العلاقة بين القوى المختلفة في الغرب علاقة تنافس؛ حيث يسيطر الأقوى. المرجعية الفلسفية والقيم المركزية تفرض هذا النمط المرجعي لحسم الخلافات، والذي انتقل إطاره من الداروينية البيولوجية إلى الداروينية الطبيعية، وزكّتها مفاهيم ندرة الموارد والتنافس من أجل الإشباع وتجميع المصالح، إلى أن انتقلت الفكرة عبر الزمن لتكريس النزعة الكلاسيكية التي صك مفاهيمها الأولى آدم سميث في “ثروة الأمم”، وتطور الأمر ليصبح عقيدة راسخة في الغرب برغم الديالكتيك الإصلاحي الذي دعم ظهور تيارات الرفاه والطريق الثالث[1].
النزعة الكلاسيكية تلك تبلورت في الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان”، حيث تمترست الدولة بقوة طيلة 3 عقود داخل المبدأ الذي أرساه “ريجان”، والذي يحمل كراهية انتقائية لتدخل الدولة في المجال العام عبر الإنفاق، وتبلورت هذه الكراهية حول البرامج الاجتماعية بصورة خاصة؛ ومتطلباتها من الضرائب، فيما شهد الواقع العملي صورة مناقضة لتطبيق هذا المبدأ تمثلت في تزايد الإنفاق العام على التسلح؛ وعلى ضمان استقرار الشركات الكبرى، وبخاصة في صناعات النفط والسلاح. وقد تمدد هذا المبدأ إلى أوروبا من خلال بوابة المرأة الحديدية البريطانية “مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء المملكة المتحدة (1975 – 1990)[2]، حيث تولدت أشكال متطرفة من النيوليبرالية، تحت مسمى “أيديولوجية السوق الحر” التي ابتكرها اقتصاديو “جامعة شيكاغو” مثل “ميلتون فريدمان” و”جاري بيكر و”جورج ستيجلر” خلال ثمانينيات القرن العشرين، معتبرين أن أية حكومات ضخمة ذات سياسات تدخلية ستشكل عائقا أمام النمو الاقتصادي والتقدم الإنساني، وتطور الأمر بحسب المفكر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما” إلى مذهب “ليبرتاري” متصلب يكيل العداء لتدخل الدولة في ظل جيل من المثقفين المحافظين، لا سيما في الولايات المتحدة[3]. ومثل هذا – المبدأ – قاعدة رئيسة في السياسة الغربية في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتمدد بعد ذلك في أوروبا بدرجات متفاوتة[4].
ويعتبر علماء الاجتماع والسياسة في الولايات المتحدة وأوروبا على نحو ما سنرى أن فيروس «كوفيد-19» يمثل نقطة انعطاف بالنسبة لحضور واستقرار “مبدأ ريجان”؛ تماما كما مثل مبدأ “الاتفاق الجديد” الذي أقره الرئيس الأمريكي الأسبق “فرانكلين روزفلت”[5]، أو برنامج حكومة حزب العمال البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية[6]. وقد بدا أن التراجع عن “مبدأ ريجان” أكبر في هاتين الدولتين اللتين كانتا تشهدان تراجعا أكبر لدور الدولة قبيل ظهور الجائحة[7]، إلى الحد الذي دفع بعض المفكرين لوصف تحركات هاتين الدولتين بأنها كانت تشهد تحركات لدحر أنظمة الرعاية الاجتماعية القائمة منذ فترة طويلة، وهو الأمر الذي يجد أيقونته في الهجوم العنيف والمتواصل للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على برنامج الرعاية الاجتماعية الخاص بسلفه “باراك أوباما”؛ فيما تسعى الدولتان الآن إلى إعادة تجميع أوراق المشروعات السابقة من هذه الأنظمة بأسرع أداء ممكن لمواجهة تداعيات الجائحة[8]. الإجراءات غير المسبوقة في الولايات المتحدة وأوروبا – كما عبّر العالم – هي التي دفعت للتساؤل عن مستقبل تدخلات الدولة الليبرالية في الاقتصاد والبرامج الاجتماعية وغيرها من محاور الخلاف بين التوجهات اليمينية واليسارية.
وقد استندت التصورات المختلفة التي تعالج دور الدولة؛ أو تناقش احتمالية ديمومته من خلال حدوث تطور في تصورات أدوار الدولة، استندت إلى وجود قناعات مستقرة لدى السلطات الصحية في دول كثيرة متقدمة مفادها أن تعرض الكوكب لحالة وبائية ناجمة عن فيروس يصيب الجهاز التنفسي حالة واردة، ومحتملة في المستقبل كذلك بعد انقضاء جائحة «كوفيد-19». ويدلل على ذلك المفكر البريطاني برايان وولش؛ بإشارته لمحاكاة وباء تنفسي في الولايات المتحدة في أبريل 2017، حيث كتب عنه تحذيرا صادرا عن العلماء الأمريكيين بأنهم غير مستعدين لوباء قادم[9]. وفي أكتوبر 2019، حضر نفس الكاتب محاكاة أخرى أجرتها إدارة الصحة بالولايات المتحدة حول فيروس تنفسي قادم من الصين، حملت المحاكاة الأمريكية اسم “احتواء كريمسون”؛ حيث “كريمسون” هو الاسم الذي اتخذه الوباء في المحاكاة الأمريكية. ويشير الكاتب على توالي التحذيرات من الخبراء والمتخصصين عبر وسائل الإعلام من أن اجتياح وباء تنفسي للكوكب ليس إلا مسألة وقت[10]. ويقود هذا التناول المستدام المفكرين لوضع قضية الدور الاجتماعي للدولة على رأس اهتماماتهم خلال هذه الفترة.
وتحاول هذه الدراسة – في هذا الإطار – أن ترصد حالة الحوار التي نشأت بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة، والتي يرجح مفكرون أن الخلاف بينهما لن يعود كسابق عهده بين التزام بـ “مبدأ ريجان”؛ ومحاولات اختراق هذا المبدأ؛ مع الحفاظ على جوهره. فالنقاش الآن يدور حول تجاوز هذا المبدأ؛ مستبعدين في الولايات المتحدة على سبيل المثال أن يتجه دونالد ترامب – حال إعادة انتخابه التي لم تزل قيد التكهن – للتنكر لمئات المليارات (أكثر من 2 ترليون دولار) التي أنفقها لتدارك الوضع بعد تفاقمه، ومتوقعين خطوات أعمق في حال انتخاب المرشح الديمقراطي “جو بايدن”، ومتوقعين تغيرات أكثر راديكالية في حال فاز الديمقراطيون بغالبية مجلس الشيوخ[11]. ولا يختلف الحال في المملكة المتحدة كذلك. فالمفكرون البريطانيون يشككون في أن يكون بمقدور رئيس وزراء المملكة المتحدة “بوريس جونسون” القدرة على المساومة حول برنامج الرعاية الصحية في بلاده، وبخاصة بعدما أسهم هذا البرنامج في إنقاذ حياته[12]. هذا فضلا عن التقدم الذي حققه الاتحاد الأوروبي في أبريل من هذا العام عبر شبكة واسعة من برامج الحماية التي اتخذها لصالح الدول والشركات والموظفين والعمال[13].
تعالج الدراسة موضوعها من خلال اختبار تأثير «فيروس كوفيد-19» على الحوار بين اليمين واليسار عبر 3 محاور هي محور السياسات الاجتماعية ما بعد كورونا، والسياسات الاقتصادية، ووضع الطبقة العاملة، ورؤية التعاون الدولي.
المحور الأول: السياسات الاجتماعية
يمكن القول بشكل عام بأن الحوار بين يمين الغرب ويساره قد انقسم إلى حالتين، أولاهما المسار الأوروبي في صيغته الاتحادية، والذي أخذ شكلا من أشكال الاعتراف الصارم بالأزمة منذ بداياتها، وهو ما دفعها لإيلاء الجائحة أهميتها، ما عزّز من قدرة ألمانيا على التصدي للجائحة، وبكر بأدوار التدخل من جانب الدولة لدعم الاقتصاد وحمايته، ولعل هذه الجدية ما دفعت لظهور ما أسماه قادة أوروبيون أنانية دولية في إدارة الجائحة. أما المسار الثاني الذي يحوي تفاصيل أكثر فهو المسار الأنجلوساكسوني (الأمريكي البريطاني)، والذي بدوره مر بمراحل ثلاثة، أولها مرحلة الاختلاف في تقدير حجم الأزمة، ثم مرحلة التوافق على خطورتها ومواجهتها، وثالثها مرحلة الاختلاف في رؤية المستقبل.
فعلى أحد جوانب العقل الأمريكي، عزا المفكر الأمريكي “ناعوم تشومسكي” حالة التفشي التي بلغها فيروس كوفيد-19 إلى طبيعة النظام الاقتصادي الذي يحكم “العالم”، ولفت إلى البون بين قدرة شركات الأدوية على إنتاج لقاح سوي لمواجهة فيروس الإنفلوانزا، وبين عدم قيامهم بالمثل مع تبعات «فيروس سارس» الذي نبه العالم لوجود جائحة مرتقبة من نفس النوع؛ مفسرا هذا التقاعس بأن إشارات السوق لا تفيد بوجود “أرباح” متوقعة من الإعداد لمواجهة “كارثة محتملة”. وهكذا، فإن المنهج النيوليبرالي في الحكم أدى – من وجهة نظر ناعوم تشومسكي – لانتشار الجائحة.
وفي مواجهة نموذج شركات الأدوية، لفت “تشومسكي” إلى النموذج المضاد في الولايات المتحدة نفسها، مذكرا بتقديم الرئيس الأمريكي ميزانيته الجديدة في فبراير 2020، مضمنا إياها زيادة في مخصصات إنتاج الوقود الأحفوري، وزيادة في المخصصات العسكرية، مع اقتطاعات من موازنات مركز مكافحة الأمراض، ومؤسسات حكومية أخرى، ولافتا إلى أن إدارته لم تكتف بذلك؛ بل قامت بخفض الموازنة الصحية مرة أخرى في منتصف الجائحة التي كانت تتفشى بصورة واسعة قبل أن يتدارك الأمر لاحقا بصورة نسبية، الأمر الذي جعل من الولايات المتحدة مركزا عالميا للإصابة بالوباء. وفي إكمال لملامح الصورة الساخرة التي يرسمها تشومسكي، أعاد للذهن مجددا اتجاه هذه الإدارة لإلقاء اللوم على تارة على الصين، وتارة على “منظمة الصحة العالمية؛ الأمر الذي بلغ حد قطع التمويل عنها، مع توفير وسائل الإعلام المؤيدة للرئيس قدرا وافرا من التدفق اللازم لإسباغ الشرعية على هذين المسارين من الإجراءات[14].
وعلى الجانب الآخر من العقل الأمريكي، وفي المرحلة الثانية من الحوار، وبرغم التشككات التي تحيط بالأدوار التدخلية للدولة الغربية خلال جائحة «كوفيد-19»، والتي دفعت مفكرين غربيين كبار مثل “فرانسيس فوكوياما، للتخوف على مستقبل الديمقراطية الغربية، إلا أن قوى اليمين الأمريكي ساندت التحول في توجه “ترامب”، وأيدت الخطوات التي اتخذتها إدارته والتوافق الجمهوري – الديمقراطي في الكونجرس الأمريكي من ورائها (أو من أمامها)، عبر عدة آليات كان من أبرز ملامحها توظيف “التخويف من بدائل عدم التدخل”، فمن بين سيل التخويفات من مسار عدم التدخل، لفت الخبراء في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ولسان حاله مجلة “Foreign Affairs” إلى أن عمق الأزمة تسبب في أن تخرج كارتلات المخدرات في المكسيك – على سبيل المثال – لتقديم العون للمواطنين.
لا يرى الخبراء في هكذا سلوك ضربا من الرأفة والتعاضد بقدر ما يرون أنه استثمار في “ضعف الدولة”، واتجاه “للحلول محلها”. فأولئك يستغلون ضعف الدولة لتلبية احتياجات المواطنين، أو للظهور بهذا المظهر دعما لـ “شرعيتهم”. وتنظر العين الغربية إلى نفس التدخل من جانب “حزب الله” مع الدولة والمواطن في لبنان بنفس العين. وبلع التخويف من البدائل ذروته بالإشارة إلى أن تنظيم “داعش” الإرهابي استغل هذه الأزمة كذلك لزيادة “شرعيته”، وقام بتهريب مساعدات إلى معسكرات اللاجئين في مناطق مختلفة، وزاد من معدل التجنيد لعضويته، ووجه جهوده لمهاجمة أهداف جديدة كما حدث في جزر المالديف وموزمبيق، كما زاد من قوة محتواه الناطق باللغة الإنجليزية داعياً لزيادة الهجمات على الغرب. هذا علاوة على الفورة في نشاط المجموعات اليمينية المتطرفة[15].
غير أن الخوف من “مصادر تهديد القيم” لم يكن وحده محرك الإدارة الأمريكية الشعبوية، فقد كان ثمة التخوف من المآل الانتخابي كذلك في الولايات المتحدة، ومن مصير حزب المحافظين في المملكة المتحدة مع اتساع نطاق الجائحة التي طالت رئيس الوزراء “بوريس جونسون” نفسه.
وفي هذا الإطار، يلفت مراقبون للمشهد الأمريكي النظر إلى الحملة القوية التي شنها المرشح الرئاسي الأمريكي السابق “بيرني ساندرز”؛ لصالح دعم خطط التدخل العديدة، والتي كان من أهم حصادها خطة “وول ستريت للإنقاذ”، والتي مرّر “الكونجرس الأمريكي” قطاعا واسعا منها في مارس الماضي، والتي أكد فيها “ساندرز” على ضرورة وجود برنامج رعاية صحية مجاني خاص بجائحة كورونا، علاوة على إجراءات أخرى مثل دفع مبلغ 2,000 دولار شهريا للعمال طيلة مدة استمرار الجائحة، وتوسيع نطاق التأمين ضد البطالة، ووقف عمليات الإخلاء، ووقف عمليات حبس الرهون العقارية، وتعليق الفوائد العقارية وفوائد الخدمات[16]. هذا فضلا عن حملة “قناع مجاني لكل إنسان في أمريكا”، والتي نشرها “ساندرز” أولا في في شبكة “سي إن إن”[17] ، بالتعاون مع النائب “آندي سلافيت”، ثم أعاد “ساندرز بمفرده نشرها في صحيفة “يو إس توداي”؛ بعد 3 أسابيع من نشرها في “سي إن إن”؛ ما يشير لوجود خطوط حمراء لتدخل الدولة، برغم التوافق على التدخل، والذي أدى لخطتي إنقاذ، وجهت أولاهما للشركات الكبرى وموظفيها وللأسر الأمريكية بقيمة 2 ترليون دولار[18]، ثم خطة إنعاش المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع الزراعة والمستشفيات الخاصة بقيمة 480 مليار دولار[19]، وهو نفس الموقف الذي شهدت المملكة المتحدة، والذي بلغ حد حجز فنادقها طيلة 12 أسبوعا لحماية المشردين من التعرض للجائحة؛ وهو البرنامج الذي طبقته فنلندا كذلك[20].
أطروحات اليسار الشعبوي، برغم أنها حافظت على “الثابت الريجاني”؛ إلا أن مراقبين رأوا فيها أثرا أكبر من دفع إدارة “ترامب” لتجاوز “مبدأ ريجان” نسبيا أملا في تجميل صورة انتخابات نوفمبر القادمة، حيث إنها وصفت بأنها منحت قبلة الحياة للسياسيين في واشنطن، وجملت صورة الليبرالية في أعين الملايين[21].
المرحلة الثالثة من مراحل الحوار / الخلاف اليميني اليساري، والتي تتعلق بـ”مرحلة ما بعد الجائحة”؛ تبرز في الولايات المتحدة بصورة أكبر منها في المملكة المتحدة، فإنها تتعلق بالإجابة على سؤال: هل يستمر التدخل الإنقاذي للدولة بعد الجائحة أم يختفي. وبرغم أن التأكيد على هذا السؤال يرتبط في أذهان البعض بتغييب سؤال “فوكوياما” حول كيفية الحفاظ على الديمقراطية، أو بالأحرى قيام التخطيط “المتوقع” لهذه الاستمرارية على توازن ما بين السلطوية وقدرة الحكومة على السيطرة[22].
إجابة الأكاديميين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على سؤال الاستمرارية أتت بتأكيد استمرار الدور الاجتماعي للدولة في كلا البلدين، حيث أشار الخبراء إلى أن هناك اتساع مطرد في دور الدول التي بدأت في تطبيق إجراءات الحرب على الاقتصاد، وطلبت في المقابل وجود تماسك يضاهي “حالة الحرب”. وحالة الحرب تغير من أدوار الحكومات بطبيعة الحال، وبخاصة في تفاهمات ما بعد الحرب، مثل “عقد فرانكلين روزفلت الجديد” وبرنامج الحكومة العمالية البريطانية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وارتأوا أنه يمكن لفيروس «كوفيد-19» أن يؤدي لمثل هذا النموذج. فالاستجابات للجائحة تشي بأنه لا يوجد ثابت فيما يتعلق بتخصيص الموارد، وأن ثمة ملامح كثيرة تتغير؛ وبسرعة[23]، وربطوا ما بين هذه الاستمرارية وبين طول أمد الجائحة الذي من شأنه أن يؤدي إلى مراجعة عامة لأدوار الدولة، وهذا ما سيؤدي إلى أن يكون التغيير مدفوعا من كلا التيارين، وليس من الجانب الديمقراطي فقط[24]، بل رأى بعض الأكاديميين أن إدارة “ترامب” قد تُزايد على الديمقراطيين على أرضية برامج الرعاية الاجتماعية بسبب توقيعاته على شيكات “إعانة العمال غير التقليديين”، وخطة الإنقاذ” التي أسماها “برنامج دعم المواطن الأمريكي”، والتي كلفت خزانته نحو 2 ترليون دولار[25].
هذا الطرح يجعل الخلاف بين التوجهين؛ اليميني واليساري ينطلق من “درجة التدخل” وليس من “مبدأ التدخل”، حيث رأى باحثون أن تغييرا نوعيا متوقعا في حال تمكن الديمقراطيون من السيطرة على البيت الأبيض عبر “جو بايدن”، وأضافوا أن هذا التحول سيكون قويا في حال سيطر الديمقراطيون كذلك على مجلس الشيوخ. ومرد ذلك يرجع إلى التحالف القوي الآخذ في التبلور بين اليسار والوسط في الحزب الديمقراطي[26].
المحور الثاني: السياسات الاقتصادية
من المهم الإشارة إلى أن الحديث عن السياسات الاجتماعية ينصرف عادة إلى دور مركز الدولة أو الحكومة الاتحادية، إذ إن الأطراف الحكومية، حكومات الولايات /المحافظات /الأقاليم، أقل قدرة على زيادة الإنفاق العام من الحكومة الاتحادية، حيث إن انخفاض عوائد الضرائب – كجزء من حزمة الإجراءات لمواجهة الجائحة – من دون توفر تمويل اتحادي إضافي ستقابله بالضرورة تقليصات في النفقات الأساسية للولايات[27]، وهو ما يمثل مصدر قلق للمستويات المحلية التي لا يحق لها إنتاج فقاعات ائتمان أو طباعة النقود على أساس وجود غطاء من الناتج المحلي. وبشكل عام، وفيما يتعلق بتداعيات جائحة «كوفيد-19» اقتصاديا، أشار البروفيسور سايمون مير، الأستاذ في “جامعة شوري” البريطانية، في تحقيقه المثير لقسم المستقبليات بشبكة “بي بي سي” إلى 4 سيناريوهات لمستقبل الدولة في عالم ما بعد «كوفيد-19»”، هذه السيناريوهات هي[28]:
- سيناريو الانزلاق نحو البربرية.
- التوجه الجاد نحو رأسمالية الدولة.
- الشروع في نموذج يساري راديكالي للدولة.
- الاتجاه نحو نموذج بناء مجتمع كبير مبني على التعاضد.
وفي تقدير الباحث، أن النماذج الأربعة تُفضي إلى تدخل قوي للدولة في المجال الاقتصادي. وإذا كان التوجهان المتعلقان برأسمالية الدولة والنموذج الاشتراكي الراديكالي المتجاوز لصورة دولة الرفاه أو نموذج يسار الوسط المتعارف عليهما يقتضيان بحكم التعريف دورا راديكاليا اقتصاديا للدولة؛ وإن كان احتمال التوجه الاشتراكي الراديكالي صعب الاحتمال في الغرب، فإن نموذج البربرية سوف يقتضي بطبيعة الحال وجود دور قوي للدولة في ضبط المجال الاقتصادي، في حين أن نموذج المجتمع المتعاضد يحتمل تدخلا قويا للدولة؛ كما يحتمل نموذجا ليبراليا تنكسر فيه حدة النيوليبرالية كما تنبأ المفكر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما”[29]. وأيا ما كان من أمر هذه السيناريوهات، فإن ثمة شواهد على أن هناك اتساع لدور الدولة في الديمقراطيات الغربية.
فمن ناحية، وفي دراسة أعدها خبراء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وهي منظمة تضم في عضويتها غالبية الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وعدد من الدول الإقيانوسية، واليابان، أوضحت بالبيانات أن هناك اتجاه عام لدى دول المنظمة بزيادة ملكية المشروعات، وهو اهتمام مطرد، يوضحه التنامي المطرد والذي يعد من أكثر الاتجاهات نموا بين المشروعات متعددة الجنسيات في العقدين الأخيرين، ويتركز في القطاعات الرئيسة (Upstream Sectors) مثل الطاقة والسكك الحديدة والتمويل والاتصالات، فيما يقل عدد الدول التي يمتد فيها نطاق المشروعات المملوكة للدولة إلى قطاعي التصنيع والقطاع الخدمي[30]. ويشير الباحثون إلى أن هذا القطاع من قطاعات الملكية يميل للتزايد خلال أزمة «كوفيد-19»، وتأتي هذه الزيادة من خلال تدخل الدولة لمساندة الشركات عبر آليات التمويل المختلفة[31].
ومن جهة أخرى، فإن إجراءات التدخل بالدعم التي تتخذها الدولة قد زادت بشكل كبير، حتى في إطار التوجهات اليمينية المحافظة. ففي فرنسا على سبيل المثال، أعلنت الحكومة الفرنسية، في 17 مارس 2020، عن مساعدات بقيمة 45 مليار يورو (50 مليار دولار تقريبا)؛ لدعم الشركات والموظفين. وكانت فرنسا قد اعتبرت أن الفيروس يمثل “حربا اقتصادية ومالية”. وفي هذا الإطار، أعلنت الحكومة أنها مستعدة إلى اللجوء “للسبل كافة”، ومن ضمنها “التأميم” و”المساهمة في رأس المال” أو “شراء الأسهم”، من أجل “حماية” الشركات الفرنسية المهددة جراء تفشي فيروس كورونا المستجد[32]. كما أقرت الولايات المتحدة خطتين للدعم الاقتصادي، تمثلت أولاهما في موافقة الكونجرس، في 27 مارس، على “حزمة إنقاذ” قيمتها 2.2 تريليون دولار؛ تعد الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة؛ لمساعدة الأفراد والشركات في مواجهة التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي فيروس كورونا، وهي الخطة التي سارع الرئيس “ترامب” إلى توقيعها كي تصبح قانونا ساريا[33]. وفي أعقابها مباشرة، أقر “ترامب” خطة جديدة” قيمتها 483 مليار دولار، وزعت ما بين 320 مليار دولار لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، و60 مليار دولار من القروض الموجهة لقطاعات أخرى منكوبة مثل الزراعة، و75 مليار دولار مساعدة للمستشفيات الخاصة، علاوة على 25 مليارا لتعزيز الكشف عن الفيروس[34]، في محاولة لاحتواء الضربة التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي، وهي الأقوى منذ الكساد العظيم في العام 1929، والذي أدى لتدهور الناتج المحلي الإجمالي بنحو 32.9%؛ بحسب ما نشره المنتدى الاقتصادي العالمي؛ وهو الانكماش الأضخم منذ بدء الاقتصاد الأمريكي في التعافي في عام 1947[35]. وحذا حذو الدولتين دول عدة في أوروبا، علاوة على خطة الاتحاد الأوروبي للإنقاذ والتي بلغت قيمتها 500 مليار يورو[36].
ومن جهة ثالثة، كان الإجراء الأكثر راديكالية، والذي يمثل كسرا لقواعد السوق الحر بحسب متون “مدرسة شيكاغو” الاقتصادية تمثل في إجراءات الحماية الصارمة ضد بيع الشركات. ففي نهاية أبريل، أعلن وزير الاقتصاد الفرنسي عن إجراءات رقابية على المستثمرين غير الأوروبيين الذين يشترون حصصا في شركات فرنسية كبرى تضررت بشدة جراء جائحة «كوفيد-19»، حيث أعلنت الوزارة منع عمليات استحواذ تتجاوز 25% من رأسمال شركات في بعض القطاعات الإستراتيجية مثل الدفاع والطاقة والصناعات الجوية والفضائية والنقل، وحتى قطاع التكنولوجيا الحيوية. وبررت الحكومة الفرنسية هذا الإجراء بوجود محاولات لاستغلال الوضع الضعيف لبعض الشركات من أجل شرائها بسعر زهيد[37].
وفي نفس السياق كذلك، وبعد إجراءات صارمة اتخذتها ألمانيا في عام 2018 بتشديد قواعدها المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية في بعض القطاعات، وفي إطار تعهد الحكومة الألمانية “بالوقوف إلى جانب شركاتها” في مواجهة المستثمرين الذين قد يأملون الآن في دخول غمار الاستثمار برؤوس أموال ضعيفة، طورت ألمانيا إجراءاتها الحمائية، حيث وافق مجلس الوزراء الألماني، في 8 أبريل، على تشريع يُسهل على السلطات منع عمليات الاستحواذ الأجنبية على الشركات المهمة استراتيجيًا. الإجراءات الجديدة خفضت عتبة فحص عروض الاستثمار، وتضمنت إجراءات لمنع عمليات الاستحواذ المحتملة، كما أنها تضمن قدرة السلطات الألمانية على مراقبة ومعرفة ما إذا كان الاستحواذ سيؤدي إلى “ضعف متوقع” في النظام العام أو الأمن العام، بدلاً من “التهديد الفعلي” لها في الوقت الحاضر، كما أنها ستمنع إتمام مبيعات الشركات أثناء دراسة السلطات للصفقات ومآلاتها، والأهم أن العروض تأتي في إطار تصور للأمن الاقتصادي الأوروبي، فرض التثبت من آثار الاستثمار على دول الاتحاد الأوروبي الأخرى ومشاريع الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى تأثيرها على الاقتصاد الألماني[38].
وإذا كان ثمة اتفاق بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهو نفس الحال في الدول الغربية، على دعم الشركات، فإن هذا التوجه يثير حفيظة قطاع من المفكرين الذين يرون في هذا الاتجاه نوع من تسليم الثروة لقلة من الشركات العملاقة غير المسؤولة، بدلا من توجيهها للمجتمع وحاجاته، ويرون أن أذرع هذه الشركات العملاقة في كلا الحزبين تؤدي لخضوع الحزبين لمطالب الشركات، وتمرير الثروة لها، وهو الأمر الذي كانت له سابقة إبان أزمة 2008، والتي ضغط فيها الحزبين لتمرير حزمة دعم بلغت 700 مليون دولار لشركات “وول ستريت”[39]. نفس الروح لفتت إليها “جانفييف ليج”، الأمين العام للمنظمة الدولية للشباب والطلبة من أجل المساواة، متهمة “الشعبوي اليساري” بيرني ساندرز بأن كل أطروحاته الراديكالية مؤسسة على “الإجماع الأمريكي”؛ في إشارة إلى “مبدأ ريجان”، ولا تمت لروح اليسار بصِلة[40]. وبرغم قناعة اليسار الراديكالي بإمكانية ابتلاع هذه الروح التدخلية في سياسة غالبية الدول، إلا أن ملامح المشهد الاقتصادي الثلاثة التي رصدناها عاليه تشي بأن هناك نوع من التحالف الذي يكاد أن يكون معلنا بين الدول الغربية والشركات. وما يقلق هذا القطاع من المفكرين أن هذا التحالف يكاد أن يبتلع المنظمات غير الحكومية كذلك بمستوياتها المختلفة مع التبرعات السخية التي تصدر عن رجال الأعمال مثل مؤسس شركة “مايكروسوفت” “بيل جيتس” (4.6 مليار دولار)[41]، و”وارن بافيت” (2.9 مليار دولار)، ومؤسس تويتر “جاك دورسي ” (مليار دولار)[42]. غير أنه لا يمكن أن إنكار الحاجة لمثل هذه التبرعات، ومثل هذه الأدوار التدخلية، التي يراها أصحاب هذا الطرح المتشكك – على مضض – مقبولة لمنع تهاوي أعمدة الاقتصاد الأمريكي، ويطرحون نفس أمل “فوكوياما” في ضرورة وجود أفكار جديدة لإنقاذ الرأسمالية الليبرالية من دون تعقيدات النيوليبرالية التي قادت الغرب لمأزق «كوفيد-19».
المحور الثالث: الحوار حول حال ومستقبل الطبقة العاملة
فيما يتعلق بالطبقة العاملة، ينقسم النقاش لعدة أقسام، بعضها ينصرف لسلامة وكفاءة الوضع الطبقي فيما انصرف بعضها للتساؤل عن إمكانية بناء العمال منخفضي الأجر لحركة اجتماعية جديدة تضغط من أجل ديمومة تدخل الدولة عبر شبكات الحماية. فيما ناقش البعض قضية تنظيم هذه الطبقة ودوره في المستقبل.
فعلى الصعيد الأول، يثير بعض المفكرين نقاشا حول سلامة التشكيل الطبقي للمجمتعات بعامة، والمجتمعات الغربية بخاصة. وفي الولايات المتحدة، وفي إطار جائحة «كوفيد-19»، وبحسب معهد “جالوب”، فإن 71% ممن يجنون دخلا يفوق 180 ألف دولار سنويا؛ يمكنهم العمل من المنزل خلال الجوائح، مقارنة بعدم استطاعة نحو 41% من أولئك الذين يجنون دخلا سنويا أقل من 24 ألف دولار من فعل الشئ نفسه، من أجل توقي الإصابة[43]. ووفق تحليل أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن ميسوري الحال يمكثون في بيوتهم فترة أطول، وبخاصة خلال أيام العمل، كما أنهم بدأوا في مزاولة التباعد الاجتماعي في وقت مبكر مقارنة بالعمال منخفضي الدخل[44].
وفي تطور لمناقشة نفس القضية، تخطى النقاش في بعض مراحله قضية ذهاب العمال محدودي الدخل إلى مقار عملهم، بما أنه من المهم توسيع نطاق العمل من دون أن يكون ثمة تجمعات واسعة، أو من دون أن يكون ثمة إمكانية للتعرض للإصابة عبر التوصيل الآمن. فبرغم الإجراءات الاحترازية، وبرغم الإغلاقات، ما زال ثمة حاجة لمن يقوم بقطاع واسع من الأعمال. فعلى صعيد التجارة، ثمة حاجة دائمة لمن يقوم باستلام البضائع من تجار الجملة، ومن يتولى نقلهم من الشاحنات إلى الأرفف أو المخازن، وغيرها من المهام التي لا يمكن أن يكون ثمة إمكانية لتفادي التواصل خلال تأديتها. ويقاس وضع هذه الأعمال على مختلف القطاعات الاقتصادية التي ستجد فيها دوما مهام لا يمكن تأديتها من دون اتصال. هذه الاعتبارات دفعت مفكرين لمناقشة “تعريف” العمال الأساسيين، وأدوارهم. فخلال أوقات الجائحة، فإن الذين يتوفر الطلب على خدماتهم بصورة أكبر أهمية ليسوا أولئك الذين يتلقون رواتب عالية بينما يجلسون في بيوتهم ليقوموا بكتابة “تويتات”، بل أولئك الذين يمكنونهم من كتابة هذه “التويتات”. وفي هذا الإطار، يسعى المفكرون لتفسير وفهم أسباب إضرابات هؤلاء العمال الذين يواجهون سعال الزبائن فيما أصحاب الشركات مختبئون في منازلهم الصيفية[45].
القضيتان تحملان احتمالا بالتغير. فالنقاش حول وضع الطبقة العاملة استدعى من بعض الباحثين البحث عن تاريخ تأثير الجوائح على الطبقة العاملة. وتشير الباحثة أولجا كازان إلى دراسة عن تأثير الأوبئة على أجور الطبقة العاملة، كشفت من خلالها أن الأوبئة صاحبة فضل في رد الاعتبار اقتصاديا لهذه الطبقة الاجتماعية، بدءا من “طاعون جاستنيان” في عام 541؛ والذي أدى إلى مضاعفة أجور العمال في الإمبراطورية الرومانية، وانتقالا إلى جائحة “الموت الأسود” التي دمرت أوروبا في العام 1300؛ والتي أدت لحصول عمال النسيج في شمال فرنسا على 3 زيادات في أجورهم في عام واحد. هذا فضلا عن تأثير الجوائح في مطلع القرن العشرين على إقرار الولايات المتحدة لحقوق العمال في الراحة المدفوعة الأجر، وغيرها من حقوق الحماية للعمال[46].
وفي مسار آخر، وبعيدا عن اعتبار “نصفة الطبقة العاملة”، يرى عدد من الخبراء أن انفجار الغضب بسبب هذا الوضع من شأنه أن يؤدي إلى تنامي المشاعر الشعبوية، لكنهم لا يرون ما إذا كان هذا التوجه الشعبوي سيكون في اتجاه اليسار على النحو الذي يمثله السيناتور “بيرني ساندرز”؛ أم سيكون شعبوية محافظة على النحو الذي يمثله الرئيس الأمريكي “ترامب”. فما ملامح هذين التوجهين. في هذا الإطار، من المتوقع أن يؤكد اليسار الشعبوي على ضرورة تضامن العمال المسرحين من وظائفهم، والعمال منخفضي الأجور، والعمال الذين ينظر إليهم رؤساؤهم باعتبارهم ممن يمكن الاستغناء عنهم. أما الشعبوية المحافظة فلن تؤدي إلى تغيير كبير في أوضاع العمال والموظفين في العالم الغربي. فديدن اليمين – كما يمكن استشفافه من إدارة “ترامب” الذي يميل لتصدير الأزمة للخارج أو نحو قطاع من المواطنين. وفي هذا الإطار يرى الباحثون أن خطاب اليمين الشعبوي سوف يطالب العمال البيض بالشروع في سباق للتضامن مع الأثرياء البيض، وهو ما قد يؤدي لاستعار الخوف من العمالة الأجنبية، فضلا عن تأجيج الطلب على مواجهة صراعية في الخارج؛ إن مع الصين أو غيرها. ويرجح الخبراء أن هذا التوجه ستحدده في الولايات المتحدة عدة اعتبارات، تتمثل فيما يلي[47]:
- على الوجهة التي سينظر لها العمال، سواء أكانت الطبقة الوسطى نفسها، أو إدارات الشركات الكبرى.
- على الوجهة التي سيقررها الناخبون في رئاسيات 2020، وما إذا كانوا سيلومون الرئيس “ترامب” على إدارة الجائحة وتبعاتها، أو ما إذا كان الديمقراطيون قادرون على بناء تضامن واسع حول تحسين حقوق حماية العمال.
- شدة الجائحة خلال الفترة القادمة.
- قدرة العمال على تنظيم أنفسهم بشكل أكبر من قدرة وجهتهم المضادة على الضغط.
وتنقلنا هذه الرؤية للمسار الرابع في هذا المحور، وهو المسار المتعلق بقدرة الشرائح الاجتماعية البسيطة على تنظيم نفسها، وبناء حركة اجتماعية أو اتجاه تصويتي يدعم مصالحها. الطرح اليساري في هذه القضية تغلب الرؤى الرغبوية أكثر منه دراسة الواقع واتجاهات تفكير هذه الشرائح الاجتماعية. فقدرة العمال على تحريك السياسات اليمينية باتجاه ضمان استمرار السياسات الحمائية الاجتماعية يقتضي وجود تنظيم قوي لهذه الشرائح. ويكاد هذا التوجه أن يحسم تطور مسار اليمين الشعبوي المرتبط باحتمالات اتساع نطاق السخط جراء احتمالات تطور وضع الجائحة.
في هذا الإطار نجد أنه من جهة، يبدو الاتجاه الشعبوي اليميني مستندا لإطار تنظيمي قوي راهن، يتمثل في الحزب الجمهوري قادر على دعم “ترامب”؛ أو على الأقل قادر على دعم التوجه اليميني الشعبوي، وانتهازه، وركوب موجته[48]. ومن الجهة المقابلة، نجد أن الاتجاه اليساري الشعبوي قد تلقى ضربة قاصمة بانسحاب “بيرني ساندرز” و”إليزابيث وارين” من السباق الانتخابي. كما يلفت خبراء آخرون إلى أن الولايات المتحدة تشهد ضعفا واضحا لاتحادات العمال[49].
وعبر نتائج استطلاعات الرأس وسوابق اتجاهات التصويت وقراءة الشخصيات القومية الأمريكية، لا يرى قطاع واسع من علماء الاجتماع والسياسة الأمريكيين أن ثمة فرصة في الأفق لقيام العمال بحركة اجتماعية. فالقاعدة الأساسية في الإعداد للانتخابات أن العمال الأمريكيين لم يصوتوا بشكل عام طيلة العقود الماضية بحسب تحيزاتهم الطبقية، بل بحسب اعتبارات أخرى؛ منها الاعتبار الإثني، بالرغم من وجود خبراء يعتبرون أن الانتخابات الأمريكية ستكون ضمن ما يتأثر بتداعيات «كوفيد-19»[50].
وفيما يتعلق بثقافة الشرائح الاجتماعية البسيطة، فالمجمل لثقافتها أن قطاعا واسعا منهم أن رجال الأعمال قد وصلوا لمكانتهم في قمة السلم الاجتماعي بناء على جهودهم ومهاراتهم وتعليمهم. ويرون أن الوضع الطبقي غير مغلق، وأن الحلم الأمريكي – كثقافة – يكفل الحراك الطبقي. ومن ثم، فإن الثقافة السائدة بين القطاعات العمالية تفيد أنه على المرء أن يعمل بكد أكبر لكي يحصل على تعليم جيد، وهذا التعليم الجيد هو المدخل للحراك الاجتماعي والحياة الرغدة من وجهة نظرهم. وتميل الشرائح الاجتماعية البسيطة للوم نفسها حيال فقرها، ومن ثم؛ فإن التعويل على حشد المشاعر السلبية تجاه الشرائح الاجتماعية العليا غير وارد لأن ثقافة هذه الشرائح ببساطة لا تتوجه باللوم للطبقة العليا[51]. ولعل هذا ما يفسر ميل قطاع واسع من الشرائح الاجتماعية البسيطة المؤيدة للرئيس الأمريكي “ترامب” أن ما ينشر حول «جائحة كوفيد-19» في الصحف والمواقع الإعلامية وغالبية القنوات الفضائية إن هي إلا تهويل هدفه التأثير على “إدارة ترامب”، ومنعها مما يرونه “العمل الجيد الذي يباشره”[52].
ويرجح آخرون أن يكون حال العمال بعد أن تضع الجائحة أوزارها كحالهم في خمسينيات القرن الماضي، حيث اكتست شريحة العمال منخفضي الأجر بشعور بالنبل والكرامة، كونهم عماد هذا المجتمع[53].
المحور الرابع: التعاون الدولي
أطروحات التضامن الدولي من أهم الأطروحات التي يمكن القول بأنها مثلت تلاقيا بين طرح اليمين واليسار في العالم الغربي، في المسار العام، وإن اختلف الفريقان في بعض النقاط. ففيما يتعلق بنقاط الاتفاق، هناك اتجاه مشترك بين اليمين واليسار الغربيين على تبني صيغة “مشروع مارشال” عالمية؛ أو على الأقل غربية، أو بناء “مواطنية عالمية” استقاء من جهود دول جنوبية فعالة في إغاثة دول الشمال، كما أن هناك دعوة لوجود تعاون على المستوى الصحي، وإن اختلف الفريقان في مدى هذا التعاون؛ حيث أداره اليمين في صورة نظام فعال لتعجيل عملية الوصول للقاحات، في حين يدعو اليسار الغربي لنظام “تأمين صحي عالمي”.
فعلى الصعيد الاقتصادي، وبعد حالة الغضب العارم التي اجتاحت بعض الدول الأوروبية، ومن بينها إيطاليا وإسبانيا، وحتى المجر؛ التي خرجت منها أقسى انتقادات تعرض لها مفهوم الوحدة الأوروبية، اتخذ الاتحاد الأوروبي عدة إجراءات لاحتواء تأثير حالة الأنانية التي ظهرت بين أعضائه في مطلع الأزمة. ويشير تقرير مفوضية الاتحاد الأوروبي حول الاستجابة الشاملة لجائحة «كوفيد-19»، والصادر في 9 أبريل 2020، إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بتحفيز السوق، وإقالة عثرات القطاعات الاقتصادية المتضررة، ومساندة العمال المتأثرين بتداعيات الأزمة، وتعديل قواعد التعامل المالي بين دول الاتحاد وإكسابها المرونة اللازمة لكي تتدخل الدول لمساندة القطاعات الاقتصادية المتضررة فيها، وتوسيع نطاق السيولة المتوفرة عبر البنوك لمواجهة تداعيات الأزمة. كما خصصت “آلية التوازن الأوروبية” ميزانية خاصة تمثل 2% من الناتج المحلي الإجمالي لأعضائها لدعم “شبكات الحماية الاجتماعية” عبر الدول الأوروبية، كما عملت على توفير آلية تمويل لمساندة العمالة المتضررة من توقف الشركات أو بسبب الإغلاقات التي شهدتها الدول الأوروبية[54]. وكانت هذه الخطوات الإجرائية نتيجة مباشرة للحوار المبكر الذي حدث بين اليمين المحافظ واليسار الغربي.
وفيما لفت المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي النظر للأطروحات الناقدة التي قدمها الفيلسوف والأكاديمي والسياسي اليوناني “يانيس فاروفاكيس”، معتبرا إياها توجها عبقريا أسماه “المواطنة العالمية العبقرية” أو ” Genuine Internationalism”[55]، والتي يضرب فيها المثال بدول نجحت في اختبار «كوفيد-19»، ومدت يد العون للعالم؛ حيث يضرب تشومسكي المثال بما قدمته الصين للعالم من معدات وتجهيزات طبية، وبالعون الذي قدمته دولة مثل كوبا قامت بتوفير أطباء لعدد من دول العالم[56]. ويمكن أن نضيف لقائمة تشومسكي تلك المساعدات الواسعة التي قدمتها تركيا لأكثر من 102 دولة حول العالم بعد النجاح الذي حققته في مجال صناعة مستلزمات مواجهة الفيروس من أقنعة وحتى أجهزة التنفس الصناعي المتعدد، وحققت إثرها اكتفاء داخليا[57]. في تواز مع هذا الطرح، نجد أطروحات اليمين المحافظ مضادة للانغلاق، وداعية للانخراط في تفاعلية دولية أكثر نجاعة في مواجهة تداعيات ما بعد «كوفيد-19».
فعلى صعيد الطرح القادم من جهة اليمين، فإن المقال المبكر لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قد انطلق من نقد النزعة الانكفائية اليمينية الشعبوية التي يقودها الرئيس الأمريكي، حيث نبه إلى التعامل مع الأزمة تم على أساس وطنى إلى حد كبير، وارتأى أن ذلك يمثل أحد أوجه القصور العامة في التعاطي مع الأزمة، منوها إلى أن تأثيرات الفيروس فى تفكيك المجتمع لا تعترف بالحدود، وأنه إذا كان اعتداء الفيروس على صحة الإنسان مؤقتا، فإن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التى أطلقها قد تستمر لأجيال، ولا يمكن لأية دولة؛ ولا حتى الولايات المتحدة؛ أن تتغلب على الفيروس بجهد وطنى محض. طالب “كيسنجر” بأن تقترن معالجة ضرورات اللحظة فى نهاية المطاف برؤية وبرنامج للتعاون العالمى، ونوه إلى أنه إذا لم يتمكن العالم من القيام بالأمرين معا، فسوف يواجه أسوأ ما فى كل منهما. وفي هذا الإطار نادى كيسنجر بضرورة استخلاص الدروس من تطوير “خطة مارشال” و”مشروع مانهاتن”، والذي يستوجب من الولايات المتحدة بذل جهد كبير فى 3 مجالات[58]:
- الاتجاه لدعم المرونة العالمية تجاه الأمراض المعدية؛ عبر تطوير تقنيات وتكنولوجيات جديدة لمكافحة العدوى وإنتاج اللقاحات المناسبة لمجموعات كبيرة من السكان.
- السعى لمعالجة جراح الاقتصاد العالمى، حيث إن الانكماش الذى أطلقه «كوفيد»، فى سرعته ونطاقه العالمى غير مسبوق فى التاريخ؛ في الوقت الذي تؤدي فيه تدابير الصحة العامة مثل التباعد الاجتماعى وإغلاق المدارس والشركات تفاقم الألم الاقتصادى.
غير أن اللافت في هذا الإطار أن أطروحة “كيسنجر” دعت إلى ضرورة أن تسعى برامج المواجهة أيضا إلى تخفيف آثار الفوضى الوشيكة على “أضعف” السكان فى العالم. وهو الطرح الذي يتقارب بصورة قوية مع أطروحات اليسار التي أشار إليها “تشومسكي”، والتي سنعرض لتفصيلها لاحقا.
- العمل على حماية مبادئ النظام العالمى الليبرالى، فأسطورة تأسيس الحكومة الحديثة تقوم على أنها مدينة محصنة يحميها حكام أقوياء، بما يكفى لحماية الناس من عدو خارجى.
ومن جهة ثانية، المفكر الأمريكي البارز “فرانسيس فوكوياما”، كان أكثر راديكالية في نقد اليمين الشعبوي وسياساته في التصدي للأزمة. ورأى “فوكوياما” أن هذه الأزمة أطلقت العنان للتعاون الدولي برغم جهود الرئيس غير الكفء من أجل الوصول بالولايات المتحدة لانكفاءة جديدة، وبرغم تبادل قادة الدول إلقاء اللائمة، لافتا للعمل المشترك بين العلماء ومسؤولو الصحة العامة حول العالم على تعميق روابطهم واتصالاتهم، ورأى أنه إن اتجه التعاون الدولي للانهيار؛ وحُكم عليه بالفشل، فإن الحقبة التالية ستشهد التزاما متجددا بالعمل متعدد الأطراف بهدف تعزيز المصالح المشتركة. وأكد أنه مع عبور الجزء الأكثر إلحاحا ومأساوية، فإن العالم يتجه إلى حالة إجهاد طويل كئيب ستخرج منه في نهاية المطاف بعض الدول بشكل أسرع من غيرها. وقد جدد “فوكوياما الثقة في الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة؛ لافتا إلى أنها قد برهنت مرارا على قدرتها على التغيير والتكيُّف من قبل، لكنه أشار إلى أنها ستحتاج إلى ابتكار أدوات جديدة[59].
وبخلاف رأي خبراء “مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية”[60] و”مجموعة الأزمات الدولية”، من أن ثمة دلائل على موجة جديدة من العنف السياسي قد بدأت تلوح في الأفق[61]، فقد استبعد “فوكوياما” حدوث تشنجات عالمية عنيفة بتأثير من «كوفيد-19».
كانت أطروحات اليسار على صعيد التعاون الدولي متقاربة مع أطروحات اليمين المحافظ، التي تجاوزت معاداة إدارة “ترامب” ومستشاريه ودائرة المفكرين المرتبطين بهم للعولمة وتأثيراتها على الولايات المتحدة، ينبه الفيلسوف اليوناني “يانيس فاروفاكيس” إلى بعد آخر للعولمة، يتجاوز قضية الحدود المغلقة، حيث يذكر أوروبا مجددا بأن أزمة اليورو التي ضربت أوروبا في 2008، لم تكن صراعا بين الدول المبذرة المترفة وبين الدول المقتصدة غير المبذرة في سياساتهم المالية، وأن الأزمة ضربت الطرفين معا. ويقارن “فاروفاكيس” دوما على الصعيد الأوروبي بين ألمانيا واليونان، ويقارن على الصعيد العالمي بين الولايات المتحدة والصين، ويلفت إلى أن أزمة 2008 ضربت كل من ألمانيا واليونان، ليس كدول فقط، بل إنها ضربت الطبقات الثرية والفقيرة في كلتا الدولتين، وتنبأ بأن هذا ما سيحدث أيضا للصندوق الأوروبي الذي يناقش تمويله من أجل التعافي من كورونا. ومن وجهة نظره، فإن إجراءات الهندسة المالية التي أدت إلى تغطية عجز ميزان المدفوعات الأمريكي عبر إعادة تدوير فاقدها من الدولار في أدوات وول ستريت المالية، وهو نظام يؤدي لاستعار المواجهة الطبقية في دول الفائض ودول العجز على حد سواء، هذه الفقاعات المالية التي تنشأها دول العجز المالي لمعالجة عجوزاتها لا تلبث أن تنفجر لتصيب سائر الدول المرتبطة بها ماليا؛ ويزداد الضغط على الطبقة العاملة – بمفهومها الواسع بنظره – دون غيرها من الطبقات. غير أن هذا التأثير لا ينسحب على دول العجز فقط كالولايات المتحدة، بل يضرب دول الفائض أيضا. فالصين وألمانيا تحققان فائضا في التجارة الدولية، لكن الفائض لا يخدم الطبقات العاملة فيها، مع فارق أن الصين توسع نطاق الاستثمار العائد من التجارة، فيما تعتمد ألمانيا إنتاج مزيد من الفقاعات المالية في منطقة اليورو لتعويض العجز الحادث في دول أوروبا[62].
يوضح “فاروفاكيس” أن “أزمة اليورو 2008” – كمثال كاشف لتداعيات «كوفيد-19» وما بعدها – لم تحدث نتيجة مواجهة بين ألمانيا واليونان؛ بل مواجهة بين الأثرياء والعمال في كلتا الدولتين، حيث إن الأزمة التي ضربت اليونان، وفرضت عليها التقشف ضربت الاستثمار في ألمانيا أيضا، وفرضت كبح جماح الأجور في ألمانيا، وأدت إلى خفض حجم الفائض التجاري الألماني المتراكم منذ 1999 بنسبة 7%، وذلك لأن الألمان اضطروا لإقراض الجيران الذين يعوزهم المال لتوفير الطلب التجاري. وهو ما حدث في كل الدول التي تحقق فائضا[63].
يرى “فاروفاكيس” أن صندوق الإنعاش الاقتصادي الأوروبي بمجمل 750 مليار يورو سيحمل أطروحة التعاضد الدولي قسرا. فأدوات الدين العام شرط ضروري للنجاة، لكنه غير كاف لتخفيف حدة الحرب الطبقية التي ستعقب الخروج للحياة الطبيعية. ويرى أن السبيل الأنجع لتجاوز تقدمي لهذه الأزمة يعتمد على أن تمول الديون العامة “الأسر” و”الشركات الأضعف” عبر المنطقة الاقتصادية المشتركة: في ألمانيا وكذلك في اليونان على حد سواء، وأن تفعل ذلك بشكل تلقائي، دون الاعتماد على لطف القلة المحلية، أو منح أولوية لداخل الدولة على حساب خارجها. ويحذر “فاروفاكيس” من أن إجراءات الإنقاذ ينبغي أن تعمل مثل آلية إعادة التدوير الآلية التي تحول الفوائض إلى تلك الدول التي تعاني من العجز داخل كل مدينة ومنطقة ودولة، وإلا فإن انقلاب هذه الدول على بعضها البعض سيكون الثمن[64].
أما فيما يتعلق بأطروحات التعاون الصحي على مستوى التعاون الدولي، فكان لافتا أن يناقش الخبير الأمريكي “إيلي مايستال” القضية في إطار التعليق على اقتراح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “إليزابيث وارين”؛ إنشاء “صندوق مدفوعات إجازات الطوارئ، والذي اقترحت أن تؤسسه الحكومة الفيدرالية، بغرض تمويل إجازات الأناس الذين يجب عليهم المكوث في بيوتهم بسبب الفيروس. كما أنها تقدمت – بالإضافة لغيرها من أعضاء المجلس باقتراح أن يكون اختبار الفيروس مجانيا[65]. وقد علق “مايستال” على خطة “وارين”، بقوله إن الولايات المتحدة سوف تتعلم فضيلة “نظام التأمين الصحي العالمي” بطريقة أو بأخرى.
وقد عرفت “منظمة الصحة العالمية” مفهوم “التأمين الصحي العالمي” في إطار حقوقي، حيث ارتأت أنه “التأكد من قدرة كل الناس على بلوغ الخدمات الصحية التي يحتاجونها، بما في ذلك الوقاية والتوعية والعلاج وإعادة التأهيل وتسكين الألم، على أن تكون تلك الخدمات من نوعية جيدة على نحو يجعلها فعالة، هذا فضلا عن التأكد من ان الحصول على هذه الخدمات ينبغي ألا يدفع الناس إلى مكابدة صعوبات مالية[66]. وتحول المشروع إلى “صيغة تعاونية عالمية” يرجع لكونه أصبح أحد أهم أولويات “منظمة الصحة العالمية”، والتي بدأت بالفعل في معاونة بعض الدول لتأمين “النظام الصحي العالمي”؛ ومن بينها مصر التي تتجه لتلقي دعم قدره 400 مليون دولار لغرض دعم “توجه” الدولة لبناء “منظومة تأمين صحي عالمي”[67].
خاتمة: التدخل مع الديمقراطية أو ضدها؟
لا يمكن رفض فكرة تدخل الدول في المجال العام من أجل إنقاذ أرواح ملايين الأنفس العرضة للهلاك بسبب الجائحة. وهكذان فإن التدخل يبدو وكأنه علاج سحري، أو كأنه انتصار لطرف حرص دوما على استدعاء الدولة التي لا تريد أن تتدخل. لكنها تدخلت هذه المرة، وسط شكوك حيال مستقبل هذا التدخل، سواء مستقبل التدخل نفسه كسلوك، أو مستقبل كم هذا التدخل، أو مستقبل نوع هذا التدخل ومدى تطرفه.
ربما إنقاذ الأرواح هي هم من يساندون التدخل، ويدافعون عن قرارات الساسة بهذا الصدد. غير أن المرتابين، أو الحذرين لهم تخوفاتهم المشروعة، والأقوى اعتبارا في نفس الوقت:
بعض المرتابين يتخوفون من العدوان على الديمقراطية. فقد كافح الغرب طويلا بين حروب دينية وحروب مدنية وحروب استقلال ليصل إلى تقليص مساحة تأثير من يمتلك الحق في العنف المشروع من التأثير على “إرادة المواطنين”. وهكذا أصبح التخوف من هذا التدخل تحت لافتة التخوف من فقدان الديمقراطية عنوان رئيس في هذا الصدد. ووجاهة هذا العنوان تنصرف إلى أنه لا يعارض تدخل الدولة، لكنه يدعو للحذر وكبح جماح محاولات الاستبداد إعادة تدوير نفسه في واحات الإرادة الحرة.
البعض الآخر من المرتابين يحمل مخاوف من وجود شكل آخر من أشكال تسليم ثروة المواطنين إلى الأغنياء. الآليات التي تنتج هذه الحالة من التحويل كثيرة، وفعالة، ويحمل أغلبها طابع “الإرادة الحرة”. غير أن هذه الآلية الأخيرة، آلية تدخل الدولة، وهي أحد لباب الحوار بين اليمين واليسار، آلية تتم باسم المواطنين؛ باعتبارهم “مواطنين”؛ وليس باعتبارهم “مستهلكين”. هذه المخاتلة السياسية تقلق كثيرين، وتضفي على تخوفاتهم وجاهة مردها أن الفجوة ستتفاقم بين من يملكون ومن لا يملكون، وستتراجع برامج الحماية شاء المجتمع أم أبى؛ ليس لوجود عداء داخل الشرائح الميسورة حيال الفقراء، بل لأنهم يفترضون أن الخدمات ينبغي أن تكون للبيع؛ فيما يمتصون فائض الثروة؛ بما لا يسمح بإتاحة الخدمة لمن يعتبر وجوده وسلامته أمر هام لاستقامة الحياة. فلن يأكل أحد إذا مات المزارع ومن يؤدون مثائل وظيفته الحيوية.
ومن جهة ثالثة، يتخوف مرتابون آخرون، وربما هم نفس المرتابين في المسارين السابقين، لكنهم يرتابون هذه المرة من التطرف. ليس ما نعنيه هنا ذلك التطرف المرتبط بأفهام قاصرة لهذا الدين أو ذاك، بل تطرفات ترتبط بأفهام وضعية، وتقع في معضلات نفسية مرتبطة بأطراف عالم الأفكار التي لا تعنى بالتفاوض ولا تقر بالمساحات الوسط. هي التخوفات من العسكرة، ومن الأمننة، ومن الفاشية، ومن القهر باسم المجموع؛ أو ما ذهب في التاريخ باسم الاشتراكية.
مسارات الارتياب الثلاثة هذه هي التي تحكم حالة النقاش التي تدور حول مستقبل تدخل الدولة، فيما يبدي مفكرون من طراز “فرانسيس فوكوياما” تشاؤمهم حيال السياق الشعبوي المؤطر لهكذا نقاش فائق الخطورة؛ فيما يستبشرون بقدرة المخيال الديمقراطي على طرح الأسئلة الحقيقة، وتقديم أفكار وتصورات ثرية للإجابة عليها؛ ومن ثم إعادة ترسيم مسار الدولة الغربية.
الهامش
[1] فرح عصام، موت القديم وميلاد الجديد.. كيف ينظر فرانسيس فوكوياما لأزمة كورونا وما بعدها؟، “الجزيرة نت”، 15 يونيو 2020. https://bit.ly/35ab1Iq
[2] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[3] فرح عصام، إشارة سابقة: https://bit.ly/35ab1Iq
[4] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[5] محمد البحيري مترجما، هنرى كيسنجر يكتب: «كورونا» سيغير النظام العالمى إلى الأبد، المصري اليوم، 6 أبريل 2020. https://bit.ly/333ad58
[6] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[7] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[8] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[9] Bryan Walsh, The World Is Not Ready for the Next Pandemic. The “Time” Magazine”, 4 May 2017. https://bit.ly/2EIHb2N
[10] Bryan Walsh, Covid-19: The history of pandemics, BBC, 26 March 2020. https://bbc.in/3jx1YFo
[11] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[12] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[13] Council of the European Union, Report on the comprehensive economic policy response to the COVID-19 pandemic, Council of the European Union, 9 April 2020. https://bit.ly/3gNyQrq
[14] Cristina Magdaleno, Chomsky on COVID-19: The latest massive failure of neoliberalism, , 25 April 2020.https://bit.ly/31mTuu5
[15] Rachel Brown – Heather Hurlburt – Alexandra Stark, How the Coronavirus Sows Civil Conflict, Foreign Affairs, 6 June 2020. https://fam.ag/34yMU5G
[16] Genevieve Leigh, Bernie Sanders’ response to the COVID-19 pandemic: A lifeline for the ruling class. World Socialist Website, 7 April 2020. https://bit.ly/3jbtxDO
[17] Bernie Sanders and Andy Slavitt, Bernie Sanders and Andy Slavitt: America’s cost effective Covid-19 solution? Masks for All, CNN, 17 July 2020. https://edition.cnn.com/2020/07/17/opinions/masks-for-all-covid-19-legislation-sanders-slavitt/index.html
[18] وكالات، كورونا.. ترمب يقر خطة إنقاذ بـ 2,2 تريليون دولار، موقع “قناة العربية”، 27 مارس 2020. https://bit.ly/3lV8Qy3
[19] وكالات، ترامب يدعم الاقتصاد بنصف تريليون دولار.. وإجراءات جديدة، موقع “قناة سكاي نيوز العربية”، 24 أبريل 2020. https://bit.ly/2Z7MQX4
[20] William Pearse, How COVID-19 Could Change the Role of Government. INOMICS (An “ECONOMIST” Think Tank), 28 April 2020. https://bit.ly/3hLFz6t
[21] Genevieve Leigh, Bernie Sanders’ response to the COVID-19 pandemic: A lifeline for the ruling class. World Socialist Website, 7 April 2020. https://bit.ly/3jbtxDO
[22] William Pearse, How COVID-19 Could Change the Role of Government. INOMICS (An “ECONOMIST” Think Tank), 28 April 2020. https://bit.ly/3hLFz6t
[23] William Pearse, How COVID-19 Could Change the Role of Government. INOMICS (An “ECONOMIST” Think Tank), 28 April 2020. https://bit.ly/3hLFz6t
[24] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[25] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[26] Julian Borger, The state we’re in: will the pandemic revolutionise the role of government?, The Guardian, 26 April 2020. https://bit.ly/3bdMvHf
[27] Sage Belz – Louise Sheiner, How will the coronavirus affect state and local government budgets?. Brookings Institute, 23 March 2020. https://brook.gs/31MVlc2
[28] Simon Mair, How will coronavirus change the world?, BBC, 31 March 2020. https://bbc.in/31MFkCV
[29] فرح عصام، إشارة سابقة: https://bit.ly/35ab1Iq
[30] Carolina Abate – Assia Elgouacem – Tomasz Kozluk – Jan Stráský – Cristiana Vitale, State ownership will gain importance as a result of COVID-19, Vox EU, 7 July 2020. https://bit.ly/32JLgvrالأوروب
[31] Vitor Gaspar – Paulo Medas – John Ralyea, State-Owned Enterprises in the Time of COVID-19, IMF Blog, 7 May 2020. https://bit.ly/34N4Zxb
[32] مراسلون، فرنسا تخصص 50 مليار دولار لدعم الاقتصاد في مواجهة كورونا، صحيفة “العربي الجديد”، 17 مارس 2020. https://bit.ly/34PXAwY
[33] وكالات، كورونا.. ترمب يقر خطة إنقاذ بـ 2,2 تريليون دولار، موقع “قناة العربية”، 27 مارس 2020. https://bit.ly/3lV8Qy3
[34] وكالات، ترامب يدعم الاقتصاد بنصف تريليون دولار.. وإجراءات جديدة، موقع “قناة سكاي نيوز العربية”، 24 أبريل 2020. https://bit.ly/2Z7MQX4
[35] Lucia Mutikani, What to know about the report on America’s COVID-hit GDP, World Economic Forum, 31 Jul 2020. https://bit.ly/2F4ZeQN
[36] المحرر، الاتحاد الأوروبي يقر خطة تحفيز اقتصادي ضخمة لموجهة كورونا، موقع “قناة دويتشه فيله”، 9 أبريل 2020. https://bit.ly/3jLxSOv
[37] المحرر، فرنسا: مستثمرون أجانب يستغلون ضعف شركاتنا لشرائها بسعر زهيد، صحيفة “الاقتصادية”، 30 أبريل 2020. https://bit.ly/3hMhOLV
[38] خالد عبد الله، ألمانيا تمنع عمليات الإستحواذ الأجنبية على كبرى شركاتها بسبب فيروس كورونا، موقع “قناة يورو نيوز”، 8 أبريل 2020. https://bit.ly/31Z1G4a
[39] Matt Stoller, The coronavirus relief bill could turn into a corporate coup if we aren’t careful, The Guardian, 22 Mar 2020. https://bit.ly/3i26OtX
[40] Genevieve Leigh, Bernie Sanders’ response to the COVID-19 pandemic: A lifeline for the ruling class. World Socialist Website, 7 April 2020. https://bit.ly/3jbtxDO
[41] المحرر، بيل غيتس يتبرع بأربعة مليارات و600 مليون دولار، موقع “قناة بي بي سي”، 16 أغسطس 2017. https://bbc.in/2GvDJZP
[42] وكالات، أضخم تبرع.. مليار دولار من مؤسس تويتر لمكافحة كورونا، موقع “قناة العربية”، 7 أبريل 2020. https://bit.ly/3bHwB8t
[43] Gallup, Coronavirus Pandemic: https://bit.ly/323ytEY
[44] Editorial, Coronavirus in the U.S.: Latest Map and Case Count, The New York Times, Updated September 5, 2020. https://nyti.ms/2GAbUQb
[45] Olga Khazan, How the Coronavirus Could Create a New Working Class, The Atlantic, 15 APRIL 2020. https://bit.ly/2QHnr24
[46] Oscar Jorda & Others, Longer-Run Economic Consequences of Pandemics, FEDERAL RESERVE BANK OF SAN FRANCISCO, WORKING PAPER SERIES, March 2020. https://bit.ly/2QZLYzq
[47] Olga Khazan, Op. Cit. https://bit.ly/2QHnr24
[48] Jan-Werner Müller, How Populists Will Leverage the Coronavirus Pandemic, World Politics Review, 7 April 2020. https://bit.ly/2Fb1aqA
[49] Anthony Zurcher, Bernie Sanders quits: It looked so good for him. What went wrong?. BBC, 9 April 2020. https://bbc.in/358g2Rw
[50] RUSSELL BERMANELAINE GODFREY, America’s Elections Won’t Be the Same After 2020, The Atlantic Magazine, 28 APRIL 2020. https://bit.ly/3h7YgjD
[51] Olga Khazan, op cit. https://bit.ly/2QHnr24
[52] Anne Applebaum, The Facts Just Aren’t Getting Through, The Atlantic Magazine, 9 AUGUST 2020. https://bit.ly/2F8NV9Y
[53] Olga Khazan, op cit. https://bit.ly/2QHnr24
[54] Council of the European Union, Report on the comprehensive economic policy response to the COVID-19 pandemic, Council of the European Union, 9 April 2020. https://bit.ly/3gNyQrq
[55] Cristina Magdaleno, Chomsky on COVID-19: The latest massive failure of neoliberalism, EURACTIV, 25 April 2020. https://bit.ly/31mTuu5
[56] Ibid: https://bit.ly/31mTuu5
[57] المحرر، قوجة: تركيا قدمت مساعدات طبية لمواجهة “كورونا” إلى 102 دولة، وكالة أنباء تركيا، 5 يونيو 2020. https://bit.ly/2Z7ukhw
[58] محمد البحيري مترجما، هنرى كيسنجر يكتب: «كورونا» سيغير النظام العالمى إلى الأبد، المصري اليوم، 6 أبريل 2020. https://bit.ly/333ad58
[59] فرح عصام، إشارة سابقة: https://bit.ly/35ab1Iq
[60] Rachel Brown – Heather Hurlburt – Alexandra Stark, How the Coronavirus Sows Civil Conflict, Foreign Affairs, 6 June 2020. https://fam.ag/34yMU5G
[61] SPECIAL BRIEFING, COVID-19 and Conflict: Seven Trends to Watch, The International Crisis Group, 23 March 2020. https://bit.ly/3gus21G
[62] YANIS VAROUFAKIS, The COVID Class War, Project Syndicate, 30 June 2020. https://bit.ly/3b39iFB
[63] Ibid: https://bit.ly/3b39iFB
[64] Ibid.
[65] Elie Mystal, Our Capitalist, Corporatist Country Is Drastically Unprepared for the Coronavirus, The Nation, MARCH 4, 2020. https://bit.ly/2GybNVk
[66] World Health Organization, Universal health coverage. https://bit.ly/3jNNrFm
[67] Editor, World Bank to Provide US$400 M to Support Egypt’s Universal Health Insurance System Implementation, EGYPTIAN STREETS, JUNE 17, 2020. https://bit.ly/320etTO
رابط المصدر: