشرق عمومًا وللإسلام خصوصاً». (ص17)
4. الصحف المعتمدة في البحث
بغية نقل الصّورة الكاملة قدر الإمكان، حرص الكاتب على اختيار الصحف المشهورة التي تعبّر عن مختلف التيّارات السياسيّة في بريطانيا. «الغارديان» المحسوبة على اليسار، و «الإندبندنت» المعتبرة غير منحازة، و «التايمز» التي تعبّر عن خطّ اليمين.
بدأت صحيفة الإندبندنت النّشر في أكتوبر 1986. وهي الأحدث بين الصحف المختارة، وكانت قد حظيت بانتشار واسع سنة 1989 حين وصل توزيعها إلى 400 ألف نسخة، ولكنّها لم تحافظ على هذا المعدّل، وبلغ توزيعها 262588 من الإثتين إلى السبت سنة 2004. الصحيفة متّهمة من قبل اللّوبي الصهيوني بالانحياز للعرب، ومن أشهر كتّابها روبرت فيسك الذي يغطّي أحداث الشّرق الأوسط، وتصفه الصحافة البريطانية بأنّه مثير للجدل.
بين تاريخ الغارديان وحاضرها قصّة انعطافة تستحقّ التّأمّل..تأسّست الصحيفة سنة 1821 من قبل مجموعة من رجال الأعمال، وكان يطلق عليها في الأصل «المانشستر غارديان»، أصبحت صحيفة يوميّة في عام 1855. وكان محرّرها لمدّة 57 عامًا (1872-1929) تشارلز بريستويتش سكوت، الذي يعود له الفضل في شهرتها، وهو من عتاة الصهاينة والمحرّضين على وعد بلفور، ويتمتّع بعلاقةٍ متينةٍ مع حاييم وايزمن، وهو الذي قدّم هذا الأخير لرئيس وزراء بريطانيا ديفيد لويد جورج، الذي دامت ولايته من 1916 لغاية 1922. وفي عام 1917 كتب سكوت افتتاحيّة أعلن فيها: «أنّ اليهود لن يكونوا آمنين أبدًا بدون وطن قومي لهم في فلسطين»…. وتضمّنت الافتتاحيّة إشارة إلى حقوق الفلسطينيين، لكنّه وصفهم بأنّهم في «مرتبة متدنّية حضاريًّا». وتابع خلفه ويليام بيرسيفال كروزير هذا النّهج فحوّل الصحيفة بالكامل إلى منبر دعاية للحركة الصهيونية. وفي سنة 1959 تمّ إسقاط «مانشستر» من اسم الصحيفة، وأصبحت الغارديان، وانتقلت عام 1964 إلى لندن.
يستند الكاتب في سرد تاريخ الصحيفة إلى كتاب لصحفيّة صهيونيّة اسمها دافنا برعام تحت عنوان:
(Disenchantment: The Guardian and Israel (2004)، أي (خيبة أمل: الغارديان وإسرائيل). تشكو برعام من تغيّر موقف الصحيفة تجاه إسرائيل على أثر الأحداث التي مرّت على الشّرق الأوسط، من الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، إلى طريقة العيش المفروضة على الفلسطينيين، سواء في المنافي أو في غزّة والضفّة، وصولًا إلى حربي أفغانستان والعراق، وتقول إنّ الصحيفة اجتذبت مناهضي الحرب وأغلبهم من المسلمين والعرب، ولم تعد تشبه ذلك التّاريخ الصهيوني العريق. وقد أثارت الغارديان حفيظة المؤيّدين لإسرائيل في تغطيتها لمجزرة جنين حتى اتّهموها بلازمة العداء للسامية.
تأسّست «التايمز» في 1785 باسم The Daily Universal Register، بواسطة جون والتر، المحرّر الأوّل للصحيفة. وأصبحت باسمها الحالي في عام 1788. كانت في القرن التاسع عشر أوّل صحيفة بريطانيّة ترسل مراسلين خاصين إلى الخارج، لكن لم يكن لديها أيّ محطّة في العالم العربي أو الإسلامي. بدأ اهتمام الصحيفة بالمنطقة مع التغطية الرئيسية الأولى خلال الأحداث التي أدّت إلى نهاية الانتداب البريطاني في فلسطين في مايو 1948، وما تلاها من حرب العصابات. وخلال أزمة السويس سنة 1956 كانت التايمز من المحرّضين على الخيار العسكري، والداعمين لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك أنطوني إيدن. إلا أنّها اعترفت في وقت لاحق أنّ الخيار العسكري أدّى إلى مخاطر جسيمةٍ على البريطانيين.
في الواقع، اتّخذت التايمز مواقف مباشرة في أوضاع كانت الغارديان متردّدة فيها، على سبيل المثال، نشر قصّة عن هدم القرى الفلسطينية بعد أسابيع من حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967، كان كتبها مايكل آدامز من الغارديان، ولكن الأخيرة آثرت عدم إغضاب الدوائر الصهيونيّة. وبعد حرب 1973 رفضت الغارديان إعلانًا للجنة العدل وهي يهوديّة معادية للصهيونيّة، ونشرته التايمز. وتشاركت الصحيفتان في نقد الغزو الصهيوني للبنان سنة 1982، ونشرت التايمز تصريحًا مفاده أنّ سياسات إسرائيل جعلت من الصّعب أن تكون صديقًا لها. (ص19-21)
الخارطة الصحفيّة للولاءات السياسيّة التي يقدّمها الغمري معتمدًا على كتاب الصهيونيّة برعام، بالغة الأهميّة؛ لفهم الواقع السياسي في بريطانيا، وتصويب الرؤية في منطقتنا. فبسبب الاستقطاب الحاد أيام الحرب الباردة، كان «اليسار» في المنطقة العربيّة محسوبًا على القوى المعادية للولايات المتّحدة والغرب عمومًا، منحازًا إلى الاتّحاد السوفيتي أو الصين أو كوبا، وضدّ السياسات الرأسمالية. بالمقابل هناك اليمين العربي الرأسمالي أو «الرجعي» المتحالف علناً مع الغرب الرأسمالي… هذا في الشّرق العربي والإسلامي. ولكن الأمر مختلف تمامًا من ناحية التحيّزات السياسيّة لو نظرنا إلى اليسار واليمين في أميركا وأوروبا، فأغلب اليهود في أميركا يصوّتون للحزب الديمقراطي، وهو على يسار الحزب الجمهوري. ولليهود دورٌ أساسيٌّ وفاعلٌ في تأسيس اليسار الأوروبي والبريطاني، باعتبار مكانتهم التّاريخية في أوروبا التي وضعتهم ضدّ الكنيسة ومع المناهضين للملكيّة والأرستقراطية. شكّلت الحركة الصهيونيّة نقطة التقاء مصالح بين اليمين الذي يريد أن يوظّف اليهود في مشروعه الاستعماري، واليسار العلماني الذي يشكّل بؤرة العمل الصهيوني في الغرب، ولم يقلّ دور حزب العمّال البريطاني عن دور حزب المحافظين في رفد الحركة الصهيونية بالدعم والتأييد على طول فترة الصراع العربي- الصهيوني… وإذا استحضرنا المشهد البريطاني بالأمس القريب فإنّ شخصيّة مناهضة للممارسات الصهيونية في فلسطين كجريمي كوربن لم تتمكّن من الصّمود على رأس حزب العمّال، ليس فقط بسبب حزب المحافظين، بل أيضاً بسبب الحضور القوي لليهود الصهاينة في حزب العمال. تقلّص الخلاف مع الوقت بين اليسار واليمين الغربي، فأصبح كلّ من يطالب بتدخّل أفعل للدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية يسارياً، وكلّ من يعمل على تعزيز سلطة الشركات وما يُسمّى السّوق الحرّة يمينياً محافظًا. ولا ينعكس هذا الانقسام الداخلي أبداً على السياسة الخارجية، فالغرب الحاكم بمجمله ينحاز ضد العرب والمسلمين بغضّ النّظر عن الاختلافات الداخلية. هذه ثمرة مهمّة تؤكّد على ضرورة اعتماد العرب والمسلمين على أنفسهم، وعدم تعليق الآمال في إثبات وجودهم وتصويب صورتهم أو الدفاع عن مصالحهم على أي جهة أجنبية، وسيأتي في هذا الكتاب أنّ الكلّ بلا استثناء له مساهمته في تعزيز الصورة السلبية للإسلام والمسلمين.
5. الإسلام والغرب المسيحي خلفيّة تاريخية
في الفصل الأوّل من القسم الأوّل، يستند الكاتب إلى جملة من الاقتباسات من كتب المستشرقين، ليستعرض تاريخ التّوتّر بين الشّرق والغرب. بدءًا من: «القرنين السابع والثامن، تفكّكت وحدة البحر الأبيض المتوسط بغزو الجيوش الإسلامية لشمال إفريقيا وإسبانيا وصقلية وجنوب فرنسا، ممّا أدّى إلى توسّع أراضي الإسلام إلى ما وراء الحجاز والوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية. لم يكن الفتح عسكريًا فقط، فقد أحدث تحوّلاً في الأراضي المحتلّة على نطاق واسع، حين أصبح «قلب الإيمان المسيحي»، تحت السيطرة المباشرة للغزو الإسلامي، ما اعتبره سكّان أوروبا عدواناً من العرب والمسلمين. (حوراني 1991: ص7).
ما يسمّيه ألبرت حوراني «وحدة البحر الأبيض المتوسط» هو في الحقيقة هيمنة الروم البزنطيين عليه، وغزوهم المستمرّ لشمال أفريقيا وشرق المتوسط، المنطقة التي أصبحت في القرن السابع تحت الهيمنة الإسلامية. فمن وجهة نظر مشرقيّة يمكننا القول إنّ المسلمين تمكّنوا في القرنين السابع والثامن الميلادي من فكّ الحصار الذي كان مفروضًا عليهم، والتّوغّل شمالاً نحو شبه الجزيرة الأيبيرية… ساعدهم على ذلك دخول أهل الشواطئ الساحليّة في الإسلام، وهم ممّن أتقن صناعة السّفن وخوض البحار بخلاف أهل الجزيرة العربية الذين كانوا يميلون إلى التّوسّع برًّا. وهذا ما تؤكّده المصادر، ومنها بحث منشور على موقع «الحوار المتمدن» يختصر تلك المرحلة بالقول: كان البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية، وامتدّت سيطرة البيزنطيين عليه لفترة طويلة، وكان لهم أسطولهم البحري القوي وممتلكاتهم المترامية الأطراف التي تشمل جزءاً من أوروبا إضافة إلى سورية ومصر والمنطقة القريبة من الساحل في الشمال الأفريقي. لكن الفتوحات العربية الإسلامية أفلحت في الحد من هذه السيطرة وانتزعت من البيزنطيين كل شواطئ المتوسط الشرقية والجنوبية والغربية. ولم يبق لبيزنطة سوى الشواطئ الشمالية.
وقد حاول البيزنطيون استعادة ما فقدوه عن طريق الإغارة على الشواطئ العربيّة الإسلامية بأسطولهم القوي، الذي فرض حصارًا على الشواطئ العربية ومنعها بالتالي من القيام بأية مبادلات تجارية مع البلاد التي كانت تتعامل معها قبل الفتح الإسلامي. مما دفع العرب المسلمين نحو التوغّل أكثر باتّجاه الشّرق والتركيز على التجارة مع الشرق الأقصى .
يعدّ القرن الأوّل الهجري/ السابع الميلادي بداية مرحلة تحوّل كبرى في تاريخ العرب الاقتصادي والسياسي والحضاري، حيث خرج العرب من موطنهم الأصلي في شبه الجزيرة العربية حاملين راية الإسلام إلى جيرانهم من الأمم. وقد استطاع العرب بحماسهم لنشر الدين الجديد فتح أهم بقاع العالم القديم، الممتدّة من نهر الفرات شرقاً إلى نهر النيل غربًا بسرعة خاطفة. ثم أخذوا يستعدون لنشر الدين الإسلامي في مختلف أرجاء العالم.[1]
دام الوجود الإسلامي في الأراضي المسيحية، ثمانية قرون لغاية 1492، تاريخ طرد المسلمين من آخر معاقلهم في غرناطة. والذي كان تتويجًا لما سمّي حروب الاسترداد التي استهدفت إخراج المسلمين من إسبانيا …(لويس 1993: 137). وكان هناك نوع من الارتباط بين أوروبا والمسيحية في تلك المرحلة، ما أكّده البابا أوربان الثاني في خطاب حملته الصليبية أواخر القرن الحادي عشر في كليرمونت عندما قال: إنّ المسيحيّة الشّرقيّة والغربيّة قد وجدت هويّتها في أوروبا وفيينا. (تريفور روبر، 1978: ص 106). ص (28-30).
تفيدنا مصادر أخرى أنّ الظّروف السياسية في القرن الحادي عشر، كانت تحتّم على البابا والإمبراطور أن يصعّدا من حجم التحدّي الإسلامي، للحفاظ على الحماسة المسيحيّة والحدّ من التشرذم الأوروبي… فبحسب «المؤرخ الألماني أوتو فريزنغ نشأ في ايطاليا تنظيم سياسي واجتماعي جديد وتوقف المجتمع الإيطالي عن أن يكون مجتمعًا إقطاعيًّا من حيث طابعه. وقسّمت أرض البلاد بين المدن واعترف كلّ نبيل بسلطة مدينته التي بدأ يحكمها قناصل يتغيّرون كلّ عام للحد من شهوة السلطة. تحوّل القنصل فيما بعد إلى شخص منتخب «بودستا» أجنبي عن المدينة لضمان العدالة ينتخب بانتداب شعبي ويحكم بمشورة مجلسين لمدّة ستة أشهر ثم يستبدل كاي موظف… يضيف فريزنغ أنّ المدن كانت بدأت تهزأ بسلطة الامبراطور وتستقبل بعدوانية من يفرض عليها قبوله كأمير محترم». [2]
سياسة تضخيم الخطر الخارجي بحثاً عن تجميد التطوّر السياسي، وحشد الأنصار بالعنوان الديني بحيث تتحوّل المسيحيّة إلى ايديولوجيا السلطة المدافعة «عن الحقيقة»، يبدو أنّها كانت معتمدة بوعي من قبل آباء الكنيسة آنذاك. ويكملها تشويه صورة الإسلام وتنفير النّاس منه بآلة دعائيّة كانت تحتكر في ذلك الزمان المظلم من تاريخ أوروبا مصادر المعرفة.
هذه العلاقة المضطربة والمتضاربة عمّمت على سكان الأراضي المسيحية المحتلّة، صورة مشوّهة عن دين الإسلام ونبيّه محمد. لم يكن نجاح الفتوحات الإسلامية يعتبر دليلاً على الحقيقة، ولكن تحدياً للحقيقة. وفي مواجهة تحدّي القوّة الإسلاميّة في إسبانيا وصقليّة والجنوب، اتّسمت فرنسا بنقص المعرفة الحقيقيّة والكافية بالعدو الجديد، وانتشر الخوف والجهل، كما تمّ إنتاج الأساطير حول شخص الرسول والإسلام والمسلمين. ومن بعض تلك الأساطير، أنّ نبيّ الإسلام عبارة عن ساحر، أو حتى كاردينال يصارع الكنيسة الرومانية على البابوية، ويريد نقلها إلى الشرق. أمّا المسلمون فهم مجرّد كفّار ومشركين يعبدون الثالوث الزائف (وات، 1972: ص 73). ص(29-30)
قبل الدخول إلى عصر النّهضة يعقّب الكاتب: كانت هذه بعض الأفكار التي أنتجت الصّورة السائدة للإسلام، واستمرّت في التأثير على الوعي الغربي المسيحي لقرون عدّة بعد غزو إسبانيا وصقلية. وكان محور هذه الصورة هو الحجّة القائلة بأنّ الإسلام كان ديناً باطلاً وحركة عنف ابتدعت منذ البداية لتسهيل العدوان ونشر الانحطاط. ثمّ يقدّم هذه الملاحظة التي تستحقّ التوقّف عندها: كان الأوروبيون قد تعرّضوا للغزو من القبائل الجرمانية (الألمان) والسلاف والقراصنة المجريين، لكنّهم بشكل عام اعتبروا الغزو الإسلامي لإسبانيا وصقلية بربريًّا. (ص30)
من وجهة نظر دينيّة بحتة كانت معظم تلك القبائل وثنيّة متوحّشة، تتلذّذ بسلخ الجلود وقطع الرّؤوس وجمع الجماجم، ولكنّها من وجهة نظر «أوروبية» تنتمي إلى الجغرافية السياسية نفسها، ولا تملك مشروعًا دينيًّا عالميًّا متكاملًا يهدّد السّلطة البابوية، بعكس الإسلام الذي جاء من «الأطراف» يحمل «ديناً» آخر مع جاذبية الانتماء إليه، وقد بدأت السّلطة البابوية تعاني من تحوّلات تهدّد سيطرتها.
لذلك نرجّح أن تكون فكرة «المدينة المركز والأطراف» التي عرفها الفكر الإغريقي القديم قد تمّ إحياؤها لمواجهة «البرابرة» القادمين من خلف أسوار المدينة، ولم يقصر عصر النّهضة في تطوير هذه الفكرة واستخدامها للدفاع والتوسّع استعماريًّا فيما بعد.
6. عصر النهضة
في القرن الخامس عشر كان التّحدّي الإسلامي في إسبانيا قد انتهى، واستمرّت المواجهة مع الإمبراطورية العثمانيّة، ولكنّ تحوّلًا بدأ يطرأ على هويّة أوروبا فيما سمّي بعصر النّهضة، فشهدت القرون التالية ظهور الدول القوميّة العلمانيّة من دون أن تنسى الرابطة المسيحيّة. ينقل الكاتب عن المستشرقين أنّ أوروبا بدأت تستكشف العالم بعيدًا عن الأساطير، وأنّ: الدراسة المنهجيّة للإسلام في أوروبا الغربية بدأت في القرن السادس عشر. بحلول الوقت الذي أفسح فيه العالم المسيحي الطريق لأوروبا، غير المتماسكة وغير المعقولة، فقد أفسحت النّظرة المستنيرة للإسلام الطريق لهذا التقليد النّظامي الجديد، على الرغم من ذلك لم يكن الأخير خاليًا تمامًا من رؤية العصور الوسطى للإسلام. كان التوسّع في المعرفة بمثابة نهاية لما أصبح يعرف باسم العصور الوسطى وبداية عصر الحداثة. هذا العصر تميّز أيضًا ببداية توسّع عالميّ، عُرف باسم عصر الاستكشاف، والذي أدّى في النهاية للسيطرة الأوروبية على العالم (Hall & Gieben، 1992: p.282). أحد أهمّ جوانب التّوسّع الأوروبي في المعرفة، يتكوّن من التّقدّم المحرز في الفنّ والتعلّم والعلوم والمنح الدراسية، والمعروفة مجتمعة باسم عصر النهضة. (ص35)
أوروبا المختلفة التي نشأت من الإصلاح وعصر النهضة والإمبريالية، ابتكرت تقاليد وأفكار مكثّفة و تعرّضت لتحوّلات كبيرة، لكن رغم ذلك بقيت صورة الإسلام في العصور الوسطى مهيمنة ولم تفقد تأثيرها على الوعي والفكر المسيحي الغربي، (ص40). ومن جهة العالم الإسلامي ظهرت بالمقابل حركات سياسيّة شيعيّة وسنيّة، اعتبرت الاستعمار شكلًا آخر من الحروب الصليبية. (ص38)
تشرح الفقرات الباقية من هذا الفصل كيف أسّس الاستشراق لنظرة استعلائيّة للشّرق، وكيف ظهرت دراسات جديدة تحاول تقديم الإسلام على طريقتها كدين عنف ومجتمع تقليديّ يفتقر لمقوّمات التنوير، والواقع أنّ ما كان دفاعًا عن المسيحية أصبح دفاعًا عن الهيمنة الاستعمارية فلم تؤثّر منهجيّات المقاربة الحديثة على أصل استهداف الإسلام.
7. الإسلام والأصوليّة الإسلاميّة في الخطاب الغربي
اتّسع استخدام مصطلح الأصوليّة الإسلاميّة من قبل الباحثين والنّخب في الدوائر الغربيّة في العقود الحالية، وامتدّ إلى وسائل الإعلام بسبب سلسلة من الأحداث التي نظر إليها البعض على أنّها محاولة إحياء إسلاميّة. ورآها آخرون انبعاثًا إسلاميًّا. هذه الظاهرة يتمّ الإعلان عنها تحت شعار «التّشدّد الإسلامي» وفي أحيان أخرى «الإسلام السياسي»، بل وحتى «التطرف الإسلامي». وهذا ما لم نجده حتى في الخطاب الاستشراقي التقليدي الذي لم يستخدم تعبير الأصوليّة إلّا نادرًا في مناقشة العقيدة الإسلامية. بينما عمد المستشرقون المعاصرون إلى وسم الإسلام السياسي «بالأصولية الإسلامية». الأصوليّة الدينيّة -على أية حال- ليست مقتصرة على الإسلام، بل هي ظاهرة تشمل جميع الأديان: فهي موجودة في المسيحية، واليهودية، والهندوسية، بهذا المعنى فإنّ الأصوليّة الإسلاميّة تشترك مع غيرها من الأصوليات بسمات مشتركة في عالمنا المعاصر.(ص70)
في تفسير أسباب انبعاث الأصوليّة الإسلاميّة يعود الخطاب الغربي إلى ثلاثة مستويات رئيسية:
الأوّل: يتجاهل الأسباب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ويركز على تناقض جوهري بين الإسلام والحداثة، وهذا الاتّجاه يعتبر استمرارًا للتقاليد الاستشراقيّة القديمة، وهو نتاج «الاستشراق-الجديد»، و«المستشرقين-الجدد.». هذا الخطاب يؤكّد على استمراريّة المواجهة القديمة بين الحضارتين، ويعتبر أنّها اليوم متصاعدة بحيث أصبح الخصم الغربي عدوًا للّه. وبالتالي فإنّ الصّدام حتميّ والسلام والتعايش مستحيلان.(ص72-73)
أمّا المستوى الثاني فيرى بخلاف الأوّل، أنّ الأمر لا يعود إلى عدم قابليّة الإسلام للتعايش مع الغرب، بل إلى مزيج من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وحتى التجربة التنمويّة في المجتمعات الإسلاميّة.
أمّا المستوى الثالث: فيفسّر ظهور الأصوليّة الإسلاميّة من منطلق مغاير تماماً، ويعتبرها نتاج العالم المعاصر بمعنى أنّه لو لم تكن هناك حداثة لما كان هناك أصوليّة. (ص74)
8. تقديم الإسلام في الإعلام الغربي والصحافة البريطانية
يمثّل الإعلام الغربي واحدة من المؤسّسات التي تنتج وتعيد إنتاج المعرفة بالإسلام من خلال خطابها. تقديم الإسلام من خلال الإعلام يعكس كيف يتمّ موضعة المعرفة في الممارسات الخطابيّة، بغية تكوين صورة عن الإسلام هي عبارة عن إعادة رسم للصورة التي كوّنتها مسبقًا الخطابات الاستشراقيّة. (ص95)
اختار الكاتب ثلاثة قضايا بارزة لعبت فيها التغطية الإعلامية دورًا في التحريض ورفع مستوى التوتّر، وهي على التوالي: قضيّة سلمان رشدي سنة 1989، وحادثة مقتل سواح في الجيزة المصريّة، وأحداث 11 أيلول/ سبتمبر سنة 2001 والتي أطلقت ما سمّي الحرب على الإرهاب. وتمثّل معالجة التغطية الإعلامية لهذه الحوادث وتحليلها زبدة الرّسالة والكتاب .
9. قضية سلمان رشدي
على أثر صدور كتاب آيات شيطانيّة للكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي، وما تضمّنه من تطاول على مقام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، أصدر مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد الخميني فتوى سنة 1989، طلب فيها من أي مسلم في العالم تنفيذ عقوبة الإعدام بالمؤلف. منعت بعض الدول الكتاب، ونزل المسلمون إلى الشوارع حتى في بريطانيا مطالبين بإدانة رسميّة للكتاب. وأدّت ردود الفعل إلى قطع العلاقات البريطانية-الإيرانية. (ص140)
في أعقاب الفتوى كان حجم التغطية كبيرًا جداً في الصحف الثلاثة المختارة، ومن بين عشرات المقالات والتحاليل اختار الكاتب 15 نصاً من كل صحيفة لرصد كيفيّة معالجة القضيّة إعلامياً وتوصّل إلى النتائج التالية:
هناك اتّجاه لتصوير الإسلام ككيان واحد.
غالبًا ما يرتبط الإسلام والمسلمون بالتطرّف.
الإسلام والمسلمون مرتبطون بالإرهاب والعنف.
يتمّ تصوير الإسلام والمسلمين على أنّهم معادون للغرب.
الإسلام والمسلمون مرتبطون باللاعقلانية.
وبالتالي، تستند معايير اختيار الأخبار و التقارير المختارة للتحليل على هذه المحاور الخمسة بحيث يسيطر عليها واحد أو أكثر من هذه الموضوعات.
أوّلاً: الإسلام ككيان واحد
يقول الكاتب: في الجارديان (23/2/1989) قدّم (السيد) الخميني كممثّل لجميع المسلمين، والمتحدّث الوحيد عن الإسلام، وأيضاً كناطق باسم الله عندما ركّزت الصحيفة على اقتباس يقول فيه: «إنّ العقوبات الاقتصاديّة وغيرها لن توقف تنفيذ حكم الله بشأن الكاتب البريطاني سلمان رشدي بسبب إساءته للمقدسات الإسلامية، لقد شاء الله نشر هذا الكتاب بما فيه من كفر ليكشف الوجه الحقيقي لعالم الغرور والغطرسة والكراهية للإسلام التي طال أمدها». مثل هذا التمثيل يصور (السيد) الخميني كممثل لكامل الإسلام، كأنّ هناك إسلامًا واحدًا موحّدًا ومتماسكًا. ومع ذلك، فإنّ الغالبية الساحقة من المسلمين السنّة تختلف عن المسلمين الشيعة -ومعظمهم من أتباع (السيد) الخميني- في مجموعة متنوّعة من المسائل، بما في ذلك مسائل الخلافة والقانون والسلطة، تفسير القرآن، الزواج، الميراث والفقه والاجتهاد عمومًا. (ص142)
ولدينا ملاحظات عدّة على الاقتباس والنتيجة التي يريد أن يكرّسها الكاتب. باختصار شديد وخصوصًا فيما يتعلّق بإيران والسيد الخميني ورد في الكتاب أنّ إعلان العداء الغربي للثورة الإيرانية كان من أيّامها الأولى، ومع الغرب من يلحق به من العالم العربي والإسلامي. فالغاية من الاقتباس ليس تصوير المسلمين ككتلة واحدة ينطق باسمها السيد الخميني، وإنّما شيء آخر هو إضفاء الطابع الثيوقراطي على الحكم الجديد في إيران، وهي مغالطة يحرص عليها الغربيون لتصوير الأمور وكأنّها عادت قرونا إلى الوراء بانتصار ثورة إسلاميّة. والمتلقّي الغربي عندما يقرأ كلمة «حكم الله» لا يحسن التفريق بين حاكم كان يعتبر نفسه «ظل الله على الأرض» فيشرّع كما يشاء، وبين فقيه يجتهد ليستنبط حكم شرعي وهو يكون تحت الشريعة لا فوقها.
من جهة ثانية نعتبر اختيار هذا الاقتباس غير موفّق؛ لأنّ العالم الإسلامي بكلّ مذاهبه كان موحداً في رفض إهانة الرسول؛ لأنّها مسألة غير خلافيّة، فشخص الرسول يأتي في الإسلام بعد توحيد الله تعالى من أركان وحدة الأمة. وقد نقل الكاتب مشاهد أخرى تؤكّد ما ذهبنا إليه.
يعني أنّ الغارديان هنا ليست مضطرّة للافتعال، بالفعل كانت هناك هبة إسلامية عامة، ولكن شخص السيد الخميني تصدّر المشهد بسبب الفتوى. فركّزت الغارديان على «حكم الله» و «شاء الله» لتضفي طابعاً من الثيوقراطية على الفتوى وكأنّها صوت من التاريخ القديم… يقف في وجه التقدّم والحداثة الغربية وحريّة التعبير!!!!.
ثانيًا: الربط بين الإسلام والمسلمين والتطرّف
يؤكّد الكاتب في تكملة شواهده وحدة «الهبة» الإسلامية ضدّ سلمان رشدي، ولكنّه يستفيد منها لتأكيد إصرار الصحف البريطانية على الربط بين الإسلام/ المسلمين والتطرّف.
حتى قبل إصدار الفتوى الشهيرة كانت الإندبندنت في 13/ 2/ 1989 قد رسمت صورة عنفية للمحتجين الباكستانيين ضدّ رواية رشدي المثيرة للجدل تحت هذه العناوين:
مقتل خمسة في مسيرة احتجاجيّة مناهضة لرشدي في باكستان
لقي خمسة أشخاص على الأقل مصرعهم وأصيب العشرات، عندما فتحت الشّرطة النار على مسلمين أصوليين احتجوا على رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية»، وهم يحاولون اقتحام مركز المعلومات الأميركي في وسط العاصمة الباكستانية.
تم تصوير المتظاهرين، وهم مسلمون، كما لو كانوا يشاركون في معركة دامية، وليس احتجاجًا أصبح عنيفًا نتيجة ردّ فعل الشّرطة المبالغ فيه وسوء التّعامل، كما أفاد شهود العيان. ويستخدم المحرّرون صيغة المبني للمجهول «أصيب» بغية وضع الشرطة في خلفية المشهد ليصبح التركيز عليها أقل، مقابل دفع ضحايا الشرطة إلى المقدمة (فاولر وآخرون، 1979: (ص98-99). وبالتالي لا توجد إشارة مباشرة إلى من قام بالعمل؛ يركز التقرير بالأحرى على ضحايا إطلاق النار.
كما ورد أنّ «الأصوليين المسلمين حاولوا اقتحام المركز الأميركي للمعلومات «و» رشقوا الحجارة والطوب وطردوا العشرات من رجال الشرطة التي كانت تحاول حماية المبنى». وهي خاتمة تحاول تشريع عمل الشرطة وتحديد إطار فهم يبرّر عدوانها. (ص145-146)
وفي 18/ 2/ 1989 وصفت الغارديان أعمال الإحتجاج ضدّ رشدي في الهند بأنّها أعمال شغب؛ لتعطي طابعًا سلبيًا للمظاهرات المناهضة للكتاب واعتبار المسلمين سببًا للفوضى والدمار: تسبّبت أعمال الشّغب حول الكتاب في الهند بمزيد من الإصابات .. وأصيب 75 شخصًا في أعمال شغب في سريناغار. (ص146)
ثالثًا: الربط بين الإسلام/ المسلمين والإرهاب والعداء للغرب واللا عقلانيّة
لا يتّسع المقام لعرض الشواهد التي أوردها الكاتب في استغلال موضوع سلمان رشدي، لشنّ حملة منظّمة تستهدف تصوير كلّ المسلمين بأنّهم إرهابيون وقتلة، بغضّ النّظر عن موقعهم الجغرافي داخل أوروبا أو خارجها. جرت حملة استصراح تمّت بين المسلمين في ذروة الغضب عبّر فيها أكثر من مسؤول مسلم عن غضبه وقال إنّ رشدي يستحقّ القتل على ما فعله، ثمّ تحوّلت هذه التصريحات إلى عناوين عريضة ودبجت عليها تحاليل ومقالات. ثمّ تمّ تطويرها لتستخدم في خلق جبهة يكون فيها «كل المسلمين» ضدّ «كل الغرب»، وبطريقة «جنونيّة» انتحاريّة غير عقلانيّة …
يمكن تقسيم التقرير الذي نشرته التايمز في 17 مارس 1989 إلى قسمين:
يتناول الجزء الأوّل نتائج الاجتماع السنوي الذي عقد في مدينة الرياض السعودية، من قبل وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. أمّا الجزء الثاني فيتناول ما وصفه التقرير بـ «المناهضين للحملة الصليبية البريطانية». في الجزء الأوّل، يسلّط التقرير الضّوء على الخطر الذي يهدّد حياة السّيد رشدي من جرّاء وصفه ب«المرتد». هذا الوصف الذي «سيشجع المتطرفين على قتله».
من حيث تمثيل الإسلام بشكل سلبي، لا يختلف التقرير عمّا سبقه فمن جهة يصف 46 دولة مشاركة بأنّها متشدّدة، ويركز على الردّة والجزاء والتوبة في استحضار متعمّد لمصطلحات القرون الوسطى للإيحاء بأنّ العالم الإسلامي لا يزال يعيش مغمورًا بالجهل والإكليروس والعناد والتطرّف. . (ص195-196)
10. صعود طالبان إلى السلطة
يقول الكاتب: أُسّست طالبان من طلّاب المدارس الدينية في باكستان، ومن هنا جاء الاسم «طالبان» ضدّ حكومة المجاهدين التي قاتلت الاتّحاد السوفيتي من سنة 1979 لغاية 1989، وتعتقد طالبان أنّ هذه الحكومة غير إسلاميّة، فأعلنت أنّ مهمّتها تأسيس دولة إسلاميّة.
بعد سقوط كابل ركّزت التقارير الغربيّة على العقوبات الوحشيّة التي كانت طالبان تنفّذها مع خصومها واللّباس المفروض على النّساء ومنعهنّ من التعلّم وإقفال الجامعات والمحكمة العليا.
يوجد ما يبعث على الاعتقاد أنّ الإعلام الغربي حاول أن يقدّم تعريفًا للإسلام من خلال أكثر أشكال العنف والتطرّف التي تميّزت بها طالبان. (ص98-99)
التعريف الصريح للإسلام بميليشيات طالبان، والرّبط الضمني للإسلام بالعنف والتطرّف في الأحداث اللّاحقة، كان مشتركاً بين الصحف الثلاثة:
«سيطرت ميليشيات طالبان الإسلاميّة المتشدّدة على كابول الأفغانية بالامس وعلى الفور قتل الرئيس السابق محمد نجيب الله. أصيب برصاصة وترك جسده المنهوب معلقاً على جسر المرور(التايمز، 8/ 09/ 1996).
«اقتحم مقاتلو الميليشيا الإسلاميّة المعروفة باسم طالبان المجمع حيث عاش نجيب الله كسجين افتراضي على مدى السنوات الأربع والنصف الماضية ….نجيب الله، 49 عامًا، تمّ جرّه إلى الخارج وضربه وقتل بالرصاص ثم تمّ تعليق جثّته فوق حركة المرور بالقرب من القصر. (الإندبندنت 28/ 09/ 1996)
«جثة رئيس أفغاني سابق ورفاقه معلقة على عمود إنارة … السكان ينتظرون ما إذا كانت القوّة الإسلامية المتشدّدة المنتصرة ستنهي أربع سنوات من الاقتتال بين الفصائل. (الغارديان، 28/ 09/ 1996)». (ص201)
الواقع أنّ أساليب طالبان كما هي أساليب داعش وغيرها من التنظيمات التكفيرية، تمنح الصحافة المعادية للإسلام مشاهد وأحداثاً تمكّنها من «اختزال» الإسلام وربطه بالتطرّف. يركز الكاتب على أنّ هذا ليس الإسلام السائد في العالم الإسلامي وهذا صحيح، ولكن المتطرّف هو الذي يصنع الحدث. لذلك نرى أن مناقشة هذه الأشكال المتحيزة من التغطية الإعلامية يجب أن تعيد تسليط الضوء على ممارسات القوى الأجنبية التي تمارس أبشع الجرائم ليس بأسلوب السحل وتعليق المشانق، بل بالقاء القنابل التي تمزّق الضحايا أشلاء لا يمكن تصويرها، وفي إعلام اليوم ما لا يظهر في الصورة يتم التعامل معه وكأنّه لم يكن موجودًا. إنّ المنافسة بين المجرم التكفيري الذي أنتجه الجهل وأجهزة المخابرات، و«المجرم الغربي الأنيق» غير متكافئة فأسلحة الأخير أشدّ فتكاً وانتهاكاً لكلّ الأعراف والقوانين الدولية، وكل جريمة من أي جهة أتت مدانة طالما أنّها تنتهك قاعدة شرعيّة أو قانونيّة تستهدف حفظ حق الإنسان في الحياة.
وينطبق ما قلناه على التغطية الإعلامية لحادثة الأقصر ولذلك فضلنا الانتقال إلى تغطية أحداث 11/ 9/ 2001 التي هي منعطف مفصلي في تركيز الربط بين الإسلام والإرهاب في الإعلام الغربي.
11. هجمات 11 أيلول 2001
منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا، أصبح الإسلام كحركة دينيّة سياسيّة عالميّة بالإضافة إلى كونه مجتمعاً دينياً وثقافياً، موضوعاً لاهتمام متجدّد، والكثير من الجدل. وقد عزّزت الهجمات ذلك الإفتراض السائد بأن الإسلام أصلاً معاد للغرب وعنيف، وهو أكثر ديانة قابلة لتبرير العنف بين أديان العالم الأخرى.
استخدمت العديد من الصحف الوطنية البريطانية مقالاتها الافتتاحية للدفاع عن الإسلام والمسلمين البريطانيين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر ضدّ معاداة الإسلام. ومع ذلك، يلوم المسلمون التغطية الصحفية البريطانية التي تستخدم التعميمات، بدون تمييز بين جميع المسلمين والحركات الإسلامية مع وصمة العنف ومعاداة الغرب، بطريقة تتجاهل أي تباين داخلي في الرأي وتتغاضى عن التنوع في العقيدة الإسلامية والحركات الإسلامية. يجادلون بأنّ هذه الصورة السلبية تتعزّز باستخدام عبارات مثل «الإرهاب الإسلامي»، «التعصب الإسلامي»، «التطرف الإسلامي»، وبالتالي ربط الإسلام بدلًا من تنظيم القاعدة بالارهاب والتعصب والتطرف. وبالتالي، يسود بشكل عشوائي طيف كامل من الخصائص السلبية التي تنسب إلى الإسلام والمسلمين. (ص227 )
لقد بيّنت دراسات معاصرة عمليّة التخادم بين المال والسلطة والإعلام، نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب المتلاعبون بالعقول لهيربرت شيلر، وشبكات المكر لمارك كورتيس، وغيرها من الكتب القيمة التي هدمت أسطورة الموضوعيّة الإعلامية. فإعلام اليوم هو إعلام السياسات الرسمية التي ترسمها الدول والشركات المتحكمة بتدفق المعلومات وتوفيرها للمتلقي في كل العالم. والجهود التي تبذل من قبل المسلمين المخلصين لتحسين صورة المسلم بعين الغرب تبقى قاصرة عن مجاراة المكنة الضخمة التي تستغل الأحداث لتسويق منظورها الخاص في كافة القضايا. ما لم يقد المسلمون في كلّ العالم عملية إنشاء نماذج بديلة، تتحدّث عن نفسها في مختلف ميادين التحدي الحضاري.
وقد أظهرت التقارير التي تم تحليلها من تغطية الصحف الثلاث، لهجمات 11 سبتمبر والأحداث اللاحقة في الأسابيع الستة التالية للهجمات (12 سبتمبر إلى 24 أكتوبر 2001). إصرار الصحف البريطانية على التّعامل مع الإسلام ككتلة متجانسة واختزال تنوّعه، ليظهر المسلمون قوّة عالميّة واحدة غير متمايزة. كما أظهرت عمل الصحافة البريطانية على تكريس الرّبط بين الإسلام والعنف من جهة، وأنّه من حيث التكوين يتضمّن كراهية الغرب من جهة أخرى. هذا فضلًا عن التأسيس لشرخ داخلي في المجتمع البريطاني عن طريق الدّفع باتّجاه اعتبار المسلمين البريطانيين كأجانب، والإشارة إلى صدع لا يمكن ردمه بين العالم الإسلامي والغرب. (ص228 )
لماذا تصرّ بعض الدوائر الغربية على «عزل» المسلمين عن المجتمع الغربي في داخل الدول، وعزل العالم الإسلامي عن الفضاء الثقافي الغربي كحضارة؟ لا يتّسع المقام للتفصيل، لذلك نختم بالقول:
لا يزال الإسلام بالرغم من كلّ ما تعرّض له من جراحات وتشويه، قادراً على تقديم نمط حياة بديل للفرد والأسرة والمجتمع، حتى على مستوى التشريعات الدقيقة لم يصل أي تشريع في العالم إلى دقّة الفقه الإسلامي في تنظيمه للسلوك اليومي الفردي والجماعي. ولا تزال عين الغرب تنظر بتعجّب إلى أداء الشعائر الإسلامية في بيئات عالميّة مختلفة من قبل المسلمين بإرادة حرّة تدفعها فقط قوّة الاعتقاد. هذه الديناميّة الذاتيّة، التي تعكس حيويّة هذا الدين، حتى عندما يكون مفتقرًا إلى دعم الدول والمنظمات والشركات والمدارس والجامعات ومحطات الإعلام الكبرى… تبقى وحدها روحًا ساريةً في شرايين البشريّة نحو غدٍ موعودٍ لا دور فيه لطغاة الأرض.
—————————
[1] مصطفى العبد الله الكفري: الحوار المتمدن-العدد: 914 – الثالث من أغسطس 2004م.
[2] كوينتن سكنر،:أسس الفكر السياسي الحديث، عصر النهضة،ترجمة حيدر حاج إسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت 2012، ص 39_41 بتصرف
رابط المصدر: