يدخل الصراع في السودان مرحلة من اللا يقين بشأن فرص احتوائه في ظل عدم صمود مساعي وقف إطلاق النار وإعلان الهدنة بين طرفي الصراع؛ فبعد مرور نحو ثلاثة أسابيع لا يزال من الصعب الجزم بمسار المشهد الميداني وما ستؤول إليه التطورات والتفاعلات في الداخل السوداني، هذه الصعوبة يقابلها يقين بأن الصراع المسلح في أي دولة لا يمكن أن يظل محصورًا داخل دولة الصراع. وعليه، فالثابت أن استمرار الصراع وإطالة أمد المواجهة وغياب أفق الحل قد يؤدي إلى انتقال التأثير لنطاقات جغرافيا أخرى تطال بالأساس دول الجوار.
جوار قلق
لا شك أن استمرار الحالة الصراعية في السودان وتراجع مؤشرات التهدئة يجعل دول الجوار السوداني في حالة تأهب لما قد تسفر عنه الأوضاع المحتدمة بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع؛ إذ قد تتأثر الدول الحدودية السبع (مصر، وجنوب السودان، وتشاد، وليبيا، وأفريقيا الوسطى، وإثيوبيا، وإريتريا) بشدة بما يجري في السودان، وهو ما حذر منه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بأن الحرب في السودان تنذر بـحريق كارثي يمكن أن يبتلع المنطقة بأسرها.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن كافة دول الجوار قد تتأثر بالتحولات في السودان، إلا أنها ستتفاوت فيما بينها من حيث شدة التأثير؛ فعلى سبيل المثال لا يتوقع للدول الأكثر استقرارًا كما هو الحال في مصر أن تتأثر بذات القدر الذي قد يكون عليه الوضع في الدول التي تشهد صراعًا أو نزاعًا داخليًا كما هو الحال في ليبيا أو إثيوبيا أو أفريقيا الوسطى أو تشاد. ويعود ذلك بصورة رئيسة إلى قدرة دول الجوار السوداني المستقرة على ضبط الحدود وصعوبة اختراقها، بجانب القدرة على فرض معدلات عالية من التأمين. ورغم أن ذلك لا ينفي التأثر بمثل هذه التهديدات، فإن حدوثه قد يكون في نطاق أقل من الدول التي تمر بمرحلة انتقال سياسي أو تعيش حالة من السيولة الأمنية والحدودية.
ترتيبًا على ما سبق، يمكن أن تتأثر ليبيا بالصراع في السودان على عدد من المستويات السياسية والأمنية والعسكرية والإنسانية، ما يمكن الوقوف عليه على النحو التالي:
أولًا) التأثر بموجات النزوح، يؤدي استمرار الصراع في السودان إلى تزايد موجات النزوح الجماعي، ولا شك أن دول الجوار ستكون أول المحطات الرئيسة للنازحين من ويلات الصراع، ما عبر عنه المفوض الأممي، “فيليبو جراندي”، والذي أكد إن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة تستعد مع الحكومات والشركاء لاحتمالية فرار أكثر من 800 ألف شخص من أعمال القتال الدائرة في السودان إلى دول مجاورة. وعليه، قد تكون ليبيا أحد الدول المتضررة من عمليات النزوح والفرار من الصراع؛ إذ يمثل موقع ليبيا كبوابة للعبور إلى أوروبا مجالًا يمكن أن يلجأ إليه النازحون السودانيون.
ثانيًا) عرقلة جهود إخراج المقاتلين: تُشكل أزمة المقاتلين الأجانب في ليبيا أحد أبرز المعوقات التي تحول دون استكمال عملية الانتقال السياسي في البلاد. وفي الآونة الأخيرة، بدت ملامح التنسيق بين ليبيا والسودان بشأن عودة المرتزقة السودانيين من ليبيا أكثر وضوحًا، ما بلورته زيارة رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا “عبد الله باتيلي” إلى السودان نهاية مارس، واتفاقه مع رئيس مجلس السيادة “عبد الفتاح البرهان” بشأن تكثيف الجهود لعودة العناصر السودانية المقاتلة من ليبيا والتي قدّرتها الأمم المتحدة عام 2021 بنحو 11 ألف مقاتل. ولا شك أن استمرار الصراع قد يؤدي إلى تراجع الجهود المشتركة بين البلدين فيما يتعلق بضبط الحدود وعودة المقاتلين السودانيين، ومن ثم استمرار معضلة المرتزقة كأحد المعوقات الكبرى أمام استكمال خارطة الطريق والانتقال السياسي في ليبيا.
ثالثًا) تفاقم الأوضاع في الجنوب، يعاني الجنوب الليبي من حالة من السيولة الأمنية والفراغ في ظل عدم إحكام الدولة الليبية سيطرتها الكامل على الأوضاع في الجنوب، ما حفز الجماعات المسلحة الأفريقية من استغلال تلك الفراغات في إيجاد موطئ قدم لها هناك، وعليه فإن استمرار الصراع في السودان يمكن أن يفاقم الأوضاع في الجنوب الليبي، خاصة أن جغرافيا الجنوب والتماس الحدودي مع السودان يؤهله أن يصبح بوابة خلفية، وملاذًا لعناصر الدعم السريع في حال إذا ما اشتد الصراع؛ إذ إن الجنوب يُعد بيئة مألوفة لعناصر الجنجويد –المتمركزة هناك- المكون الرئيس لميلشيا الدعم السريع.
وكذلك يمكن أن يصبح الجنوب الليبي ميدانًا لعمليات التهريب عبر الحدود ومزيد من الاختراقات وتهريب الأسلحة، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية، خاصة أن ليبيا –حتى الآن- لم تعلن عن إغلاق حدودها مع السودان على غرار إعلان تشاد منذ اندلاع الصراع في السودان، ما قد يفرض مزيدًا من التحديات. رغم ذلك يمكن أن تضطلع القوة المشتركة التي تم تشكيلها بين الشرق والغرب والجنوب بمهمة الحد من التأثيرات التي يمكن أن تمتد إلى الجنوب الليبي على خلفية استمرار الصراع في السودان، والقيام بعملية ضبط الحدود خلال الفترات القادمة.
رابعًا) تصاعد مخاطر عودة النشاط الإرهابي، يبدو من تعاطي التنظيمات الإرهابية –داعش والقاعدة- مع الصراع في السودان أن هذه التنظيمات ترى أن هناك بيئة مواتية لاستعادة نشاطها في المنطقة، خاصة وأن تصاعد التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء وحالة الصراع بين تلك التنظيمات على حيازة الحالة الجهادية والنفوذ قد يدفع تلك التنظيمات إلى توسيع نطاق نفوذها وانتشارها. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى عودة نشاط داعش في الجنوب الليبي مرة أخرى؛ إذ إن أجواء عدم الاستقرار وانتشار المقاتلين والجماعات المسلحة جنوب ليبيا تعد بيئة مناسبة يمكن أن توظفها التنظيمات الإرهابية في استعادة النشاط الإرهابي في ليبيا مرة أخرى.
خامسًا) تزايد الشكوك بشأن استكمال المسار السياسي، يمكن أن يؤثر الصراع في السودان على مجمل الأوضاع السياسية في ليبيا؛ فعلى الرغم من ملامح التوافق بين الفاعلين في المشهد السياسي، والذي ترجمه انعقاد جلسات اللجنة المشتركة لإعداد القوانين الانتخابية (6+6، فإن كافة الشواهد لا تُرجح أن تجرى الانتخابات الرئاسية خلال العام الراهن؛ ليس فقط بسبب تزايد الشكوك حول إمكانية استمرار التوافق الداخلي في ليبيا، بل يمكن أن يقود تأزم الوضع في السودان إلى تأجيل المسار السياسي، ومن ثم تأجيل عقد الانتخابات، في ظل الانشغال المتوقع للقوى الدولية والإقليمية بتهدئة الأوضاع في السودان، وإعطائها الأولوية لمنع تفاقمه أكثر من ذلك.
في الأخير، لا شك أن استمرار الاشتباكات في السودان بين القوات المسلحة وعناصر الدعم السريع يمكن أن يُضاعف من التحديات الأمنية والسياسية التي تواجه ليبيا، في ظل الأوضاع غير المستقرة، وحالة الاستقطاب التي تعانيها ليبيا.
.
رابط المصدر: