بالنظر إلى التداعيات غير المسبوقة لأزمة تفشي وباء كورونا على الاقتصاد العالمي، نرى أن الأزمة الحالية أدخلته غرفة الإنعاش ولم تفلح معه المحفزات المالية والنقدية الضخمة حتى الآن.
وتؤسس الأزمة الراهنة الناجمة عن تداعيات كورونا لنظام عالمي جديد يركز الاستثمار في قطاعات جديدة، بزغ نجمها مع اشتداد الأزمة، كالأدوية والتحوّل الرقمي، في حين سيكون هناك ضحايا اقتصادية للفيروس، تتمثل في إفلاس شركات وتكبّد خسائر غير مسبوقة للدول.
وفي هذا الصدد، قال محللون ومختصون، في إفادات متفرقة لـ”اندبندنت عربية”، إن العالم بالتأكيد سيتجاوز هذه المرحلة وسط معاناة من جميع الدول، إلا أن درجة التعافي تختلف من دولة لأخرى حسب الفوائض المالية لديها.
الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي
أمام ذلك، قال سعيد الشيخ، عضو مجلس الشورى السعودي والمتخصص الاقتصادي، إن وباء كورونا يمثل الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية في 2008، ومن المقدّر أن يتسبب في تراجع نمو الاقتصاد العالمي لأقل من 2 في المئة للعام الحالي، مع انخفاض القيمة المضافة في الاقتصاد العالمي بنحو تريليون دولار أميركي.
وأضاف أن قطاعات الأعمال على مستوى العالم بدأت تواجه تراجع الإيرادات مع تعثّر سلاسل العرض نتيجة إغلاق المصانع في الصين، ومن ثم قيامها بفرض حظر على حركة السفر على ملايين السكان، كما امتدّ على حركة السكان في إيطاليا، وكذلك فرنسا وإسبانيا ومعظم الدول، مع تشديد إجراءات تقييد حركة الناس والنشاط التجاري، ونظراً لأن الاقتصاد الصيني في المرتبة الثانية عالمياً فإن تراجعه سيؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي، ومن المتوقع أن ينخفض نمو اقتصاد الصين إلى 3 في المئة خلال الربع الأول من 2020 مقارنة مع 6 في المئة بالربع الأخير من 2019.
ونظراً لأن الصين أيضاً تعتبر الدولة الأولى على مستوى العالم في استيراد النفط، لذا أسهم تراجع نمو الاقتصاد الصيني، وكذلك الاقتصادات الأخرى، في تراجع نمو الطلب على النفط إلى مستوى متدنٍ مقارنة بالأعوام الماضية؛ إذ من المتوقع بلوغ هذا النمو 1.1 مليون برميل يومياً للعام 2020، كما جاء في تقرير وكالة الطاقة الدولية لشهر مارس (آذار) الحالي.
وأرجع هذا الانخفاض في نمو الطلب في الوقت الذي انهار فيه اتفاق أوبك+ الذي دام ثلاث سنوات لينخفض سعر برميل النفط بشكل حاد إلى 30 دولاراً للبرميل، مع احتمال تراجعه إلى 25 دولاراً، وربما أقل في ظل آفاق نمو الطلب التي أصبحت ضعيفة مع حظر السفر المفروض حول العالم.
وأوضح أنه في ظل عدم الاتفاق على خفض الإنتاج بين أوبك وروسيا في المدى المنظور، فإنه من المحتمل أن يتكرر سيناريو 2015؛ الذي أعقب عدم الاتفاق على الخفض لتنهار الأسعار دون 40 دولاراً للبرميل حتى اجتماع نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، الذي تم التوصل فيه لاتفاق، إلا أنه مع توقعات انحسار تأثير كورونا خلال النصف الأول من هذا العام، وكذلك قيام البنوك المركزية على مستوى العالم بخفض أسعار الفائدة لمستويات متدنية، مع اتخاذ سياسات مالية تحفيزية من قبل كثير من دول العالم، ربما يتغير الوضع.
وتوقع عودة النشاط الاقتصادي بشكل تدريجي خلال النصف الثاني من العام، مع احتمالات تحسن نمو الطلب على النفط، غير أن هذا التراجع الحاد في الأسعار سينعكس سلباً على موازنات دول الخليج العربي، مع زيادة العجوزات المالية وارتفاع مستويات الدين العام. وفِي السعودية من المتوقع تراجع الإيرادات النفطية من التقديرات الأولية لوزارة المالية بنحو 531 مليار ريال (141.6 مليار دولار أميركي) إلى نحو 460 مليار ريال (122.6 مليار دولار)؛ وكذالك الحال من المتوقع أيضاً أن تنخفض الإيرادات غير النفطية من 320 مليار ريال (85.3 مليار دولار) إلى نحو 300 مليار ريال (80 مليار دولار)، متأثرة بتراجع النشاط الاقتصادي وأداء أسواق المال المحلية والدولية. وبناء عليه من المقدر أن يبلغ إجمالي الإيرادات نحو 760 مليار ريال (202.6 مليار دولار). وإذا ما استمر مستوى الإنفاق كما تم الإعلان عنه بنحو 1.02 تريليون ريال (272 مليار دولار) فإن عجز الموازنة للعام الحالي سيرتفع إلى 260 مليار ريال (69.3 مليار دولار).
وقال الشيخ “يأتي في مقدمة القطاعات التي ستتأثر سلباً في منطقة الخليج العربي قطاع السفر والسياحة، وعلى وجه الخصوص خطوط الطيران، إذ تتمتع بهامش ربح صغير ومستويات عالية من الدين؛ والذي سيضع غالبية الخطوط في أوضاع مالية صعبة جداً، مع احتمالات إفلاس بعضها. وفي المرتبة الثانية سيتأثر سلباً قطاع الفندقة، وأيضاً إذا طال أمد حالة حظر السفر فإن كثيراً من الفنادق سيواجه أوضاعاً مالية صعبة، مع ارتفاع مديونياتها. وكذلك الحال في قطاع تجارة الجملة والتجزئة، فإن إغلاق المولات وبعض الأنشطة سيتسبب في تراجع الإيرادات وتحقيق الخسائر لبعضها، ولا يمكن استبعاد قطاع الصناعة هو الآخر الذي سيعاني من ضعف الطلب، مع تدني الإيرادات وتراجع الربحية”.
تغير خريطة القوى الاقتصادية
من جهته، قال أحمد معطي، المدير التنفيذي لشركة “فيرجن إنترناشيونال ماركتس” في مصر، إن خريطة الاقتصاد العالمي ستتغير بعد انتهاء أزمة كورونا، فهناك دول ستتأثر بشدة بعد انتهاء الأزمة، وستستثمر في خسائرها لمعالجة الآثار المترتبة بخاصة الدول النامية والفقيرة.
وأوضح أن الدول الغنية ستعاني بسبب إفلاس شركات عدة، وستستغرق الدول ما بين 3 إلى 5 سنوات لتتعافى من تبعات الآثار الاقتصادية وتحقق النمو الاقتصادي مرة أخرى.
ويرى معطي أن أبرز القطاعات المستفيدة من الأزمة سيكون قطاع الصحة، إلى جانب تغير شكل الأعمال بعد الأزمة، مع زيادة التوجه إلى التحول الرقمي والتوسع في الأعمال عبر الإنترنت وطفرة متوقعة للبنوك الإلكترونية ووسائل الدفع الرقمية.
وأضاف المدير التنفيذي أن أبرز الدول التي ستتعافى سريعا تلك التي تملك احتياطيات مالية وإمكانيات تقنية ضخمة، فضلا عن الدولة صاحبة السبق في اكتشاف العقار لعلاج “كورونا”، فإنها ستتعافى بشكل أسرع وستحقق إيرادات ضخمة جراء ذلك.
وذكر أن أزمة فيروس كورونا أثرّت على الاقتصاد العالمي، ولا سيما على جميع الشركات، بخاصة قطاع السياحة والطيران والبتروكيماويات، والذي يعاني بشدة من هذه الأزمة.
وتابع معطي “هذه الأزمة من أقوى الأزمات عالمياً، وأعنف من الأزمة العالمية في 2008، لأنها في الأصل أزمة صحية وليست مالية، لأنه على الرغم من أن أغلب البنوك المركزية اتخذ إجراءات مهمة، من تخفيض فائدة إلى إلغاء أو تأجيل ديون القروض، وأمور عدة أخرى، لدعم الاقتصاد العالمي ولكن لا زلنا نرى الأسواق المالية العالمية بالكامل مستمرة في نزيف من الخسائر اليومية”.
خطط إسعاف مالية
من جهته، قال محلل الاقتصاد العالمي، علي حمودي، إن الدول المتقدمة اقتصادياً وعلمياً، والتي لديها خطط مالية ونقدية قوية ستتعافى سريعاً مع استخدام إمكانياتها وفوائضها المالية لإنعاش اقتصاداتها المتأثرة على نحو بالغ.
وأضاف حمودي أن ما يمرّ به العالم حالياً ليس له سابقة، فعندما تعرضّت الأسواق العالمية لتراجعات مماثلة في عام 1987، إذ هبطت الأسواق 30 في المئة في يوم واحد، ولكن لم يصاحب الأمر حظر السفر حول العالم ووقف الأنشطة وتوقف صناعات، حالياً الكل يعاني جراء توغل الفيروس وهناك هبوط اقتصادي مستمر.
وأفاد حمودي بأن “فترة ما بعد كورونا بالتأكيد ستستغرق سنوات للتعافي، والسؤال متى سيرجع الناس بعد ما مروا به؟ هل يستغرق وقت أكبر للشعور بالطمأنينة وتشجيعهم على السفر والإقبال عليه مثل الفترة التي سبقت ظهور الفيروس”.
وأشار إلى أن الاقتصاد العالمي سيعاني من تباطؤ النمو وخروج شركات ولن تقوم لها قائمة بعد ذلك، مع تأثر بالغ ببعض سلاسل التوريد التي يصعب عودتها مرة أخرى بعد كورونا.
تداعيات على الدين العالمي
من جانبه، قال جون لوكا، مدير التطوير بشركة “ثانك ماركتس” ومقرها دبي، إن تداعيات كورونا الاقتصادية ستطال جميع الدول وستفاقم الديون العالمية التي وصلت لـ253 تريليون دولار، وفق بيانات معهد التمويل الدولي.
وأوضح لوكا أن صناعة النفط ستتأثر بشدة مع انخفاض الأسعار إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل نتيجة انخفاض الطلب على النفط وفشل اتفاق أوبك+ ودخول الأسواق في حرب أسعار، مما يقلص إيرادات الشركات النفطية بأكثر من 80 في المئة، ما يعرض شركات النفط الصخري الأميركي للإفلاس نظراً للتكاليف المرتفعة وارتفاع حجم ديونها، كما يعرّض ميزانيات الدول التي تعتمد على النفط لهزات عنيفة تستغرق مزيداً من الوقت للتعافي منها.
وخفتت سريعاً التأثيرات الإيجابية للحوافز المالية التي أعلنتها حكومات الدول الكبرى لتعود الأسواق إلى حال “البيع المذعور”، وزادت الضغوط على أسواق الطاقة ليهبط سعر النفط إلى أدنى مستوى له في 18 عاماً بتداولات الأربعاء ما أدى إلى توتر المنتجين، إذ أعلنت روسيا للمرة الأولى أن أسعار النفط أصبحت منخفضة بشكل خطر، في حين استمر “ارتياح” السعودية وطلبت وزارة الطاقة في الرياض من شركة “أرامكو” مواصلة الإنتاج عند حدود 12.3 مليون برميل يومياً.
وحول أبرز القطاعات المستفيدة من كورونا، قال لوكا “سيتم التركيز بقوة على الاستثمارات بالتحول الرقمي بالفترة المقبلة واستحداث أنماط جديدة للعمل والتعليم عن بعد، في فترة ما بعد كورونا، بجانب التوسع بالإنفاق على قطاعات الصحة والدواء وإدخال أنظمة جديدة لتفادي التعرض لمثل هذه الأزمة مجددا”.
خسائر العالم العربي
وحذرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” من أن فيروس كورونا المستجد يمكن أن يتسبّب بخسارة أكثر من 1.7 مليون وظيفة في العالم العربي، حسب “أ.ف.ب”.
وتوقّعت اللجنة أن “يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن 42 مليار دولار” هذا العام على خلفية تراجع أسعار النفط وتداعيات تفشي فيروس كورونا المستجد.
وجاء في تقرير للجنة أنه “من المرجح أن تخسر المنطقة أكثر من 1.7 مليون وظيفة في عام 2020، مع ارتفاع معدّل البطالة بمقدار 1.2 نقطة مئوية”.
وأضاف التقرير أنّه “خلافًا لآثار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، من المتوقّع أنّ تتأثّر فرص العمل في جميع القطاعات”.
وأكدت اللجنة أن “قطاع الخدمات، وهو المصدر الرئيس لفرص العمل في المنطقة العربية، سيكون أكثر القطاعات تعرّضاً لآثار التباعد الاجتماعي”.
كما حذّرت منظمة العمل الدولية من أنّ الأزمة الاقتصادية والعمالية التي تسبّب بها انتشار فيروس كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 8000 شخص حتى الآن في أنحاء العالم، سيكون لها “تأثيرات بعيدة المدى على سوق العمل”.
وأعلنت الأمم المتحدة أنّ “كوفيد-19” سيؤدّي إلى زيادة البطالة بشكل كبير في أنحاء العالم، وسيترك 25 مليون شخص من دون وظائف وسيؤدّي إلى انخفاض دخل العاملين.
تراجعات عنيفة بأسواق الأسهم
وتتوالى خلال الأيام الأخيرة التراجعات العنيفة في أسواق الأسهم العالمية، لتواصل موجات هبوط غير مسبوقة، مع فشل الخطط التحفيزية الحكومية أو قرارات البنوك المركزية بخفض الفائدة في تهدئة مخاوف الأسواق.
وبنهاية تعاملات الأربعاء، أغلقت الأسهم في الولايات المتحدة منخفضة وسط خسائر عنيفة لقطاعات النفط والغاز الطبيعي، المالية والمواد الأساسية، وهوى مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 6.30 في المئة، ليصل لأدنى مستوى في 3 سنوات، بينما مؤشر ستاندرد آند بور 500 هبط بنحو 5.18 في المئة، وتراجع مؤشر ناسداك 4.70 في المئة.
رابط المصدر: