بقلم: وليام بارك
عندما أعلن وزير الخارجية البريطاني، ريشي سوناك، عن خطته لإنعاش الاقتصاد في بداية الحجر الصحي، تعمد تكرار عبارة “غير مسبوق”، إذ قال “إن هذه الفترة غير المسبوقة تقتضي إجراءات غير مسبوقة”، ولعل اختيار هذه العبارة كان له دلالات كثيرة.
وقد كانت بعض الأرقام التي استخدمت لتوضيح مدى جسامة الأزمة المالية الحالية صادمة، ففي الربع الثاني من العام الحالي انكمش الاقتصاد الأمريكي بنسبة 32.9 في المئة، مسجلا أكبر تراجع في تاريخ الولايات المتحدة. وتهاوى الناتج الإجمالي المحلي في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، أي جميع الاقتصادات الكبرى تقريبا، في مستهل العالم الحالي.
وسجل الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة، في شهر أبريل/نيسان، انكماشا بنسبة 20.4 في المئة، وتشير التوقعات إلى أنه سيسجل أكبر تراجع له منذ 100 عام. وفي ذروة الأزمة المالية العالمية عام 2008، لم يتراجع الناتج الإجمالي المحلي إلا بنسبة واحد في المئة فقط في شهر واحد.
لكن اللافت أن بعض الخبراء الاقتصاديين لا يزالون متفائلين، ويتوقعون أن يسير الاقتصاد بخطى سريعة وثابتة نحو الانتعاش. فكيف لا يثير أداء الاقتصاد الذي وصف بأنه الأسوأ على الإطلاق، مخاوف هؤلاء الخبراء؟
ويجب في البداية الإشارة إلى أن هناك مؤشرات أخرى، بخلاف الناتج الإجمالي المحلي، قد تكشف عن مدى تدهور الوضع الاقتصادي، منها عدد الشركات الصغيرة التي أغلقت أبوابها، وضياع مدخرات أصحابها، وتخلي الخريجين عن أحلامهم بإقامة مشروعاتهم الخاصة، والتزام الأسر بتسديد أقساط الرهن العقاري الباهظة لمنازلهم في وقت أصبح فيه بيعها مستحيلا، وتزايد الضغوط النفسية بسبب ضبابية المستقبل أو ضيق ذات اليد.
ولهذا فإن بعض فترات الركود تكون أكثر شدة من غيرها قياسا بمدى تأثيرها على المواطنين. وقد يكون الركود “معتدلا” أو “شديدا” بحسب الفئات المتضررة منه وحجم الخسائر التي تكبدوها.
وأشار تقرير لصندوق النقد الدولي، إلى أن شبح الركود كان يخيم على منطقة ما من العالم كل عامين على مدى العقود الثلاثة الماضية. فقد شهدت كل من المملكة والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا فترتي ركود اقتصادي أو ثلاثة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. لكن اقتصادات اخرى متقدمة، مثل إيطاليا واليابان والبرتغال واليونان، شهدت ست فترات ركود في نفس الوقت.
لكن كما تتكرر فترات الركود، تتكرر فترات الانتعاش الاقتصادي أيضا.
ورغم تكرار فترات الركود، يشير تقرير صندوق النقد الدولي إلى أن الخبراء الاقتصاديين، من القطاعين العام والخاص، لا يجيدون التنبؤ بالركود قبل وقوعه. وتقول كارولين بنتام، الباحثة بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة: “إن الجميع الآن يتظاهرون بأن العالم لا يعاني ركودا، ويتمنون في قرارة أنفسهم أن يتعافي الاقتصاد سريعا في حالة حدوث الركود. لكننا الآن نمر بفترة تتسم بدرجة عالية من عدم التيقن”.
حاد أم معتدل؟
وتقول بنتام، في ضوء خبرتها السابقة في بنك إنجلترا ومؤسسة “إيرنست أند يونغ”، حيث شاركت في تشديد اللوائح المصرفية استجابة للأزمة المالية العالمية عام 2008، إن “البنوك المركزية تعلمت من الأزمة المالية عام 2008 أن تتدخل على الفور في حالة ملاحظة اضطرابات في القطاع المالي، إما بضخ السيولة أو تخفيض سعر الفائدة لإنعاش الاقتصاد”.
لكن الأزمات المالية ليست متشابهة. وتقول كارول بروبر، أستاذة الاقتصاد بجامعة إمبريال كوليدج، إن الأزمة المالية عام 2008 نتجت عن انهيار سوق العقارات والأسهم، ولهذا كانت أشد وطأة على أصحاب الدخول المرتفعة. في حين أن الأزمة الحالية عصفت بأصحاب الدخول المنخفضة، سواء العمال الضعفاء ذوي الأجور المتدنية أو الشباب أو العمال غير المهرة
وتشبّه بروبر الأزمة الحالية بالركود الاقتصادي في أواخر السبعينيات، ومستهل الثمانينيات، الذي أثر على الشباب والعمال غير المهرة، وقد تلقي هذه الأزمات بظلالها على المسار المهني لهؤلاء العمال غير المهرة طيلة حياتهم. ولهذا بينما قد يكون القطاع المالي أكثر قدرة على الصمود في مواجهة الأزمة الحالية، بفضل الدروس التي استفادها من العقد الماضي، فإن الفقراء سيدفعون الثمن الأكبر.
وقد لا يؤدي الركود أحيانا إلى فقدان الوظائف. صحيح أن الأشخاص الذين سُرّحوا من وظائفهم إبان الأزمة المالية ظلوا عاطلين عن العمل لفترة طويلة، لكن هذه التسريحات لم تطل إلا عددا قليلا من الموظفين. وقد وجد العاطلون عن العمل وحديثو التخرج صعوبة في العثور على وظائف بسبب التراجع الشديد في التعيينات.
وأثناء الأزمة المالية العالمية، ارتفعت معدلات البطالة في المملكة المتحدة بنسبة اثنين في المئة فقط، وفي الولايات المتحدة بنسبة ثلاثة في المئة وفي منطقة اليورو بنسبة أربعة في المئة، لكنها تراجعت في عام 2014 إلى مستويات أدنى مقارنة بفترة ما قبل الركود، أي أن معدل فقدان الوظائف بعد انحسار الأزمة أصبح أقل منه قبل بداية الأزمة.
لكن الملاحظ في الركود الحالي أن عدد الموظفين الذين سيفقدون وظائفهم سيكون أكبر بمراحل مقارنة بالأزمة المالية عام 2008، في حالة استمرار قواعد التباعد الاجتماعي على المدى الطويل.
لماذا تراجع الناتج الإجمالي المحلي إلى هذا الحد؟
لم يكن من المستغرب أن ينخفض الناتج الإجمالي المحلي أثناء الحجر الصحي، فالقيمة السوقية للسلع والخدمات تراجعت عندما أغلقت المتاجر والشركات. وقد أثر هذا الانخفاض، وإن كان بشكل غير مباشر، على الموظفين في هذه الشركات الذين أصبحوا يتقاضون جزءا ضئيلا من رواتبهم أو لا يتقاضون شيئا في حالة الاستغناء عن خدماتهم.
وأعلنت المملكة المتحدة، في ذروة الأزمة، عن خطة لدعم أجور العاملين الذين عجزت الشركات عن دفع رواتبهم، بحيث تدفع الحكومة بموجبها لصاحب العمل 80 في المئة من رواتب الموظفين المسرحين مؤقتا، ولصاحب العمل الحق في اختيار إما أن يكمل الجزء المتبقي من الراتب أو لا. ووضعت فرنسا وألمانيا أنظمة مشابهة لدعم أجور العمال.
ومن ثم أصبح الملايين من الموظفين يتقاضون أجورا تكفيهم بالكاد لسد الاحتياجات الضرورية ولم يعد لديهم فائض للإنفاق على الرفاهيات، وفي حال توفر المال سيشترون احتياجاتهم عبر الإنترنت.
والهدف من نظام دعم أجور الموظفين المسرحين مؤقتا، أن تسهل الحكومة على الشركات الوقوف على قدميها بمجرد انتهاء الأزمة دون الحاجة للبحث عن موظفين جدد وتدريبهم. وقد يفضل الموظفون المسرحون مؤقتا العودة لوظائفهم القديمة بدلا من الاضطرار للبحث عن وظيفة جديدة.
لكن الحكومة عاجلا أو آجلا ستتوقف عن دعم أجور الموظفين، وسيكون القرار بيد أصحاب العمل إما أن يسرحوا موظفيهم للأبد أو أن يحتفظوا بهم.
وتقول بنتام إن الاقتصاد تلقى صفعة قوية بالتأكيد، لكن الخسائر لم تتضح بعد، فبعض الناس حصلوا على موافقة من البنوك لتأجيل سداد أقساط الرهن العقاري أو أقساط الائتمان لبضعة أشهر، وهذا يعني أن الخسائر ستظهر لاحقا، وستكون فادحة. وفي النهاية سنشهد اضطرابات في القطاع المالي مجددا، وسيستغرق تعافي القطاع المالي من الأزمة فترة تتراوح بين ستة و12 شهرا.
ورغم رفع القيود عن المتاجر والمطاعم ودور السينما في المملكة المتحدة، فإنها لم تشهد رواجا بعد. فدور السينما على سبيل المثال، تحتاج لجذب الرواد بأفلام استثنائية ضخمة الإنتاج، لكن موزعي الأفلام يؤجلون طرح أفلامهم في الوقت الراهن.
ويرى موزعو الأفلام الملحمية أنه من الأفضل الانتظار لتقييم مدى رغبة الجمهور في الذهاب إلى دور السينما أو حتى تقل إجراءات التباعد الاجتماعي لزيادة كثافة دور السينما. ولهذا تأجل طرح فيلم “تينيت” (عقيدة)، وقررت ديزني طرح فيلم “مولان” عبر منصتها للبث المباشر عبر الإنترنت.
وهذا يجسد الفارق بين صدمة العرض وصدمة الطلب.
العرض مقابل الطلب
تنتج صدمة الطلب عن انخفاض في الطلب على المنتجات بسبب تراجع مستوى الدخل. وتقول فيرونيكا غويريري، أستاذة الاقتصاد بكلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، “إن الحل في هذه الحالة هو تحفيز الاقتصاد”.
وقد لجأت بالفعل بعض الدول إلى تحفيز الاقتصاد في فترات ركود سابقة، مثل أستراليا في عام 2008، بمنح الأسر نقودا وتشجيعهم على الإنفاق لتحريك عجلة الاقتصاد.
لكن المشكلة الآن، بحسب غويريري، ليست في انخفاض الطلب فحسب، بل أيضا في نقص السلع، لأن الشركات توقفت عن العمل. وهذا ما يسمى صدمة العرض. وتقول غويريري: “إذا أعطيت الناس المزيد من المال قد ترفع الشركات الأسعار، وهذا سيؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم”.
وعلى النقيض، فإن انخفاض التضخم يزيد من قدرة الناس الشرائية في فترة الركود، ما داموا يتقاضون أجورا من وظائفهم. ويبلغ معدل التضخم الآن 0.65 في المئة في الولايات المتحدة، و0.8 في المملكة المتحدة، لكنه قد يتغير في حال تسببت خطط دعم الاقتصاد التي قدمتها الحكومة في حدوث صدمة في العرض.
وتنتج صدمات العرض، عن توافر المال مع المستهلكين، وعدم قدرتهم على إنفاقه بسبب إغلاق المتاجر أو اشتعال الأسعار. فعندما ارتفعت أسعار النفط، زادت كلفة إنتاج السلع التي يحتاج تصنيعها للنفط، وتحمل المستهلك في النهاية هذه التكلفة الإضافية.
لكن في الأزمة الحالية، اقترنت صدمة الطلب بصدمة في العرض بسبب دعم أجور العمال وتوقف العمل في بعض القطاعات، ولهذا من الصعب التنبؤ بنتائج الإجراءات الحكومية الأخيرة لإنقاذ الاقتصاد.
أين الفرص؟
تعهدت البنوك المركزية حول العالم بوضع خطط لتحفيز الاقتصاد تصل قيمتها الإجمالية إلى أربعة تريليونات دولار، في صورة توفير السيولة والتيسير الكمي (ضخ أموال في الاقتصاد لزيادة النشاط الاقتصادي) وتخفيض معدلات الفائدة.
وترى بنتام أن هذه الأزمة قد تمثل فرصة سانحة لإصلاح بعض الجوانب السلبية في النظام الاقتصادي، للمضي على طريق التعافي. وتقول: “إن نقص تمويل الخدمات الاجتماعية ورعاية الأطفال ورعاية الأقارب المرضى، تمثل عبئا ثقيلا على المرأة على سبيل المثال، وتعوق قدرتها على الإنتاج. وربما يكون الحل أن نوجه الاستثمارات نحو تحسين الخدمات التي تحفز إنتاجية الفئات المهملة في المجتمع”.
وتقول بنتام: “لقد اكتشفنا أن النظام الاقتصادي المعاصر ليس مثاليا كما كنا نظن على مدى القرن الماضي، فإن الثروات لا توزع بالتساوي لكي يزداد الجميع ثراء”.
وتضرب بنتام مثالا بخطة التعافي التي وضعتها الحكومة النيوزيلندية، إذ أولت اهتماما بحل مشاكل ارتفاع معدل السجناء، وانتحار المراهقين والتمييز ضد شعب الماوري. وذكر التقرير أن: “التعافي من أزمة كورونا المستجد يتيح فرصة لن تتكرر لمعالجة أوجه انعدام المساواة في المجتمع، من خلال إصلاح الاقتصاد”.
وتقول بنتام إن النموذج النيوزيلندي يقترح أن تكون سعادة الفرد وجودة حياته هما المعيار لقياس النمو الاقتصادي، وهذا يذكرنا بتعريف أرسطو للاقتصاد بأنه الحصول على الموارد لعيش حياة سعيدة وتحقيق الازدهار.
وتقول بروبر إن فيروس كورونا كشف عن أوجه انعدام المساواة في المجتمع، لأن الفئات الأكثر فقرا كانت أكثر عرضة للمعاناة من المرض والعمل في مجال الرعاية الصحية”.
وقد يمثل الركود أيضا فرصة لاتخاذ خطوات جادة لمواجهة تغير المناخ، إذ أعلنت ألمانيا عن خطة لتسريع تعافي الاقتصاد بقيمة 130 مليار يورو، خصصت ثلثها للاستثمارات الخضراء.
وفي خضم الكساد الكبير، راعى الرئيس الأسبق فرانكلين روزفيلت زيادة مساحة المتنزهات الخضراء عند وضع خطة التعافي من الأزمة.
وتقول بروبر إن المشروعات الخضراء تحتاج للكثير من العمال، لإعادة تصميم المنازل والشوارع لتصبح أقل إهدارا للموارد، ومن ثم ستسهم في توظيف الكثير من العمال.
وتقول بروبر إن هذا قد يكون سببا للتفاؤل، فتعثر الاقتصادات العالمية دفع الحكومات حول العالم للاهتمام بالمشروعات الخضراء عند وضع خطط لتسريع تعافي الاقتصاد.
ورغم أن هناك فرصا عديدة لإصلاح الجوانب السلبية في النظام الاقتصادي عند التخطيط للخروج من الأزمة، فإن السؤال الآن هو: كيف سيتصرف قادة العالم بعد ذلك؟
رابط المصدر: