د. قحطان حسين طاهر
الحرب البيولوجية بمفهومها الواسع هي استعمال كائنات حية (البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات الدقيقة المعدلة وراثيا)، أو نواتج نموها في إضعاف كائن آخر أو موته، لأسباب إستراتيجية تهم من يستعمل هذه النوعية من الحروب.
فالحرب البيولوجية ليست فكرة غريبة على الصراعات الدولية، إذ كانت الأسلحة البيولوجية محل اهتمام الكثير من قادة الحرب كونه سلاح فتاك غير تقليدي، لذلك قامت العديد من الدول بتأسيس مراكز علمية وتوظيفها لتطوير الأسلحة البيولوجية مثلما فعلت بريطانيا في عام 1940 حيث تمكنت من إنتاج أول قنابلها البيولوجية المعبأة بجرثومة الجمرة الخبيثة، وفي الولايات المتحدة شهد عام 1942 تأسيس أول مكتب لبحوث الحرب البيولوجية في وزارة الدفاع الأمريكية، ورغم أن أول استخدامات الأسلحة البيولوجية في التاريخ الحديث غير معروفة على وجه الدقة، لكن أبرزها كان خلال الحرب العالمية الأولى عندما استخدم الجيش الألماني (الجمرة الخبيثة، ومرض الرعام، والكوليرا) كأسلحة بيولوجية. وفي حرب فيتنام عندما استخدم الجيش الأمريكي الأسلحة الجرثومية ضد قوات (الفييت كونج) والقرى والبلدات الفيتنامية.
علمياً تُعدّ فيروسات كورونا حيوانية المنشأ، وهي قادرة على الانتقال من الحيوان إلى الإنسان ومن ثم تنتقل العدوى من إنسان مصاب إلى إنسان آخر، ومن الناحية التاريخية فأن تفشّي فيروسات كورونا حدث منذ عام 2003 رغم رصد وجودها قبل هذا التأريخ بكثير، عندما تسبب فيروس كورونا المسبب لعدوى السارس بوفاة 774 شخص في عام 2003، وقد تم اتخاذ إجراءات عالمية لاحتواء هذه الفيروسات فمنذ عام 2015 لم يتم تسجيل أي إصابات جديدة بالسارس، أما عن فيروس كورونا الجديد ذي الصفات المطوّرة، فقد أشارت التقارير إلى أنّ حالات الإصابة الأولى به تعود في أصلها إلى أشخاص من سوق لبيع الأسماك والحيوانات في مدينة (ووهان الصينية)، ولم يتمكن العلماء من تحديد الحيوان الذي بدأ من خلاله انتقال العدوى إلى الإنسان بشكل مؤكد حتى الآن، وتشير أدلة وتقارير منظمة الصحة العالمية ومراكز مكافحة الأمراض إلى أنّ فيروس كورونا الجديد يمتلك أيضاً القدرة على نقل العدوى من إنسان مصاب إلى إنسان آخر مما يفسر معدل انتشاره المتسارع.
فزع العالم من فيروس كورونا يزداد بوتيرة متصاعدة، فحالات الإصابة المؤكدة بالمرض في ارتفاع ملحوظ والوفيات كذلك، والاستنفار العالمي لمواجهة انتشار الفيروس في أشدّه، بينما مساحة عدوى المرض تتسع بشكل سريع، إلى حد أن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن فيروس كورونا هو جائحة عالمية بمعنى إنه أشدّ من الوباء العالمي.
في خضمّ هذا المشهد المرتبك، تتباين الآراء والتصورات عن طبيعة فيروس كورونا ومصدره وفيما إذا كان حالة مرضية تطورت بفعل عوامل طبيعية، أم أنّ هذا الفيروس تمّ تطويره في مختبرات بيولوجية وانتشر بفعل خطأ غير مقصود، أو ربما لاستخدامه ضد البشرية ضمن نطاق حرب بيولوجية مخطّط لها.
ونتيجة لغياب بعض المعلومات المؤكدة عن مصدر وطريقة انتشار فيروس كورونا الجديد لأول مرة، وكأي حدث خطير ذو أبعاد وتأثيرات مهمة وكبيرة، فقد خضعت مسألة فيروس كورونا إلى جدل واضح يتضمن في أحد جوانبه ترجيح كفة نظرية المؤامرة عندما ظهرت على السطح العديد من الروايات القائلة بأن نشوء الفيروس وانتشاره ناتج عن جهد بشري منظم ومقصود تختفي وراءه غايات اقتصادية وسياسية في ظلّ توافر العديد من الدلائل الوبائية والأعراض المَرضية التي يعتقد البعض إنها تُشير لحدوث هجوم بيولوجي، منها مثلا حدوث الإصابة بفيروس كورونا لأسباب غير معروفة، أو وجود سُلالة غير عادية نادرة منه، أو مُعدلة وراثيًا، كذلك ارتفاع معدلات المرضى والوفيات ممن يُعانون من أعراض متشابهة.
راجت نظرية المؤامرة بعد نشر موقع Zvezda الروسي، الذي تموله وزارة الدفاع الروسية، مقالا تحت عنوان (فيروس كورونا.. الحرب البيولوجية الأميركية ضد روسيا والصين وإيران)، حيث بدأ المقال بعرض بعض الخسائر التي تعرض لها الاقتصاد الصيني بسبب كورونا، ليدعم أدلته بشأن المؤامرة الأميركية المفترضة، مُضيفا “ذلك يهدف إلى إضعاف بكين في الجولة المقبلة من المفاوضات التجارية مع واشنطن”، واستعرض المقال الجدل القائم بشأن الشكوك الروسية حول وجود ما يقارب 25 مختبرا أمريكيا للأبحاث البيولوجية في عدد من الدول القريبة من الصين، مثل جورجيا وأوكرانيا وأوزبكستان، على الرغم من توقيع أميركا اتفاقية جنيف بشأن الأسلحة البيولوجية في 1975. وأضاف المقال “إن هذه المختبرات تخبئ وراءها نية خبيثة، لاسيما بعد انتشار تقارير مفادها أن المختبر الحيوي الأميركي في جورجيا قد اختبر أسلحة بيولوجية قاتلة على مواطنين جورجيين”.
ونوه المقال، إلى أن واشنطن عملت على هذا السلاح البيولوجي وفق آلية لانتقاله إلى إيران، بُغية إنهاكها اقتصادياً ومحاولة عزلها بالكامل عن محيطها، في هذا الإطار صرّح زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، فلاديمير جيرينفوكي لمحطة إذاعية في موسكو، بالقول “إن كورونا فيروس يقف خلفه البنتاغون بمساعدة شركات الأدوية بهدف خلق أوبئة محلية يمكن أن تُدمر مجموعة مختارة من السكان دون الانتشار في دول أخرى”. واللافت أيضاً أن السياسي الروسي إيغور نيكولين، وضح لعدد من المنابر الإعلامية، أن المختبرات الأميركية المُنتشرة حول العالم تقوم بجمع ومعالجة المواد الوراثية للسكان الروس والصينيين والإيرانيين من أجل تطوير فيروس -مُحدّد عرقيا- يستهدف شعوبا معينة فقط.
في المقابل، سعت الإدارة الأمريكية إلى الترويج لفكرة وقوف الصين وراء انتشار فيروس كورونا منذ البداية، حيث أعتاد المسؤولون الأمريكيون وفي مقدمتهم ترامب على تسمية الفيروس بالفيروس الصيني، في وقت صرّحت فيه صحيفة واشنطن تايمز أن الصين قامت بتصنيع فيروس كورونا لأغراض عسكرية، بينما ذكرت وسائل إعلام أمريكية أخرى أن مختبرا بيولوجيا صينيا في مدينة ووهان يعمل تجارب على عائلة فيروس كورونا، قد ارتكب خطأً مختبرياً تسبّب بانتشار هذا الفيروس.
وقد ردت الصين على هذه التقارير بالرفض على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية (جينج شوانج) خلال مؤتمر صحافي عندما قال “إن الصين لا تخوض حربا لصالحها فقط ولكن أيضا لصالح الصحة العامة في العالم”، متهما بعض وسائل الإعلام والأفراد بنشر ما سمّاه (بيانات مثيرة)، إما عن جهل أو نوايا سيئة، وإن موضوع التسرب الفيروسي من المعامل الصينية ليس له أي أساس علمي على الإطلاق.
التأمل جيدا في الآراء القائلة أن فيروس كورونا تمّ تطويره ونشره من قبل البشر، يضع أمامنا بعض الحقائق يمكن من خلالها الردّ على هذه الآراء، فالقول بوقوف الولايات المتحدة وراء فيروس كورونا لم يتأكد علميا وثبت خطأه عندما انتشر الفيروس في عقر دار الولايات المتحدة، ورغم الروايات والتقارير الكثيرة التي نُشِرت عبر وسائل الإعلام والتي تلمّح إلى وقوف الولايات المتحدة وراء فيروس كورونا، لكن تبقى الدلالات المقدمة ضعيفة وغير مقنعة، لأنه من غير المعقول أن تصنع الولايات المتحدة فيروسا وتنشره دون أن تصنع اللقاح المضاد له أو تضمن عدم انتشاره عالميا وتحوله إلى خطر يداهم الشعب الأمريكي كما يحصل أثناء كتابة هذه السطور، أمّا فرضية وقوف الصين وراء فيروس كورونا فأنها لا تصمد أيضا أمام النقد، فاقتصاد الصين وتجارتها العالمية أُصيبا بضرر جسيم نتيجة الشلل الذي عمّ الحياة العامة فيها بسبب كورونا ولا يمكن لعاقل أن يقتنع بأن الحكومة الصينية تُلحق الضرر بدولتها وشعبها، من جانب آخر من المعروف أن الحرب البيولوجية تستخدم أثناء الحروب من خلال نشر الجراثيم والفيروسات القاتلة لأكبر عدد ممكن من الأعداء، بينما الظروف التي نشأ وانتشر فيها كورونا ليست ظروف حرب عسكرية، كما أن نسبة من يموت جرّاء الإصابة بكورنا قليلة جدا قياسا بنسبة من يصابون به، أي أن فيروس كورونا حسب رأي بعض المختصين ليس سلاحا بيولوجيا جيدا، أمّا من يحاول أن يعزز من فكرة المؤامرة بالقول أن فيروس كورونا هو نسخة مطورة من فيروسات أخرى تنتمي لنفس العائلة، وأن هناك من يقف وراء هذا التطوّر، فيمكن الرد عليه بالقول “إن الفيروسات عموما تتسم بقدرتها على التطور الطبيعي والتكيّف مع المتغيرات البيئية كي تستمر بالنشاط والتأثير، وأن أي تدخل بشري في تطويره سيخلّف أدلة جينية يمكن كشفها خلال تحليل الفيروس”.
إن الغموض الذي يحيط بفيروس كورونا من حيث المصدر وطرق الانتشار، وكذلك نقص المعلومات عن كيفية تطوره، وعجز المراكز البحثية المتخصصة عن اكتشاف لقاح مضاد له، يوحي بوجود أسرار وخفايا وراء قصة انتشاره، ولسنا هنا بصدد النفي التامّ لنظرية المؤامرة التي ما زالت تفتقر للأدلة العلمية المعززة لها والمؤكدة على صحتها، بقدر ما نحاول التوضيح انه لم يثبت لحد الآن صحة الادعاء بوجود تدخّل بشري أو دولة معينة في نشر فيروس كورونا، وحتى كتابة هذه السطور ما زالت أمامنا فرضيتين ممكن أن تكون احدهما مقبولة وصحيحة.
الأولى: وجود خطأ مختبري في أحد مختبرات تطوير الفيروسات تسبب بتسرب فيروس كورونا وانتشاره وفقدان القدرة على السيطرة عليه،
الثانية: إن الفيروس هو نتاج تطور طبيعي حصل في سلالة العائلة التي ينتمي إليها، وفي كلتا الحالتين فالمجتمع الإنساني ما زال يفتقر إلى المعلومات اللازمة لإثبات إحدى هاتين الفرضيتين، فالمسألة معقدة وتحتاج الكثير من الوقت والجهد والبحث العلمي لكشف الحقائق المتعلقة بفيروس كورونا.
رابط المصدر: