هذا الكتاب يسلط على العلاقات الوثيقية بين الصين والعرب تللك العلاقات الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ والممتدة لأكثر من خمسة عشر قرنا من الزمان….
يمكن أن يرجع تاريخ العلاقات الودية بين الصين والعرب إلى ما قبل ألفي عام، فقد ورد في ((كتاب هان- سيرة تشانغ تشيان)) أن أسرة هان أوفدت بعد عودة تشانغ تشيان من رحلته إلى المناطق الغربية مزيدا من الرسل في زيارات لأنشي، ويانتساي، وليتشيان، وتياوتشي وشندو (الهند). وقد وصلت البعثات إلى بضع عشرة بعثة، وعدد أعضاء كل منها يتراوح بين مائة شخص ومئات الأشخاص يحملون صفة تجار ومبعوثين في آن واحد. أما آنشي، فقد سبق للصينيين في التاريخ أن قصدوا بها الارساكسية إحدى الأسر الحاكمة في تاريخ فارس. وأما تياوتشي فكانت تعني بلاد العرب عند الصينيين في العصور القديمة وقد سموها هذه التسمية نقلا عن الفرس، إذ كانوا يدعون العربي “تازي” والعرب “تازيان”(1). والذي ذكر في ((كتاب هان الغربية- سيرة تشانغ تشيان)) عن إيفاد هان الغربية رسلها إلى تياوتشي يعتبر أقدم معلومات تاريخية حتى الآن عن إيفاد الصين رسلها إلى بلاد العرب.بافي التعليم
وفي فترة شين مانغ (9- 23) توقفت الاتصالات بين الصين والغرب نتيجة للاضطرابات التي سرت في المناطق الغربية، غير أنها عادت إلى ما كانت عليه من الهدوء، وعادت الطرق فيها سالكة كما كانت، بعد أن بذلت مجهودات شاقة في عهد أسرة هان الشرقية (25- 220)، حيث سجل بان تشاو مآثر سامية متوالية، إذ صد غزو قبيلة الهون عن المناطق الغربية وصان الوحدة بينها وبين وادي النهر الأصفر، وحفظ أمن طريق الحرير داخل حدودها، فساعد على التبادلات الصينية العربية. وفي العام السادس من فترة يونغ يوان في عهد الإمبراطور خه دي (94م) هزم بان تشاو دولة يانتشي، “فقدمت خمسون دولة ونيف للصين رهائنها اعترافا لها بالسيادة. وكانت من بين تلك الدول دولتا تياوتشي وآنشي المطلتان على المحيط والبحار، وهذا دل على أن بلاد ما وراء أربعين ألف لي (لي الواحد= 5ر0 كيلومتر) كانت ترسل إلى الصين هداياها تحت شعار دفع الجزية والإتاوة” (2). وهذا أول ما ذكر عن التعاملات الصينية العربية في مصادر تاريخ الصين.بافي التعليمبافي التعليم
وصول قان ينغ إلى “تياوتشي” في الأرياف
ومن أجل إقامة علاقات بين الصين وداتشين- وهي الدولة الرومانية كما كان يسميها الصينيون- أوفد بان تشاو مفوض الصين العسكري في المناطق الغربية تابعه قان ينغ رسولا إلى داتشين، فوصل إلى أرض تياوتشي في العام التاسع من فترة يونغ يوان في عهد الإمبراطور خه دي. “ولما كان مواجها للبحر (الخليج الفارسي) وأراد أن يعبره، قال له المراكبية في الشطر الغربي من آنشي ‘إن البحر واسع شاسع، قد يعبره المرء خلال ثلاثة أشهر أن كانت الرياح مؤاتية، وقد يعبره خلال عامين أن فاتته، لذا يجهز كل من يعبره مؤونة تكفيه ثلاثة أعوام. والذي يركبه كثيرا ما يعاني لوعة الحنين. وحوادث الغرق فيه ليست قليلة’. حين سمع قان ينغ ذلك توقف عما أراد” (3). ومما يؤسف له أن المراكبية الارساكسيين لم يطلعوا قان ينغ على وجود طريق بري يصل بين سوريا والدولة الرومانية وهو أقرب طريق يجتاز الصحراء ويمر بأرض ما بين النهرين، إنما أكدوا على أن الطريق البحري يستغرق أوقاتا طويلة وتحف به المخاطر، فصرفوه عن نيته في مواصلة الرحلة. ولولا ذلك لسبق للصين وبلاد العرب أن شهدتا مزيدا من التعاملات، وعرفت الصين عن غربي آسيا وأوربا المزيد. وقد ورد في ((كتاب هان الغربية- سجل المناطق الغربية)) أن الدولة الرومانية كثيرا ما كانت ترغب في إيفاد الرسل إلى هان، غير أن آنشي رغبت في أن تتاجر مع الدولة الرومانية بالحرير الذي جاءت به من الصين. وكما ورد في ((لمحة عن أسرة وي)) للأديب الصيني يوي هوان أن الدولة الرومانية “كثيرا ما كانت ترغب في إيفاد الرسل إلى الصين، ولكنها لم تتمكن من الوصول إليها عبر آنشي، إذ كانت لها مصلحة خاصة في هذه التجارة” (4). لذلك يمكن التصور أن أهل آنشي أي الارساكسيين تعمدوا أن يخفوا عن قان ينغ حقيقة الطريق البري المؤدي إلى سوريا والدولة الرومانية مخافة أن يتصل الصينيون بالقبائل العربية في سوريا والدولة الرمانية مباشرة، فيكتشفوا تحكمهم بالتجارة بين الصين والعرب من جهة، وبالتجارة بين الصين والدولة الرومانية من جهة أخرى، الأمر الذي كان من شأنه يفقدهم مكانتهم الاحتكارية في ميدان التجارة، وعندها لن يستطيعوا الاستمرار في جني ما اعتادوا أن يجنوه من المنافع. وكان موقف آنشي هذا يعتبر أحد العوامل الهامة التي دفعت الصين والدولة الرومانية إلى فتح طريق الحرير الثاني- طريق الحرير البحري.بافي التعليمبافي التعليم
وربما قدم بعض المبعوثين من تياوتشي إلى الصين في زيارات رسمية بعد أن وصل المبعوث الصيني قان ينغ إلى أرضها بثلاث وعشرين سنة. فقد أفاد ((سجل الاستدراكات)) أنه في العام الأول من فترة يونغ نينغ من عهد الإمبراطور آن دي من أسرة هان (120م) “جاء المبعوثون من تياوتشي ليقدموا هدايا نادرة، كان منها طير يسمى قيقا يبلغ ارتفاعه سبعة تشيات (تشي وحدة طول تعادل ثلث متر) ويفهم ما يقوله الإنسان” (5).بافي التعليمبافي التعليم
أما الاتصالات الاقتصادية التي جرت بين الصين وبلاد العرب في فترة ما بعد هان الغربية وهان الشرقية وقبل تانغ، فستأتي تفاصيلها في الباب الثالث.بافي التعليمبافي التعليم
معرفة الصين عن العرب في الأرياف
بفضل طريق الحرير وتبادل الرسل زادت الصين معرفتها عن العرب تدريجيا. فقد ورد في ((الأخبار التاريخية- سجل داوان)) أن “تياوتشي دولة تقع غرب آنشي بعدة آلاف من الليات، وتطل على البحر الغربي حيث يميل الجو إلى الرطوبة صيفا. وتمارس الزراعة ولا سيما الأرز. وفيها طيور ضخمة بيضها كبير، واحدته كالإبريق. وسكانها كثيرون، وغالبا ما يحكمهم شيوخ. وآنشي تخضع لسيادتها باعتبارها دولة أجنبية.” وقد جاء هذا الوصف الوجيز عن موقع تياوتشي ومناخها ومنتجاتها وأحوالها السياسية، متفقا مع الحقيقة على وجه العموم. ويرجح أن هذه المعلومات أخذت مما أطلع عليه تشانغ تشيان في المناطق الغربية عندما بعث إليها رسولا. ولما دخلت الصين في عهد هان الأخيرة، جمعت مزيدا من المعلومات عن بلاد العرب. فقد ورد في ((كتاب هان الأخيرة- سجل المناطق الغربية)) وصف يقول “إن دولة تياوتشي مدينة تقع فوق الجبل، يبلغ طول محيطها أربعين لي ونيف، وتطل على البحر الغربي، فتحيطها الشواطئ الملتوية مغلقة عليها المرور من ثلاث جهات جنوبا وشرقا وشمالا، إنما بقيت زاوية الشمال الغربي منها متصلة بالبر، وجوها يميل إلى الرطوبة. وفيها من الحيوانات الأسد ووحيد القرن والجمل والسنام والطاووس وطائر ضخم بيضه كبير كالإبريق. والمرء ينطلق منها على ظهر الخيل باتجاه الشمال، ثم يتحول نحو الشرق، فيصل خلال ستين يوما أو أكثر إلى آنشي التي تخضع لحكم تياوتشي. فهناك يرابط كبار القواد من تياوتشي ليفرضوا المراقبة على مدنها”. و”لدولة تياوتشي مدينة تقع فوق الجبل” أي أن عاصمتها تقع فوق الجبل. وربما تكون هذه المدينة هي مدينة (Charax-Spasinu)التي كانت تقع عند ملتقى دجلة والفرات وكارون، والتي بناها الاسكندر، ثم أعاد بناءها أنطيوخوس الرابع أحد الأباطرة السلوقيين عام166 قبل الميلاد، فأطلق عليها اسم أنطيوخوس (6). ثم حدث أن احتلها Spasinu)) شيخ أحد القبائل العربية، فسميت بـ(Charax-Spasinu). وما لبثت بعد ذلك أن خخضعت لحكم الأرساكسية. وقد سبق لها أن كانت ميناء دوليا له اتصالات تجارية وثيقة بتدمر في سوريا وبالهند.بافي التعليمبافي التعليم
2- المرحلة الجديدة التي نمت فيها العلاقات الصينية العربية في شتى المجالات
الظروف التاريخية التي نمت فيها العلاقات الصينية العربية في شتى المجالاتفي الأرياف
في عام 631 أنهى النبي محمد حالة الانقسام في جزيرة العرب، وأنشأ سلطة وحد فيها بين الدين والسياسة. وفي أواسط القرن الثامن تمكنت الإمبراطورية العربية من مد سلطانها إلى ما وراء النهر في آسيا الوسطى (7) حتى تاخمت حدود الشمال الغربي من إمبراطورية تانغ، إذ كانت كل من إمبراطورية تانغ والإمبراطورية العربية تشهد حضارة مزدهرة وقوة متدفقة واقتصادا متطورا. وكانت كلتاهما تنتهجان سياسة انفتاحية على الخارج، وترغبان في تعزيز العلاقات الودية فيما بينهما. بافي التعليمبافي التعليم
وكانت الإمبراطورية العربية تمتد في آسيا وأفريقيا وأوربا، وتتحكم بعقد المواصلات العالمية، وتصهر الحضارات الشرقية والغربية في بوتقة واحدة، وتنظر بإعجاب إلى الصين التي تقع في الشرق والتي تتميز بحضارتها القديمة وتاريخها العريق. وقد قال الخليفة العباسي المنصور عندما اتخذ بغداد عاصمة له عام 762 : “هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كل ما في البحر” (8).بافي التعليمبافي التعليمي التعليمبافي التعليم
وكانت إمبراطورية تانغ تتحصن بقوة جبارة في آسيا، وتتعامل مع من يقدم إلى الصين من كل حدب وصوب، بحيث “كان حي المغتربين في تشانغآن يغص بالقاطنين في فترة تشن قوان (627- 655) وفترة كاي يوان (713- 742) (9)، وكانت الحكومة الإمبراطورية تعامل من يأتي إلى الصين من بلاد العرب والبلدان الأخرى من رسل وتجار معاملة حسنة، وتقابل ما يعتنقونه من ديانات بالاحترام التام.
وبينما كانت الصين دولة متقدمة في الملاحة البحرية في عهد أسرة تانغ لضخامة سفنها ومتانتها ومهارة بحاريها، كانت بلاد العرب معروفة في العالم بصناعة السفن، إذ كانت لا تستخدم المسامير الحديدية في السفن، إنما كانت تستخدم حبالا من ألياف النخيل لتثبيت أخشاب السفن، وكان بحاروها يبحرون في سفنهم إلى أرجاء الدنيا مستعينين فقط بالشراع المثلث الكبير والبوصلة البسيطة.بافي التعليمبافي التعليم
هذه العوامل التي تقدم ذكرها هيأت لنمو الصداقة الصينية العربية ظروفا سياسية صالحة وقوة مادية غزيرة، فدفعت عجلة التبادلات الودية بين الصين وبلاد العرب إلى الأمام، وسارت بالعلاقات الصينية العربية إلى مرحلة جديدة من التطور الشامل.بافي التعليمبافي التعليم
رسل العرب إلى الصينفي الأرياف
ورد في المصادر التاريخية الصينية أن “سلطان داشي” أرسل مبعوثا إلى الصين بهدية من الدرر واللآلئ في السنة الأولى من فترة تشن قوان (627- 749) من عهد تاي تسونغ من أسرة تانغ (10)، ولعله كان أول مبعوث رسمي من بلاد العرب إلى الصين. وكان النبي محمد يعرف عن الصين ويهتم بها، إذ قال: “أطلبوا العلم ولو في الصين”، فكان من الطبيعي أن يوفد من يوفده إلى الصين لإقامة اتصالات طيبة بين الطرفين حالما ثبت قدميه في مكة المكرمة. وفي الوقت نفسه كان الإمبراطور تاي تسونغ- تانغ الذي يقدر الأمة العربية هو الآخر حريصا على إقامة علاقات ودية بين الصين وبلاد العرب. وقيل إنه قد سبق له أن اعتذر في أدب عن قبول طلب ملك فارس إرسال إمدادات إليه لمقاومة العرب (11). بافي التعليمبافي التعليم
أخذت الاتصالات بين الصين وبلاد العرب تزداد وتتكثف بعد عهد تاي تسونغ. وفي العام الثاني من فترة يونغ هوي (651) من عهد قاو تسونغ في أسرة تانغ، أوفد (Damimumuni) سلطان “داشي” رسولا إلى الصين، فقال الرجل “إن دولتهم قد مضي على وجودها أربعة وثلاثون عاما، تعاقب عليها خلالها ثلاثة حكام” (12). ولفظة “داشي” هنا هي ترجمة صوتية للفظة “التازيان” أي العرب، و”سلطان داشي” هو عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين (644- 656)، أما (Damimumuni) فهي اللفظة التي تمثل لقبه، والتي حرفت صوتيا عن لفظ “أمير المؤمنين”.بافي التعليمبافي التعليم
وجاء في المصادر التاريخية الصينية أن بلاد العرب أوفدت إلى الصين في عهد تانغ سبعا وثلاثين بعثة بدءا من عهد عثمان بن عفان، ومرورا بعهد الدولة الأموية (661- 750) التي سمتها الصين “التازيان البيض” وعهد الدولة العباسية التي سمتها “التازيان السود”. وكان بين هذه البعثات تجار يقدمون الصين بهدف التجارة تحت اسم “مهمة رسمية”. وكان الرسل منهم يأتون الصين ويهدون الحكومة الصينية ما يجلبونه من بلادهم من كافور بورنيو والفهود والخيول العربية الشهيرة وغيرها، فتحسن الحكومة الصينية معاملتهم، وتغدق عليهم الهدايا. وفي العام التاسع والعشرين من فترة كاي يوان (741) منحت السلطة الصينية (HeSa) (حسن؟) الذي جاء الصين بصفة مبعوث التازيان البيض أي الدولة الأموية لقب قائد الحرس الأيسر، وخلعت عليه الرداء البنفسجي مع الحزام المطعم بالذهب (13). وفي العام الثاني عشر من فترة تيان باو (753) وصل إلى الصين خمسة وعشرون مبعوثا من التازيان السود، فمنح بلاط تانغ كلا منهم لقب ” تشونغ لانغ” وخلع عليه الرداء البنفسجي والحزام المطعم بالذهب، وأعطاه كيس سمك. وبالرغم من أن المصادر التاريخية لم تذكر شيئا عن إيفاد بعثات من الصين إلى بلاد العرب، إلا أن ذلك قد تم على الأرجح.بافي التعليمبافي التعليم
رابط المصدر: