أدت جائحة «كوفيد-19» والاستجابات الصحية العامة الضرورية التي ارتبطت بها إلى أكبر وأسرع تهاو في التدفقات الدولية في التاريخ المعاصر. التقارير التحليلية التي غطت الحالة الراهنة للتدفقات الدولية، ولغتها الصعبة الوقع على أذهان المنتجين وحتى المستهلكين، تتحدث عن تراجع في معدلات التجارة العالمية بنسب يتراوح ما بين 13 – 32%، وانخفاض يتراوح ما بين 30 – 40% في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتدهور يتراوح ما بين 44 – 80% في رحلات الطيران في 2020. هذه الأرقام تشير لانتكاسة كبيرة لمكتسبات الاقتصاد العالمي جراء العولمة، فهل تعني – فيما تعني – انهيار العولمة وما يرتبط بها من أعمدة بنيان الاقتصاد العالمي؟
إن حجم التجارة العالمية تهاوى في 2020 لم نر مثيله منذ العقد المنصرم، وفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية، وهو ما يمثل انتكاسة مؤلمة، وبخاصة في هذا الظرف التاريخي الذي تتشابك فيه المصالح الدولية، وتتعقد فيه تركيبة الاقتصاد العالمي. لكن حتى في أكثر التقديرات تشاؤما حول المستقبل القريب، فإن هذه التنبؤات لا تشي بوجود تراجع تنقطع فيه الصلات بين أسواق العالم، ويبقى السؤال: إلى أي مدى يبلغ هذا التأثير، وما تداعياته على اتجاهات التفكير فيما يتعلق بالأعمدة المختلفة لهذه العولمة أو لما سيحل محلها من نظام اقتصادي دولي جديد.. إن تسنى لهكذا وضعية أن تنشأ.
الأهم في إطار الوضع العالمي الراهن أن الجائحة ترافقت معها وسبقتها جملة من العوامل التي أثرت وستؤثر – مستقبلا – على وضع الاقتصاد العالمي. فبعد عقود من النمو في التجارة العالمية والسياحة العالمية والتعاون الدولي، واجهت العولمة عقبتين في السنوات الأخيرة، حيث أدى ظهور التيارات القومية وخطاباتها الحمائية إلى تراجع عن التطور الذي أحرزته الشركات في الماضي. طبيعة الحال، كانت الجائحة ثانية المتغيرات، غير أن تباطؤ نمو التجارة العالمية بشكل كبير في عام 2019 يرجع بشكل كبير إلى التوترات التجارية بين كل من الولايات المتحدة والصين، والانسحابات الأمريكية من سلسلة من الاتفاقات التجارية من جهة أخرى. وعليه، فإن السؤال التالي هو: هل تلعب العلاقات بين كل من الولايات المتحدة والصين دورا في تعميق أزمة العولمة، وإنهاء حالة الاعتماد المتبادل التي ينطوي عليها تعريف هذه الحركة التاريخية.
هذان السؤالان يمكن تناول تداعياتهما على عدة محاور:
أولها هذه المحاور يتمثل في محور “ظاهرة العولمة” نفسها كحالة اتصالية بين دول العالم، وما يرتبط بها من تدفق “حر” لحركة رؤوس الأموال والبضائع والأفراد، ومدى تأثر هذه الظاهرة التاريخية الهائلة بالتطورات الراهنة في التفاعل الدولي من جهة، وبعد تأثير الجائحة من جهة أخرى.
أما المحور الثاني فيتمثل في سلاسل القيمة العالمية، وهي الوجه الآخر لعملة التقسيم الدولي للعمل، وما يرتبط بهذه السلاسل من تحديات أثارها صعود اليمين من جهة، وانتشار الدعاوى الحمائية القومية من جهة أخرى. النقاشات التي دارت في قطاع من مراكز التفكير العالمية حول هذا المحور تناولت كذلك قضية انتقال التبادل التجاري الحر من مربع العالمية إلى مربع الإقليمية، ليبدأ في الانحسار بين الكتل الاقتصادية المتجاورة، وما يرتبط به ذلك من دعاوى لتقصير سلاسل القيمة العالمية. فما ملامح نقاش الأدبيات حيال هذا التوجه؟
المحور الثالث الذي يمكن تقييم تطورات المشهد في إطاره هو محور التدفق الاستثماري الأجنبي عبر الحدود، وهو متغير لا يقف عند حد تباطؤ معدل العولمة والاتصال والانتقال بقدر ما يرتبط كذلك بعدة متغيرات أخرى أهمها المتغيرات الخاصة بالاقتصاد الكلي، وطبيعة الدعم الموجه من الدولة للنشاط الاقتصادي وغيرها من العوامل. وفي هذا السياق أيضا، هناك قضية الأتمتة، ودور التقدم التقني في التأثير على التقسيم الدولي للعمل، وعلى التجارة الدولية.
ويعتمد منهج الدراسة على استقراء وتصنيف نتاجات مراكز التفكير فيما يتعلق بهذه القضية الكلية ومحاورها المختلفة.
أولا: العولمة: الانتقال.. نطاق التجارة
من أقدم التعريفات الفلسفية للعولمة، تعريف رونالد روبرتسون Roland Robertson الذي يرى أن “العولمة” هي اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش. أما المفكر البريطاني أنتوني جيدنز Anthony Giddens فيعرفها بأنها مرحلة جديدة من مراحل الحداثة وتطورها، تتكاثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، ويحدث تلاحم بين الداخل والخارج، ويرتبط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية. ولا يعني هذا إلغاء المحلي والداخلي، ولكن أن يصبح العالم الخارجي له حضور العالم الداخلي نفسه في تأثيره في سلوكيات الأفراد وقناعاتهم وأفكارهم، والنتيجة هي بروز العامل الداخلي وتقويته. ويراها برتران بادي Bertrand Badie عملية “إقامة نظام دولي يتجه نحو التوحد في القواعد والقيم والأهداف، مع ادعاء إدماج مجموع الإنسانية ضمن إطاره”. غير أن تعريف “نورمان جيفان” Norman Jiwan يطال أبعادها الاقتصادية بصورة أوضحن ويرى أنها عملية تشير إلى مجموعة شاملة من العمليات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، ويوجد عند أساسها الاقتصادي تدويل التمويل والإنتاج والتجارة والاتصالات الذي تقوده أنشطة الشركات العابرة للأوطان، واندماج أسواق رأس المال والنقود وتضافر تقنيات الكومبيوتر والاتصالات السلكية واللاسلكية[1].
وهناك مساحتان في هذا المحور ناقشتهما الأدبيات التي تناولت قضية العولمة. القضية الأولى تتمثل في حالة الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي بين الدول، حيث يثور التساؤل: أنحن بصدد حالة انكفاء وانعزال عالمية أم أن حالة الاعتماد المتبادل ستستمر، وما طبيعة الاستمرار؛ وما إذا كان سيطرأ عليه تغير من نوع ما. أما القضية الثانية فتتمثل في مستوى التجارة، وهل سينتقل من نمط “تجارة المسافات البعيد لنمط المسافات القريبة، أم سيبقى الحال على ما كان عليه؟
القضية الأولى: التكامل الاقتصادي:
ثمة اتفاق على أن جائحة «كوفيد-19» قد مثلت، وما تزال، تحديا هائلا لهذه الظاهرة التاريخية التي شكلت ملامح العالم لنحو 3 عقود أو يزيد، وثمة خلاف بسيط يميل للتآكل حول مستقبل تأثير الجائحة على العولمة في نهاية المطاف. ويلفت خبراء إلى تحذير صندوق النقد الدولي لهذه الأزمة التي يراها “أزمة لا مثيل لها”، حيث تصريح “كريستالينا جورجيفا”، المدير العام للصندوق اللافت حين قالت: “لم نشهد في تاريخ صندوق النقد الدولي قط الاقتصاد العالمي في طريق مسدود”، “إنها أسوأ بكثير من الأزمة المالية العالمية”[2].
في هذا الإطار نقف بين وجهتي نظر. أولاهما ترى أن العولمة في حالة وهن لن يتركها على النحو الذي كانت عليه من قبل، وهو حال كان بسبيله إلى الضعف. فيما ترى وجهة النظر الأخرى أن العولمة عملية تاريخية، وأنها ستعاود مسيرتها فور ضبط الجائحة.
وعلى الصعيد الأول، يرى البروفيسور “ريتشارد فونتين” في دراسته التي نشرتها مجلة “فورين بوليسي”، أن الجائحة قد ولدت حواجز جديدة بسرعة مذهلة، حيث دفعت الحدود المغلقة وحظر السفر وسلاسل القيمة المشلولة وقيود التصدير الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت العولمة نفسها قد تقع ضحية للجائحة. يرى “فونتين” أن العولمة كانت تتراجع بالفعل قبل اندلاع الجائحة بفترة طويلة، حيث وصلت إلى ذروتها قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأنها لم تتعاف منذ ذلك الحين. ويرى أن الجائحة سوف تسلط الضوء على المخاطر الكامنة في الاعتماد المفرط على سلاسل القيمة العالمية، وتدفع إلى إعادة تأميم الإنتاج. وإن كان “فونتين” يؤكد على فكرة الترابط الدولي، ويخلص إلى أن النتيجة المرجحة هي تسريع التغيرات التي كانت تتحرك منذ فترة طويلة نحو شكل جديد ومختلف ومحدود أكثر من العولمة[3].
ينطلق “فونتين” من أن المؤشرات الاقتصادية الرئيسية تدعم القول بحدوث هذا التغيير. ففيما قبل الجائحة، كانت تجارة السلع العالمية لا تزال في ارتفاع، ولكن بالنسبة إلى الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي، فإن حصة التجارة اليوم أقل مما كانت عليه قبل الأزمة المالية في 2009. كما بلغت التدفقات المالية عبر الحدود ذروتها في عام 2007، وتوقف التقدم في المزيد من تحرير التجارة العالمية قبل ذلك بكثير.
ولم يعد إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي إلى أعلى المستويات التي بلغها منذ أكثر من عقد. ويلفت إلى أن الولايات المتحدة وحكومات أخرى تفرض ضوابط أكبر على تصدير التقنيات الحيوية، وأصبحت الإنترنت منقسمة بشكل متزايد على طول الخطوط الوطنية. وفي تحليله لاتجاهات الرأي العام العالمين يؤكد “فونتين” أن الجائحة لم تؤد لحركة تعاونية جمعت حكومات العالم، بل يراها المثال الأكثر دراماتيكية لنظام العولمة المنهار بالفعل.
ويلفت لمقولة بيتر نافارو، المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، لصحيفة “فاينانشيال تايمز”: “في حالة طوارئ الصحة العامة العالمية، تكون الولايات المتحدة وحدها”، مضيفا: “إن هذا بالتحديد هو السبب في أنه من المهم لإدارة ترامب إعادة قدراتها التصنيعية وسلاسل القيمة للأدوية الأساسية، وبالتالي تقليل التبعيات الخارجية لأمريكا”. ومع أمثلة عدة على تصاد دعاوى الاكتفاء والانطفاء وتوطين الصناعة والإثرة فيما يتعلق بالإمدادات الطبية، فإن مثل هذه المشاعر دفعت قطاعا واسعا من الحكومات عبر العالم بإعادة التفكير على نطاق واسع في السفر الدولي والهجرة ومخاطر سلسلة القيمة وضوابط التصدير وتبادل المعلومات والمزيد، وهي كلها المكونات الرئيسية للعولمة نفسها. من المحتمل أن تكون كلمة السر الجديدة هي تقليل المخاطر بدلاً من تقليل التكلفة.
ويؤكد “فونتين” على أن صيت العولمة هو ما سيؤدي لإعادة تشكيلها. حيث يلقي المفكرون والسياسيون باللوم على العولمة في الأزمات المالية – ليس فقط الأزمة العالمية في عام 2008، ولكن أيضًا الأزمة الآسيوية عام 1997 وغيرها في روسيا وتركيا والإكوادور وقبرص وأماكن أخرى.
ويلفت إلى اعتقاد الكثيرين أن العولمة أدت إلى المنافسة الشرسة في جميع أنحاء العالم، ووسعت نطاق عدم المساواة في الدخول والثروات بين الدول وداخلها، وأن سلاسل القيمة المجزأة التي تتطلب نقل البضائع عبر الحدود عدة مرات تستهلك المزيد من الطاقة وتنتج انبعاثات غازات دفيئة أعلى، لكنه يقلل من أثرها على مستوى الجوائح، حيث يرى أن خطر انتشار الأمراض بسرعة عبر القارات ليس جديدًا؛ وأنه منذ عام 2003، شهد العالم جوائح متتالية من السارس وإنفلونزا الخنازير ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والإيبولا وفيروس زيكا.
ففي نظر “فونتين”، لن يؤدي أي تطور في التقسيم الدولي للعمل، أو في اختلاف طبيعة سلاسل القيمة، إلى إنهاء ظاهرة العولمة التاريخية، بل يرى أنه من المرجح أن يرى العالم نسخة مختلفة ومحدودة أكثر من التكامل العالمي عن تلك التي عرفناها خلال العقود الثلاثة الماضية. فالعولمة بنظره لن تختفي، أو لن تتلاشى العديد من الدوافع الرئيسية للعولمة – الشحن والبيانات وتدفقات رأس المال، وفهمنا للميزة النسبية ووفورات الحجم.
ولكن بسبب مجموعة من التغييرات في المشاعر الشعبية، وسياسة الحكومة، وممارسات الشركات، فإن العولمة سوف تتغير. فلن تمثل الجائحة نهاية حقبة، ولكن ستنتج تحولات بهذه الحقبة. وفي تفصيل لحالة الإنهاء والتحول، يرى “فونتين” أن الجائحة قد تمثل نقطة النهاية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث انتهى سحر التكامل الدولي المتزايد من وجهة نظره، ولكن سيكون من الحماقة استبدال العولمة بنفس النوع من الانعزالية والحمائية التي أفقرت الأمم من قبل. ستكون طبيعة المرحلة التالية من العولمة – والخطوط الدقيقة لنمط أكثر انتقائية للمشاركة عبر الحدود والاعتماد المتبادل بعد الوباء – هي السؤال الأكبر الذي ستقدم إجاباته العديد من المناقشات السياسية الأكثر أهمية في السنوات القادمة.
في إطار هذه الوجهة من النظر، يمكن الإشارة للملامح التالية[4]:
أ. ستصبح الاقتصادات المختلفة أقل اعتمادًا على نقاط توريد محدودة – أي أقل اعتمادا على الصين. وفي حين يرى أن سلاسل القيمة الهشة ليست لائحة اتهام للعولمة في حد ذاتها، يرى أن هشاشة هذه السلاسل تتمثل في اعتماد الشركات تعتمد على مصادر إمداد واحدة، ما أدى لارتباك المعروض العالمي مع تأثر مصادر الإمداد هذه، ما يجعل من اليسير استيعاب فكرة اتجاه الشركات، سواء بمفردها أو بناءً على طلب من حكوماتها، باتجاه تنويع إمدادات المدخلات الرئيسية وتتحول إلى الإنتاج المحلي أو الإقليمي.
ب. سيستمر التكامل الاقتصادي، لكنه سيستمر في التحول من المستوى العالمي إلى المستوى الإقليمي والثنائي. حيث أدى استمرار حرية التجارة لرفض الولايات المتحدة استمرارها بالشكل الذي كانت عليه، واتجه الاتحاد الأوروبي نحو إبرام اتفاقيات تجارية منفصلة مع كوريا الجنوبية واليابان، وتتحدث الدول الأفريقية عن منطقة تجارية على مستوى القارة، كما دخلت شراكة المحيط الهادئ حيز التنفيذ بعد انسحاب واشنطن منها. وحتى مبادرة الحزام والطريق الصينية تعمل على إنشاء روابط إقليمية وثنائية، وليس روابط عالمية.
ومع فارق بسيط نسبيا عن هذه الرؤية، كتب الأكاديمي “ستيفن ألتمان” في “هارفارد بيزنس ريفيو” يفيد بأنه على الرغم من أن الجائحة سطرت مدخلا جديدا في “نعش العولمة”، إلا أن تأثير الجائحة سيكون محدودا على العولمة كعملية اعتماد متبادل. ويضيف أن المفكرين والخبراء يرون أن معظم مسارات التكامل التجاري التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية سوف تظل فعالة. ويرى “ألتمان” أن البيانات الأخيرة، والتقارير الصادرة عن بيوت المال العالمية، تفرض على صناع القرار أن يخططوا، وأن يعيدوا هيكلة، صورة للعالم تنطوي على قدر من التوازن بين العوامل الداعمة للعولمة؛ وتلك الهادمة لها، أن تعمل لتحافظ على ملامح بيئة العمل[5].
ينطلق “ألتمان” من مؤشر “الرحلات العالمية”، والذي يرى أن انهياره يعد مؤشرا دالا في تراجع معدلات النمو الأكثر ثباتا التي اتسمت بها عملية التواصل عبر العالم خلال العقود الماضية، ولا يجادل في تأثيراته السلبية. فالسياحة – بتقييمه – تساهم بشكل أكبر في التبادل العالمي أكثر من صناعة السيارات، كما أن السفريات العالمية تؤدي لتسهيل الاستثمارات والتجارة العالميين. انهار هذا المؤشر منذ نهاية أبريل 2020، حيث فرضت كل الدول قيودا على السفر للخارج، وقامت نحو 45% من دول العالم بفرض إغلاق جزئي أو كلي لحدودها في وجه الزوار الأجانب، وهو ما أدى تراجع لافت في حالة السفر عبر العالم، حيث كانت شركات الطيران تسير رحلاتها مع نسبة إشغال أقل بنحو 90% فيما يتعلق بالرحلات الدولية، مقارنة بنسبة إشغال أكبر في الرحلات الداخلية التي كانت تبلغ نسبة التراجع فيها 62%. هذا الانهيار غير المسبوق أعقب ازدهارا واسعا لقطاع السفر بدأ يتنامى منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو ما يعني أنه حتى لو انخفض عدد السفرات حول العالم بنسبة الثلثين؛ فإن عدد المسافرين حول العالم سيظل أكبر مما كان عليه في العام 2003[6].
ومن جهة أخرى، لا تشير كل المؤشرات إلى نفس الاتجاه الذي يفيد بتراجع العولمة قبل الجائحة على النحو الذي طرحته الرؤية الأخرى، وحتى فيما بعد الجائحة. حيث تشير البيانات المتاحة إلى حدوث انخفاض فعلي في كثافة التجارة في السلع، لكن التبادل عوض ذلك التراجع من خلال ارتفاع مؤشر تبادل الخدمات. كما ارتفع معدل تدفق البيانات عبر الحدود بشكل كبير، حتى مع سعي دول مثل الصين وإيران لتقييده. وكان السفر الدولي والدراسة في الخارج في أعلى مستوياته على الإطلاق قبل الجائحة، وكانت الهجرة واسعة جدًا لدرجة أن الكثيرين وصفوا اتساعها بأنه يشكل أزمة اقتصادية. بشكل عام، كان الانخفاض الصافي من ذروة العولمة أكثر تواضعا مما يروج له[7].
ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية، فإن التجارة يمكنها أن تعود إلى مستويات ما قبل الأزمة بسرعة ما إن يتم احتواء الجائحة، والسيطرة عليها، بل إن المدير العام لمنظمة التجارة العالمية “روبرتو أزيفيدو” أعلن في بيان صحفي حول هذه المسألة أنه “من الممكن حدوث انتعاش سريع وقوي”، وأضاف أن مفتاح هذه العودة لا يحتاج سوى “إبقاء الأسواق مفتوحة وقابلة للتنبؤ بها، فضلاً عن تعزيز بيئة أعمال مواتية بشكل عام، ما سيكون أمرًا بالغ الأهمية لتحفيز الاستثمار المتجدد الذي ستثور الحاجة إليه. وإذا عملت البلدان معًا، فسيشهد العالم تعافيًا أسرع بكثير مما لو عمل كل بلد بمفرده”[8].
إن طرح “أزيفيدو” له ملمحان أساسيان: أولهما أنه يرى في التحول في النظام الاقتصادي من الانفتاح الدولي للنظام الحمائي مدخلا لتباطؤ تعافي التجارة الدولية، كما أنه يرى أن ازدهار التجارة والاتصال الدولي حلقة دائرية، ما إن تبدأ جهود التواصل لأجل رأب صدعها حتى تكتمل الدائرة مجددا وتعاود الانتعاشة القوية. لكن هذا الطرح يفترض تراجع الاتجاهات اليمينية، ويفترض أن ثمة قدرة على معالجة آثار هشاشة سلاسل القيم العالمية من دون حدوث تحول ولو جزئي في بنية التجارة العالمية.
القضية الثانية: نمط التجارة العالمية:
القضية الثانية في هذا المحور تتعلق بنمط التجارة العالمية وما سيطرأ عليه من تغيرات. إن أحد أهم الأبعاد التي تتعلق بالعولمة وسلاسل القيمة العالمية يتمثل في نطاق التجارة، وهل سيعود النطاق عالميا كما كان، أم أن ضغوط الجائحة سوف تؤدي إلى انكماش التجارة على مستوى المسافات البعيدة، وتزايدها على مستوى المسافات القريبة. هذا النموذج محل التساؤل لن يضر العولمة في صورتها الكلية، وإنما سيعني بناء شكل أكثر جدة في إطارها، حيث يظل معدل الكفاءة في تخصيص الموارد هو السائد، ولكن من دون مسافات طويلة تؤدي لتزايد انبعاث الكربون، وتكون فيها حالة التباين الثقافي مدخلا لحدوث تطورات تضر بسلاسل القيمة عبر المسافات البعيدة على نحو ما عاناه العالم بعد الإغلاق الصيني.
في هذا الإطار، لدينا اتجاهان، أولهما يقول بأن النمط سيظل على حاله، وسيشهد انتعاشة فور وضع الجائحة تحت السيطرة، وثانيهما يذهب إلى النقيض، ويؤكد أن النمط العالمي للتجارة سيتغير باتجاه نمط أكثر إقليمية.
فعلى صعيد النموذج الأول، يرى الفريق الذي يشير لمعاودة العولمة ازدهارها، فيرى “ألتمان” أن الكثيرين تنبأوا بأن جائحة «كوفيد-19» سوف تسرع من شرخ الاقتصاد المعولم على طول الحدود الإقليمية، مع منافسة تكتلات تتمركز في كل من الولايات المتحدة والصين، وربما أوروبا. لكنه يرى أن حقيقة كون أوروبا أكثر مناطق العالم اتصالية، وأنها ناضلت من أجل الوصول لاستجابة موحدة للجائحة؛ يمثل سببا كافيا للاعتقاد بأن إحياء النزعة المناطقية لن يكون الخاتمة النهائية. فمعظم التدفقات الدولية تتم بين المناطق المتجاورة، ولم تشهد التجارة قصيرة المسافة نموا بشكل أسرع من التجارة بعيدة المسافة على مدار الأعوام الخمسة الماضية[9].
ويرى فريق آخر أن التكامل الاقتصادي سيستمر، لكن استمراره ينحو به نحو التحول من المستوى العالمي إلى المستوى الإقليمي والثنائي. يرى انصار هذا التوجه أن المحادثات التجارية العالمية متعددة الأطراف لم تسفر عن أي دعم لتوجه التجارة العالمية منذ جولة أوروجواي 1993، بل على العكس، حيث اتجه الاتحاد الأوروبي نحو إبرام اتفاقيات تجارية منفصلة مع كل من كوريا الجنوبية واليابان. ومن جهة أخرى، تتواصل الدول الأفريقية حول منطقة تجارية على مستوى القارة، وتسعى نحو بناء سوق مشتركة، وتساندها في هذا الاتجاه الدول التي ترغب في بناء شراكات مع القارة السمراء، أبرزها تركيا وفرنسا والإمارات. ومن جهة ثالثة، لم تدخل شراكة المحيط الهادئ حيز التنفيذ إلا بعد انسحاب واشنطن منها، هذا فضلا عن سعي هذه الأخيرة مؤخرا لإبرام اتفاقيات ثنائية، كان أبرزها تلك الاتفاقية التي وقعتها مع الصين؛ والتي حاصرتها جائحة «كوفيد-19» والدعاية التي ارتبطت بها، وأيضا تلك الدعاية التي سبقتها متمثلة في أزمة شركة “هواوي”. وبالحديث عن الصين، فإنه حتى مبادرة الحزام والطريق الصينية تعمل على إنشاء روابط إقليمية وثنائية، وليس روابط عالمية[10].
ثانيا: سلاسل القيمة العالمية ودور الدولة
قوام التجارة والاقتصاد العالميين يقومان على سلسلة روابط معقدة تسمى “سلاسل القيمة العالمية” Global Value Chains، والتي تربط المنتجين عبر بلدان متعددة لإنتاج منتج واحد، حيث يستخدم المنتجون سلعًا وسيطة عالية التخصص، أو مدخلات إنتاجية دقيقة، ينتجها مورد خارجي واحد بعيد. المشكل الذي أصاب هذه السلاسل أن جائحة «كوفيد-19» قد أضرتها بشدة.
وكما أسلفنا الإشارة، فقد كان الأداء الاقتصادي في بداية 2020 هشا، وكان قطاع واسع من الاقتصاديين يأملون زيادة التجارة الدولية بعد اتفاق التجارة الذي وقعته كل من الولايات المتحدة والصين، وأدت الجائحة إلى إفساد تلك الآمال، مما أدى إلى توقف المصانع في العالم وتعطيل سلاسل القيمة العالمية بشدة. العطب الذي أصاب الاقتصاد الصيني كان مسؤولا عن هذا التعطيل. وبحسب إحصاءات الجمارك الصينية، تراجعت قيمة الصادرات الصينية في الشهرين الأولين من عام 2020 بنسبة 17.2٪ على أساس سنوي، بينما تباطأت الواردات بنسبة 4٪.
وقد أثر هذا الانخفاض في التجارة الصينية على بعض الأسواق أكثر من غيرها، حيث تكشف الأرقام المقارنة بين الشهرين الأولين من عام 2019 ونظيريهما من عام 2020 عن انهيار التجارة الصينية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فقد انخفضت الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 29.9٪، بينما انخفضت الواردات من الاتحاد الأوروبي بنسبة 18.9٪. كما تراجعت الصادرات والواردات إلى – و – من الولايات المتحدة بنسبة 27٪ و8٪ على التوالي[11]. بهذا، أعادت الجائحة السياسات المتعلقة بسلاسل القيمة لصدارة الاهتمام، حيث إن التغيير في منظورات التعاطي معها بإمكانه أن يؤدي إلى إعادة هيكلة التجارة وتدفقات رؤوس الأموال العالمية.
الجدل في هذا الإطار يتمثل في تلك المناظرة بين “منظور التكرار” في مواجهة منظور “إعادة التوطين”. فهل ستبحث كل من الشركات والدول عن درجة أمان أعلى فيما يتعلق بالتنوع العالمي، أم أن الدول ستبحث في مسألة تعزيز الاكتفاء الذاتي؟ ويجيب “ستيفن ألتمان” من “هارفارد” بأن المنطق الاقتصادي يحبذ دوما الاقتراب الأول؛ وهو اقتراب “التكرار”، وهو الخاص بالبحث عن صيغة أمان أعلى داخل المنظومة التي كانت سائدة من قبل في التعاون الدولي، ستعمل الدول في هذا الإطار على توفير درجة أعلى من الأمان من خلال الحفاظ على مخزونات قومية للاحتياجات الأساسية.
هذه هي الصورة المثالية من جانب رجال المال والأعمال. فإذا كان “نموذج التكرار” هو الأساس وكان “نموذج الاكتفاء الذاتي”، أو “نموذج التوطين”، هو الاستثناء، يمكننا توقع تراجع متواضع في معدل نمو التجارة العالمية، مقرونا بحالة من تنوع أكبر للشركاء التجاريين[12].
ويلفت مجموعة باحثين لشبكة “كونفرسيشن” الأمريكية، أنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالأزمة القادمة. لكن التأمين الأكثر موثوقية وفعالية حتى الآن هو بناء شبكة تعاون دولي قوية. حتى الآن، لا يزال الإجماع السياسي العالمي على هذا الأمر بعيد المنال. لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نفقد الطموح على الإطلاق[13].
ويرى باحثون أن ثمة عواقب وخيمة قد تتولد في حال تحرك الحكومات لمنع الصادرات أو تأميم الشركات أو إعادة توجيه الطلبات أو تقييد الصادرات؛ على نحو ما هددت به إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، فإن الاتحاد الأوروبي سوف يحذو حذوها.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما القوة الاقتصادية الكافية التي من المحتمل أن يتوصلا إثرها إلى اتفاق، فإن أوضاع البلدان النامية ستكون مدعاة للقلق، حيث لا يوجد بها أي موردين محليين، وسيتعذر وصولهم إلى المعدات الأساسية والأدوية والمواد الغذائية الأساسية بسبب قيود التصدير في البلدان المتقدمة. إننا نشهد بالفعل ارتفاعًا بمقدار 5 أضعاف في أسعار الإمدادات الطبية، وسيكون من الصعب على الدول الفقيرة تحملها[14].
وعلى الجانب الآخر، يطرح المنتدى الاقتصادي العالمي رؤية أخرى مفادها أن العولمة قد تندحر على الصعيد التجاري، واستنادًا لبيانات البنك الدولي، فإن حجم التجارة العالمية – المقاس هنا كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي – ظل راكدًا نسبيًا لسنوات، بعد عدة عقود من النمو المستمر. في أعقاب تراجع التجارة الناجم عن الأزمة المالية العالمية في عام 2009، لم تعد التجارة العالمية أبدًا إلى مسار نموها السابق ويتوقع الكثيرون تأثيرًا مماثلًا طويل الأجل للأزمة الحالية.
وبعد دور الجائحة في التذكير بالعديد من نقاط الضعف في سلاسل القيمة العالمية، يمكن أن يقود الوباء والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين الشركات نحو نهج محلي أكثر للإنتاج والمصادر (نموذج الاكتفاء الذاتي)، مما قد يؤدي إلى انخفاض مستدام في التجارة العالمية[15].
وفي هذا الإطار، على سبيل المثال، يمكننا فهم رئيسة المفوضية الأوروبية، “أورسولا فون دير لاين”، إلى “تقصير” سلاسل القيمة العالمية لأن الاتحاد الأوروبي يعتمد بشكل كبير على عدد قليل من الموردين الأجانب. وبالمثل، دعا الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى تعزيز “السيادة الاقتصادية” الفرنسية والأوروبية من خلال الاستثمار في الداخل في قطاعي التكنولوجيا العالية والطب[16].
إن مثل هذه الدعوات تنطلق من أرضية “الأمن القومي”، وهو طرح آخر داخل الطرح القومي بعيدا عن السياسات اليمينية. فسلاسل القيمة العالمية معقدة للغاية، ولا يوجد قطاع أو بلد يمثل جزيرة. إن المخاوف بشأن الاعتماد المفرط على سلاسل القيمة العالمية المعقدة لها ما يبررها في حالة المنتجات المتعلقة بالأمن القومي، مثل الإمدادات الطبية. وستتحرك دول كثر الآن لضمان قدرتها على إنتاج مثل هذه السلع دون الاعتماد على الواردات.
وفيما يسلط الكثيرون الضوء الآن على مخاطر الاعتماد على سلاسل القيمة العالمية – ولا سيما تلك المرتبطة بالصين – مما يؤدي إلى الحديث عن “تراجع العولمة”[17]، لا ينكر “فونتين”، في دراسته التي نشرتها مجلة “فورين بوليسي”، ما قدمه الترابط العالمي للسلع والخدمات ورأس المال والأشخاص والبيانات والأفكار من فوائد لا يمكن إنكارها. لكن يشير إلى أنه خلال هذا الوباء، دخلت مخاطر الاعتماد بشكل كامل في الوعي العام. بالنسبة للمستهلكين في الولايات المتحدة، جاءت أول علامة مرئية لها عندما أدى إغلاق المصانع التي في الصين – بسبب الجائحة – إلى تأخير تسليم شركة “أبل” لأجهزة “آي فون”، وأبلغت شركات أخرى عن حدوث مثيلات تلك الانقطاعات تباعا.
وفي هذا الإطار، وعندما انتشر الوباء في الولايات المتحدة، علم الأمريكيون أن 72% من المنشآت التي تنتج المكونات الصيدلانية لاستهلاك الولايات المتحدة موجودة في الخارج – معظمها في الاتحاد الأوروبي والهند والصين، وتم الإبلاغ لاحقا عن أن الحصة تصل إلى 97% من المضادات الحيوية. بعد ذلك، لم تغلق البلدان الليبرالية المنخرطة عالميًا مثل فرنسا وألمانيا حدودها أمام المسافرين فحسب، بل منعت تصدير أقنعة الوجه، حتى إلى الدول الصديقة. ويخلص “فونتين” إلى أنه عندما تحارب كل دولة فجأة من أجل نفسها، تبدو فكرة الترابط الدولي أمرا يستحق إعادة التفكير على أقل تقدير.
بهذا المعنى، فقد حفزت الجائحة استجابات الدولة بدلاً من الاستجابات الدولية ذات الصبغة التعاونية، وهو ما عزز الحجج القومية لإعادة تشكيل التصنيع والمزيد من مطالبات الحد من الهجرة. حيث اتخذت الحكومات حتى الآن قرارات إلى حد كبير من تلقاء نفسها ودون تشاور يذكر. فمن جهة، عقدت “مجموعة العشرين” قمة طارئة لقادة العالم (عن طريق التداول عبر الهاتف بالطبع) أنتجت بيانًا لطيفًا من التعهدات المجردة ولكن مجردة من أي التزامات محددة، في حين اشترت الحكومة الصينية إنتاج البلاد من أقنعة الوجه بدلاً من بيعها، ومنعت الحكومات الأوروبية الرئيسية تصديرها مؤقتًا، وتم تداول تقارير عن محاولات الولايات المتحدة شراء شركة تصنيع لقاحات ألمانية للاستخدام الحصري لتقنيتها. قد تكون أزمة فيروس كورونا عالمية، لكن الاستجابات كانت تميل نحو الانكفاء حتى الآن من وجهة نظر “فونتين”[18].
هذا من جانب “قوة العرض”، لكن “بنجامين ليكر” في دراسته التي نشرها بمجلة “فوربز” المعنية بشؤون الثروة، يعالج جانب “قوة الطلب” وتأثيره، ويضرب المثل بما تابعه العالم من اتخاذ بعض الحكومات إجراءات لمنع تصدير العناصر التي تعتبرها ضرورية، وهو بنظره ما سيقود إلى أن نشهد المزيد والمزيد من القومية عندما يتعلق الأمر بما تعتبره الحكومات موارد أساسية وسلعًا ضرورية لشعوبها. فعلى صعيد قضية الأمن الغذائي، عملت دول مثل كازاخستان وصربيا والمغرب على تأمين الإمدادات الغذائية، وسعت إلى الحد من صادرات المواد الغذائية الأساسية، مثل القمح والأرز وغيرها.
وقد امتدت القومية إلى المفهوم الأوسع لـ “الأمن القومي”، حيث تذرعت العديد من البلدان بالقيود أو اتخذت إجراءات لتأمين الإمدادات الطبية، فحظرت الهند – على سبيل المثال – تصدير الأدوية “الرئيسية”، من أشياء بسيطة مثل الباراسيتامول إلى أقنعة الوجه والكلوروكين، كما هددت الولايات المتحدة بتأميم الشركات الرئيسية التي تصنع المعدات الطبية، على أساس الأمن القومي، كما حاولت عزل إنتاج 3M من معدات السلامة من مصنعها في سنغافورة حصريًا للولايات المتحدة، على الرغم من أن 3M كانت تنتج لعملاء آخرين. وفي هذا الإطار، برزت أزمة شركة “فيليبس” التي يحتاج إنتاجها من أجهزة التهوية التي تصنعها في مصنعها بالولايات المتحدة إلى مكونات أوروبية، وفي هذا الإطار، كان ممكنا أن تؤدي أية محاولة لإجبار هذه الشركة على إعطاء الأولوية لعملاء الولايات المتحدة؛ وتجاهل الطلبات المتعاقد عليها قانونيًا، إلى نوع جديد من الحرب التجارية للسيطرة على الموارد الحيوية[19].
في نفس الإطار، لم يستبعد “ألتمان” أن تؤدي الضغوط السياسية إلى اللجوء للخيار الثاني في بعض الأحيان وفي هذا الإطار، يسوق “ألتمان” للبحث الذي أجراه البروفيسور “بانكاج جيماوات” في جامعة نيويورك، والذي يلقي الضوء على سمات عدة للصناعات التي تتسم بحساسية عالية حيال التغيرات السياسية، مثل المنتجات الضرورية للصحة العامة أو الأمن القومي، وترتبط كذلك بتلك المنتجات التي تباع للحكومة مقارنة بتلك التي تباع للأفراد، كما تتعلق بتلك الصناعات التي تكون فيها حجم القوة العاملة أكبر[20].
الفارق أن ما طرحه “ألتمان” يمثل رؤية سياسية، فيما الطرح الذي قدمه “فليكس ريختر” للمنتدى الاقتصادي العالمي و”فونتين” في “فورين بوليسي” يمثل طرحا هيكليا يمثل الامتداد الطبيعي لتعثر التجارة العالمية بعد أزمة 2009.
هذا واضح من التفضيلات السياسية التي عبر عنها العديد من السكان في جميع أنحاء العالم. ويؤكد “فونتين” أنه حتى أكثر السياسيين توجهاً نحو العالم اليوم يتجنبون الترويج لفوائد الحدود المفتوحة، وتدفقات التجارة والأموال، والمشاركة الدولية. هذه الأطروحات الخاصة بالاكتفاء الذاتي كانت أحد أهم أسباب فوز سياسيين بالعديد من الانتخابات الأخيرة، عبر التأكيد على أضرار ما أصبح يُسخر منه على أنه “عولمة”، وتقديمهم الوعود بالحماية من آثار الانكشاف[21].
ويرى “ليكر” أنه من الصعب جدًا إعادة توظيف سلاسل القيمة أكثر مما يفترض الناس، حيث إن حالة عدم اليقين تمثل أكبر عقبة أمام الشركات لأنه يعيق قدرتها على التخطيط وتخصيص الموارد المالية والبشرية لمشاريع محددة والحفاظ على انخفاض تكاليفها. فمديرو الشركات وملاكها يتكبدون مصاريف باهظة للإنفاق على المعلوماتية؛ للتنبؤ بالطلب لعدة أشهر مقدمًا.
لكن من الصعب القيام بذلك الآن لأن سلاسل القيمة عالمية للغاية. وخلال الجائحة وحدها، فعلى سبيل المثال، لم يكن قرار زيادة إنتاج أجهزة التنفس الصناعي وأي من الإمدادات الطبية بقرار يسير، كما أن قرار زيادة الإنتاج ليس بالأمر السهل على الإطلاق. فعادة ما تكون المدخلات مطلوبة من عدة موردين قد يكونون موجودين في أماكن مختلفة، وبعضهم يواجه حالات إغلاق.
يلفت “ليكر” إلى أن الحديث عن حلول بديلة مثل إعادة استخدام المصانع لمحاولة تصنيع معدات طبية، لكن هذا ليس بهذه البساطة. من الصعب إعادة توظيف المصانع وإعادة تدريب العمال وترتيب موردين جدد والحصول على الشهادات اللازمة، وهي المشقات التي واجهتها كل من Dyson وAirbus[22].
إلا أن ذلك لم يكن وحده ما طرحه “ليكر”، حيث إن الأخير دعا لإعادة تعريف المهن الأساسية لأجل مساندة تحول اكتفائي كهذا. لفت الباحث في هذه الورقة إلى أن أهم التحديات ونقاط الضعف في التوزيع والجوانب اللوجستية لسلاسل القيمة، تتمثل في أن اللوجستيات والتوزيع كثيفة الاستخدام للأفراد. فلا يمكن تحميل السفن وتفتيش البضائع وقيادة الشاحنات والقطارات بدون أشخاص.
وفي نفس الوقت، فإن نسبة جيدة من هؤلاء الأشخاص غير قادرين على العمل لأنهم لا يعتبرون أساسيين أو مصابين. حتى عندما لا يكونون كذلك، فقد تكون هناك قيود على حركتهم. باختصار، بينما قد تكون هناك سلع متاحة للشراء (على سبيل المثال، تمتلك الصين الكثير من إمدادات معدات الوقاية الشخصية)، ولكن كيف يمكنك نقلها إلى حيث تحتاجها، في أوروبا أو أمريكا؟ وبالتالي، قد يتطلب الأمر من الحكومات إعادة النظر في المهن الأساسية، والتوسع في تعريفها لتشمل هذه المهن. ويلفت إلى أن هذا الأمر سيرفع التكاليف، لأن هؤلاء الأشخاص سيرغبون في الحصول على تعويض مناسب[23].
ثالثا: انتقال الاستثمارات والتقنية
أدت الاحتكاكات الدولية، وهشاشة العلاقات بين القوى العظمى إلى زعزعة استقرار البيئة الاقتصادية الدولية قبل جائحة «كوفيد-19»، وأدت الجائحة – كذلك – إلى إضافة المزيد من عوامل تعقيد هذا المجال من مجالات العلاقات الدولية، كما أدى هذا الوضع إلى توسيع نطاق قوة الدولة. وفيما تركز قطاعات من مراكز التفكير المرتبطة بقضية التجارة الدولية وبنيتها التحتية من إنتاج السلع والخدمات وتأثيراتها على معاودة الانطلاق، تتساءل مراكز أخرى عن إطار الانطلاق.
وإذا كان من المستبعد أن يؤدي التهاوي الذي تكابده التجارة العالمية إلى العصف بالعولمة، فإن التساؤلات تثور تباعا حول الانحدار الكبير المتنبأ به فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر. فمثل أية تدفقات مالية أخرى، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تميل إلى أن تكون متقلبة، ولهذا فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى مضاعفة التأثير السلبي، ومد أجله لفترة طويلة نسبيا من الزمن. إن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، على سبيل المثال، قد تهاوت بنسبة 38% خلال الأزمة المالية العالمية. إلا أن ذلك لم يؤد إلى تراجع ذي دلالة بالنسبة لنشاط الشركات الكبرى، حيث إن نشاط هذه الشركات لا يقتفي أثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة[24].
ويمكن في هذا المحور كذلك الحديث عن دور التقنية في دعم توجهات الاستثمار في كلا الاتجاهين.
أ. مستقبل الاستثمارات:
ففيما يتعلق بالمجال الخاص بمعاودة الانطلاق، وهي رؤية في مجملها تنتمي للتوجه الرافض لإحداث تغييرات جذرية على النموذج العولمي، تركز بيوت التفكير في هذه المساحة على أنه يمكن استرداد معدلات النمو القوية بمجرد وضع الجائحة تحت السيطرة. وترى أنه لابد من الوعي بأن العولمة يمكنها أن تكون أحد أعمدة التعافي الاقتصادي والصحي كذلك. ويرى انصار هذا التوجه أن البلدان التي تتسم بمعدل اتصالية أعلى بالعالم من حولها تكون الأكثر قدرة على استعادة النمو والتعافي. وثمة أدلة عدة على أن الدول الأكثر انخراطا في العلاقات مع المجتمع الدولي، حتى مع السيطرة إحصائيا على معدلات التنمية الاقتصادية، تكون أقل عرضة لانفجارات صحية وبائية بسبب قوة نظم الرعاية الصحية بها[25].
أما التوجه الثاني لدى بيوت التفكير، فيتعلق بالإطار الذي ستعمل فيه الشركات مستقبلا، في هذه البيئة الخاضعة لضغوط سوء الظن بسلاسل القيمة العالمية، يكون من أولى التساؤلات التي تثيرها الشركات، السؤال حول اتجاهات تفكير الحكومات في التعامل مع الوضع المستقبلي، وترى أن هذا السؤال أهم من مناقشاتها قرارات استمرار الإنتاج أو زيادة رأسمالها، حيث إن الأسواق تكون لها الأولوية، ويكون ثمة قواعد طلب للتعاطي معها[26].
الاتجاه الأول يركز على مسارات استعادة رؤوس الأموال عافيتها، مع افتراض بقاء النظام العالمي من دون تشوهات يمكن لتدخلات الدول أن تحدثها في بنية الاقتصاد العالمي، بما يخل بكفاءة استغلال الموارد. في هذا الإطار،
تركز الأدبيات في هذا الإطار على الشروط التي يمكن في إطارها معاودة الثقة بين رأس المال المحلي أو الأجنبي والدولة. من هذا المنطلق يكون لدينا مساران فيما يتعلق بمعاودة بناء الثقة وطمأنة الطرفين لبعضهما. فثمة مسار طمأنة رأس المال الأجنبي وحتى المحلي للدولة والمجتمع، وثمة مسار طمأنة الدولة لرأس المال.
فيما يتعلق بمسار طمأنة رأس المال لكل من المجتمع والدولة، يرى “فونتين” أنه ربما تكون التهمة الأكثر ذيوعا ضد العولمة هي أنها تعزز مصالح النخبة العالمية على حساب الأغلبية السكانية، لكنه يؤكد أن هذا ليس قريبًا من أن يكون صحيحًا، ويحاجج بأن الترابط الاقتصادي الدولي أدى إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير، وساهم في خفض ظاهرة الفقر، ورفع مستويات المعيشة، وأدى لتحسين الصحة، وجعل المعلومات متاحة بشكل كبير أكثر من ذي قبل.
ومع ذلك، فإن العديد من هذه الفوائد منتشرة وتعتبر أمرا مفروغا منه، في حين أن التكاليف – وظائف التصنيع المفقودة، على سبيل المثال – تظل لافتة. وأولئك الذين يعيشون في الطرف الخاسر من العولمة لديهم الآن صوت سياسي جديد: الأحزاب الشعبوية التي تعد بالسيادة والقومية والحلول المحلية، فضلاً عن إضعاف المؤسسات الدولية التي تقودها النخبة والتي تبدو غير خاضعة للمساءلة[27].
وفي هذا الإطار، تدافع “كيمبرلي كلوزينج” في “هارفارد ريفيو”، عن نمط الاقتصاد المفتوح، القائم على دور محدود لتدخل الدولة، وترى أنه مهم لتعزيز المنافسة، والتي تحتاج بدورها لسلاسل القيمة لتكون قادرة على المنافسة في الاقتصاد العالمي[28].
إطار محدودية تدخل الدولة هنا يرتبط بعدم إلهاء رأس المال بعلاقات صراعية ناجمة عن تعقد بيئة العمل الدولية نتيجة سياسات حمائية مضادة، أو سياسات تمييزية من أي نوع. ويساند “ألتمان” هذه الرؤية موضحا أن عولمة أنماط النمو أحد أهم العوامل التي يمكن استثمارها في معالجة التحديات التي تواجه العولمة وانتقال رؤوس الأموال. فالتدفقات العالمية تميل للتأرجح بصورة حرجة مع دورات الاقتصاد الكلي، وكلما ضمنا دورة اقتصاد كلي كفء؛ ستنمو التدفقات العالمية بصورة أكبر من معدل نمو النواتج المحلية الإجمالية، والعكس صحيح[29].
لكن “كلوزينج” ترى أن معاودة الثقة في الاستثمارات الأجنبية تقتضي “تعديلا” ثقافيا يقتضي اعتناق رأس المال للوائح عادلة لضمان الصحة والسلامة وحماية البيئة، ودفع حصة عادلة من الضرائب، والتزام مزيد من الشفافية بشأن الضرائب، ومد نطاق هذه الشفافية لكل ما يرتبط بهياكل الأجور وتمثيل العمالة، علاوة على أهمية إعادة التفكير في قوانين مكافحة الاحتكار.
تؤكد “كلوزينج” على أن مصالح المجتمع والأعمال كثيرًا ما تتطابق، وأنه يمكن لاقتصاد مفتوح مع طبقة وسطى سليمة اقتصاديًا ومؤسسات قوية ومستقرة أن تعود بالفائدة على الجميع. كما ترى “كلوزينج” أن الاقتصاد المفتوح يتطلب مجتمعا مفتوحا، حيث توفر سياسة تشجيع الهجرة أحد المصادر الحيوية للمواهب الريادية، بالإضافة إلى المهارات التي يوجد نقص في المعروض منها في الأسواق الغربية والصاعدة، وتفسر في هذا الإطار ظاهرة تعالي الأصوات الرافضة لسياسة الرئيس الأمريكي المضادة للهجرة[30].
ويضيف “ألتمان” في نفس السياق، أن الكيانات الاقتصادية الكبرى يمكنها تجاوز مرحلة النظر إلى معدلات انتشار الجائحة وتداعياتها الاقتصادية حول العالم؛ إذ يمكنهم تبديل الأوضاع، وتحويل التداعيات السلبية إلى إيجابية من خلال المشاركة في الجهود الصحية والتعاون الدولي بصددها. فالشركات الكبرى عبر الصناعات المختلفة تحولت بسرعة باتجاه المشاركة في إنتاج المستلزمات الطبية اللازمة لمواجهة الجائحة.
والشركات الأضخم يمكنها أن تسهم في التهوين من تأثيرات الجائحة؛ وذلك من خلال اتباع أساليب محاسبية جديدة في الدفع بشكل أسرع لمزودي الخدمات، ومد نطاق المساندة لموظفيها وللمتعاقدين معها، وحتى لعملائها. ويمكنهم كذلك أن يدعموا نظام السوق المفتوح من مثلما فعلت شركة “3M” عندما قاومت الحملة المضادة لصادراتها من الأقنعة لكل من الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية[31].
وفي الاتجاه الآخر، تدعو بعض المؤسسات لضرورة تحرك الدولة لبث الطمأنينة في روع رأس المال، حيث تطرح منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وجود شفافية في الدعم الذي تقدمه الدول للشركات المسجلة في إطار نظامها القانوني- بما في ذلك ما يتعلق بشروط أي دعم من خلال النظام المالي، وعدم التمييز بين الشركات المتضررة بشكل مشابه واستهداف أولئك الذين يعانون من معظم الاضطرابات، مع تجنب إنقاذ أولئك الذين كانوا سيفشلون في غياب الجائحة، وتأقيت المساندة بأن تكون محددة زمنيًا؛ مع مراجعة نظام المساندة بانتظام للتأكد من أنه يحقق هدفه حيث يكون ضروريًا فقط؛ وأن تستهدف المستهلكين بصورة أساسية بهذا الدعم، وتترك لهم تقرير كيفية إنفاق أي دعم، بدلاً من الارتباط باستهلاك مدخلات محددة وسلع وخدمات نهائية محددة.
كما دعت المنظمة لإعادة كل من الشركات والحكومات للتفكير مرة أخرى في أفضل السبل لضمان مرونة سلاسل القيمة، بدلا من تركها نهبة لنمط الهشاشة الذي كشفته الجائحة من جهة، ولاتجاه الدولة لتأميم سلاسل القيمة أو تقصيرها؛ ما قد يؤدي لحدوث خلل في النظام الاقتصادي العالمي. فهذا سيفضي إلى فهم أفضل لنقاط القوة ونقاط الضعف في سلاسل القيمة الرئيسية المهتزة جراء الجائحة الحالية، ومن ثم معاودة النظر مرة أخرى في مجموعات أدوات المرونة في ضوء ذلك الحوار[32].
ب. التقنية وتطبيقاتها:
هل للتقنية دور فيما يتعلق بترجيح التطور في سلاسل القيمة العالمية. هذا هو سؤال المحور الذي نحن بصدده. إن التحولات الجارية في المجال التقني مثل الاعتماد على التجارة الإلكترونية والمؤتمرات السيبرانية أو التقنيات الآلية (الروبوتات) تقنيات ذاع صيتها مع الجائحة. وفيما قبل الجائحة، تحدث كثير من المراقبين عن تأثير هذه التقنيات الجديدة على الحد من التدفقات الاقتصادية الدولية، من قبيل إحلال المنتجين للروبوتات محل الأيدي العامل لتقليل الاعتماد على الخارج. غير أن عوامل عدة مرتبطة بالجائحة قد تؤدي إلى تقوية العولمة إذا لم يكن ثمة اتجاه للتقيد بسياسات حمائية. فما هي ملامح الأدبيات في هذا الإطار؟
فمن جهة، يمكن لقيادات الشركات التفكير بصورة إنتاجية فيما يتعلق بالجائحة، وما يرتبط بها من تقنية وإمكانات عولمة، وذلك من خلال اقتراب هيكلي يأخذ بعين الاعتبار تطبيقاته الداخلية والعالمية. فعلى الصعيد الداخلي، يمكن التفكير في كيفية استغلال الوظائف الفردية للفرص التي تتيحها التقنيات الجديدة، مع إدارة التغيير التنظيمي بتؤدة لتفادي الضغوط المتزايدة التي يواجهها الموظفون وفرق العمل.
وعلى الصعيد الخارجي، يمكن التفكير في كيفية الإفادة من التقنيات الجديدة الرائجة لتغيير موقف الشركات في مواجهة منافسيها وعملائها ومزودي الخدمات لها. وبالنسبة لغالبية الشركات، فإن التقنيات الرائجة يمكنها أن تقود لمزيد من العولمة في بعض المناطق، فيما تؤثر في مناطق أخرى بصورة أقل[33]. ويشير خبراء إلى أن الاقتصادات المختلفة ستصبح أقل اعتمادًا على نقاط توريد محدودة، وهو ما يجعل من اليسير استيعاب فكرة اتجاه الشركات، سواء بمفردها أو بناءً على طلب من حكوماتها، باتجاه تنويع إمدادات المدخلات الرئيسية وتتحول إلى الإنتاج المحلي أو الإقليمي. إن التقدم في الأتمتة وتقنيات التصنيع الأخرى الموفرة للعمالة ستجعل هذا أسهل؛ استمرار الحرب التجارية مع الصين سيجبرها على الاستمرار[34].
ومن جهة ثانية، فإن تطبيقات التجارة الإلكترونية، وقدراتها العابرة للحدود يمكنها الإسهام في تعزيز التبادل التجاري في صورته التي كان عليها قبل الجائحة، أي على صعيد التجارة بعيدة المسافة، حيث تمكن تطبيقات التجارة الإلكترونية من إمكانية توسيع نطاق فرص التصدير، ليس فقط بالنسبة للشركات الكبرى، وإنما أيضا بالنسبة للشركات الصغيرة[35].
خاتمة
لا شك في أن الفورة المتعلقة بحديث عدد من مراكز التفكير عن الاتجاه نحو تآكل العولمة، وتأثير الجائحة على التوجه يمينا، وظهور النزعات الحمائية الانكفائية، قد بدأت في الهدوء ليحل محلها عدد من مسارات التفكير الأخرى.
يبدو أن ثمة اتجاه عام معارض للانكفائية والتوطين الخاص بقطاع الصناعات الأساسية، وغن كان هناك بشكل عام قبول لفكرة أن الأزمات الكبرى تفرض استجابات تضمن عدم تكرار التعرض للمخاطر وبخاصة مع ثبوت هشاشة سلاسل القيم العالمية المركزة في مراكز محدودة مثل الصين.
وإن كان هناك اتفاق حول استمرار العولمة والتكامل العالمي، إلا أن ثمة مسارات فرعية في تناول الأدبيات له، يتعلق أولها بإمكانية عودة مسار ما قبل الجائحة، وهو ما يتطلب اجتهادات من رأس المال بقدر ما يتطلب اجتهاد وحوارا من جانب الدولة، وبخاصة الدول النامية التي ستكون أول المتضررين من حدوث التوجهات الانكفائية في الغرب. علاوة على وجود اتجاه ثان يدعو لتعزيز التجارة الدولية في إطار تغلب عليه الإقليمية، فيما يدعو اتجاه ثالث للتفكير في آليات لتقصير سلاسل القيمة، وتعزيز السيادة الوطنية في قطاعات ضرورية.
وفيما يتعلق بدور التقنية، فقد تحدثت الأدبيات عن إمكانية توظيف لدعم أي من الاتجاهين، الانكفاء أو المعاودة، ويبقى مستقبلها رهن بالتطبيقات التي سيذهب إليها كل مسار من المسارات المتعلقة بالتفكير حيال سلاسل القيمة.
الهامش
[1] الموسوعة السياسية، مادة العولمة: https://bit.ly/31PtC9W
[2] Benjamin Laker, 3 Severe Implications Of Coronavirus On Global Trade, Forbes, 7 Apr 2020. https://bit.ly/3kzhem5
[3] RICHARD FONTAINE, Globalization Will Look Very Different After the Coronavirus Pandemic, Foriegn Policy Magazine, 17 April 2020. https://bit.ly/3mtMm76
[4] Ibid. https://bit.ly/3mtMm76
[5] Steven A. Altman, Will Covid-19 Have a Lasting Impact on Globalization?, Harvard Business Review, 20 May 2020. https://bit.ly/2HDQvXa
[6] Ibid. https://bit.ly/2HDQvXa
[7] RICHARD FONTAINE, op. cit. https://bit.ly/3mtMm76
[8] Felix Richter, The COVID-19 economy: does it mean the end of globalization, World Economic Forum, 29 May 2020. https://bit.ly/3e2XrJl
[9] Steven A. Altman, op. cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[10] RICHARD FONTAINE, Op. Cit. https://bit.ly/3mtMm76
[11] Jun Du – Agelos Delis – Mustapha Douch – Oleksandr Shepotylo, Coronavirus won’t kill globalisation – but a shakeup is inevitable, The Conversation, , 23 May 2020. https://bit.ly/3jzRK6H
[12] Steven A. Altman Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[13] Jun Du – Agelos Delis – Mustapha Douch – Oleksandr Shepotylo, Coronavirus won’t kill globalisation – but a shakeup is inevitable, The Conversation, , 23 May 2020. https://bit.ly/3jzRK6H
[14] Benjamin Laker, op, cit. https://bit.ly/3kzhem5
[15] Felix Richter, The COVID-19 economy: does it mean the end of globalization, World Economic Forum, 29 May 2020. https://bit.ly/3e2XrJl
[16] Jun Du – Agelos Delis – Mustapha Douch – Oleksandr Shepotylo, Coronavirus won’t kill globalisation – but a shakeup is inevitable, The Conversation, , 23 May 2020. https://bit.ly/3jzRK6H
[17] Jun Du – Agelos Delis – Mustapha Douch – Oleksandr Shepotylo, Coronavirus won’t kill globalisation – but a shakeup is inevitable, The Conversation, , 23 May 2020. https://bit.ly/3jzRK6H
[18] RICHARD FONTAINE, Op. Cit. https://bit.ly/3mtMm76
[19] Benjamin Laker, op, cit. https://bit.ly/3kzhem5
[20] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[21] RICHARD FONTAINE, Op. Cit. https://bit.ly/3mtMm76
[22] Benjamin Laker, Op. Cit. https://bit.ly/3kzhem5
[23] Ibid. https://bit.ly/3kzhem5
[24] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[25] Ibid. https://bit.ly/2HDQvXa
[26] Ibid. https://bit.ly/2HDQvXa
[27] RICHARD FONTAINE, Op. Cit. https://bit.ly/3mtMm76
[28] Kimberly Clausing, Building a Better Globalization, Business Review, 13 May 2019. https://bit.ly/31J39en
[29] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[30] Kimberly Clausing, Building a Better Globalization, Business Review, 13 May 2019. https://bit.ly/31J39en
[31] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[32] Editorial, COVID-19 and international trade: Issues and actions OECD, 12 June 2020. https://bit.ly/37K0p4c
[33] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
[34] RICHARD FONTAINE, Op. Cit. https://bit.ly/3mtMm76
[35] Steven A. Altman, Op. Cit. https://bit.ly/2HDQvXa
رابط المصدر: