سيكون من دواعي الارتياح الاعتقاد بأن “كوفيد-19” حدث لن يتكرر في العمر. سنلعن حظنا السيئ، ثم نتطلع عموماً للعودة إلى الوضع الطبيعي.
لكن للأسف، هذا مجرد خيال، لأن “كورونا ” ليس حدثاً عابراً، بل جزء من اتجاه نحو تحديات صحية عالمية متنامية، ما يشكل تهديداً مستمراً ومتنامياً لحياتنا واقتصادنا. لذا، لن تكون هناك عودة إلى الوضع الطبيعي.
يمثل “كوفيد-19” أحد أعراض عالم أصبح فيه الأمن الصحي هشاً للغاية. ويُبيّن تحليل أنجزه “المنتدى الاقتصادي العالمي” أن عدد البلدان التي أبلغت عن “تفشي مرض كبير،” في أي عام من الأعوام، قد تضاعف الآن منذ عام 2010. ويثير هذا التسارع القلق، لأنه يحاكي تقريباً الطريقة السريعة التي تنتشر بها أمراض مثل “كوفيد-19”.
في المقابل، ليست الأوبئة وحدها التي تشكل تهديداً. إن مقاومة مضادات الميكروبات، أي قدرة الأمراض على الصمود في وجه المضادات الحيوية، ما زالت تشكّل تهديداً كبيراً لصحة الإنسان. ويرتبط هذا حالياً بحوالي 700 ألف وفاة سنوياً على مستوى العالم. لكن السيناريو المدمّر يتمثل في عودة أمراض السل، والجروح الملتهبة، والالتهاب الرئوي، مرّة أخرى لتصبح أمراضاً قاتلة رئيسة.
وحتى لو استطعنا تجنب هذا المصير البائس، سيتمثل عبء المرض في تبدّله بطرق تلقي بتحديات جسيمة. فمثلاً، ما زال معدل الوفيات المرتبط بالخرف يرتفع بشكل حاد، في غياب علاج له حتى الآن. وكذلك ترتفع باستمرار تأثيرات الصحة العقلية، ما يقلل جودة الحياة (التي يحظى بها الإنسان).
لا يوجد إجراء واحد يضمن قدرة المملكة المتحدة على الصمود. لكن هناك عدد قليل من شبكات الأمان الأكثر فعالية من البحث والتطوير. فقد أسهم التقدم العلمي، والتكنولوجي أكثر من كل شيء آخر في إطالة، وتحسين جودة الحياة البشرية في التاريخ الحديث، بفضل البنسلين واللقاحات، وتضاعفت أعداد الناجين من السرطان على مدى الأربعين سنة الماضية. ولقد كان خطاب الحكومة مطمئناً. إذ تحدث رئيس الوزراء عن “دعم العلم بقوة” والتحوّل إلى “قوة علمية عظمى”، وبناء “اقتصاد قائم على العلم”. وقد أدرك الدور الهام الذي سيلعبه البحث والتطوير في فترة ما بعد “كوفيد-19”.
في المقابل، فإن تنفيذ مثل هذه الالتزامات لن يكون يسيراً. غالباً ما كانت المملكة المتحدة في طليعة المبتكرين في مجال الصحة، بداية من [العالمين] واتسون American biologist James Watson، وكريك English physicist Francis Crick اللذين اكتشفا بنية الحمض الوراثي النووي، إلى فريدريك سانجر الذي صمّم طريقة لقراءة الجينوم البشري، إلى الطب الجينومي الحديث. لكن، وضعنا اليوم أصبح مهدداً. فقد استثمرنا القليل جداً، وعلى نطاق ضيق للغاية منذ ثمانينيات القرن العشرين، في حين ظهر منافسون جدد على الصعيد الدولي وهم مستعدون لانتزاع عرشنا.
لذا لن يكون العمل كالعادة كافياً لإبقاء المملكة المتحدة في الصدارة. يجب علينا الارتقاء بنهجنا وتحسينه. وهذا يعني معالجة ثلاثة تحديات سمحنا لها بالاستفحال.
أولاً، نحتاج إلى زيادة الاستثمار بسرعة. وببساطة، لا تنفق المملكة المتحدة ما يكفي على العلم. وبالمقارنة مع متوسط الإنفاق في الاقتصادات المتقدمة، عبر جميع أشكال البحث والتطوير، يبلغ إجمالي نقص الاستثمار لدينا 222 مليار جنيه إسترليني (حوالي 260 مليون دولار أميركي) منذ عام 1985. ويتطلب تصحيح ذلك جذب الاستثمار العالمي الخاص، واستثمار المزيد من المال العام، ودعم جمعياتنا الخيرية للأبحاث الطبية، التي تعرّض الكثير منها لضربات مالية هائلة خلال أزمة “كوفيد-19”.
ثانياً، نحتاج إلى رفع مستوى الفرص وتوسيع نطاقها في جميع أنحاء البلاد. وتتصرف السياسة الحالية كما لو أن المملكة المتحدة مجرد ثلاث مدن هي لندن وأكسفورد وكامبريدج. وقد أظهرت الأبحاث الأخيرة التي أجراها “معهد أبحاث السياسات العامة” أن الشمال يتلقى نصف ما يتلقاه الجنوب في مجال تمويل الأبحاث الصحية. ومع ذلك، يملك الشمال نقاط قوة هائلة، من التكنولوجيا الطبية في “يوركشاير”، إلى البيانات الصحية في “مانشستر”، إلى اقتصادات الصحة في “تاينسايد”. إنهم بحاجة إلى دعم يماثل ما يحتاجه “المثلث الذهبي”.
أخيراً، نحن بحاجة إلى تحسين ربط البحث والتطوير بالاحتياجات الصحية في البلد. وهذا يعني البحث والتطوير في المجالات التي جرى تجاهلها تاريخياً. ومثلاً، تعد الأمراض العقلية أحد أكبر التحديات التي تواجه البلد، لكن الاستثمار في البحث والتطوير لم يواكب ذلك. لذا، يجب تطوير آليات تسهم في تسريع أنواع البحوث والتطوير التي يريدها ويحتاجها الناس في هذا البلد، بما في ذلك الاستعداد للأمراض الوبائية في المستقبل.
وحاضراً، ثمة نقص في تحفيز البحث في الحوادث الكارثية الضئيلة الاحتمال، على غرار “كوفيد-19″، ولن يتحقق إلا إذا كانت الحكومة مستعدة للالتزام به وتمويله والدفع به قدماً.
لقد سلّط “كوفيد-19” الضوء على هشاشة الصحة في هذا البلد، والحاجة إلى الاستثمار في العلوم التي ستعزز قدرتنا على الصمود. إن دخول عشرينيات هذا القرن من دون استراتيجية تقدمية للبحث والتطوير في المجال الصحي سيكون بمثابة بناء منزل على بركان من دون الحصول على تأمين، وسيكون ذلك بمثابة دعوة إلى وقوع كارثة.
( كريس توماس باحث في مجال الصحة في “معهد أبحاث السياسات العامة” البريطاني)
رابط المصدر: