آية الله السيد مرتضى الشيرازي
في الخاتمة: قد يتساءل عن كيفية تأثير الأدعية في تغيير المقدرات التكوينية ذات الأسباب الطبيعية، كالشفاء من المرض المستعصي أو قضاء الدين المتعسر أو اطلاق سراح السجين رغم فقد الأمل أو نزول المطر في الجدب، بعد الاستسقاء، أو سقوط الحاكم الظالم أو شبه ذلك؟!
وقد يجاب بوجوه، لكن الظاهر أن أتم الأجوبة وأكملها هو التفصيل:
أ ـ فقد يكون استجابة الدعاء عبر الإلقاء في الأذهان والتصرف في القلوب، بأن يلقي الله تعالى في ذهن الطرف الآخر قضاء الحاجة التي طلبتها من الآخرين، كرئيسك في العمل الذي طلبت منه ترقيتك مثلاً ـ وكنت لها أهلاً، لكنه كان متعنتاً ـ أو الغني الذي طلبت منه إلغاء طلبه وإسقاطه أو تأجيله أو المرأة الصالحة التي أقدمتَ على الزواج بها فرفضت، أو الجار المشاكس الذي يزعجك دوماً.
وبعبارة أخرى: يلقي الله تعالى في ذهن من طلبت منه قضاء حاجتك أو في ذهن من بيده قضاء حاجتك وإن لم تطلب، أن يستجيب لك، وهو ما يعبر عنه بـ(الإلهام)(1). وإلقاء الله تعالى في ذهن الطرف الآخر أو قلبه أمراً، قد يكون بطرق عديدة: فقد يكون بإلقاء المَلَك في ذهنه أمراً، وقد يكون لرؤيا رآها، وقد يكون لقراءته أو سماعه آية أو رواية أو موعظةً أو قصةً عن قضاء الحوائج أو عن الموت أو عن الجنة ونعيمها، فخطر بباله أن يقضي حاجتك.
ب ـ وقد تكون الاستجابة عبر تأثير الدعاء نفسه على بدن الإنسان أو نفسه أو روحه، كالمريض الذي يدعو الله تعالى ويلحّ لشفائه من مرض عضال، فإن تأثير الدعاء يفوق تأثير التلقين والإيحاء، ومن يذع بالعلاج بالتلقين النفسي والإيحاء الذاتي، فليس له أن يرفض تأثير الدعاء حتى إذا لم يعتقد بأثره الغيبي.
ج ـ وقد تكون الاستجابة عبر تسبيب الأسباب الطبيعية الأخرى، وذلك كمن يلح في الدعاء على الله تعالى لتوسعة رزقه، فيدفعه ذلك ليطالع ويستشير حول سبل إنتاج الثروة السهلة المحللة فيسلك ذلك الطريق فينجح، وهذا الوجه هو مزيج من الوجه الأول والثاني.
د ـ وقد يقال: بأن للأدعية إضافة إلى جوانبها الغيبية وآثار المعنوية المسلّمة، (تموّجات) تكوينية وتأثيرات على الطبيعة نفسها، إضافة إلى تموجاتها على النفس والبدن والروح والعقل، فكما أن الأمواج الكهرومغناطيسية ذات تأثير حقيقي كذلك للدعاء تأثير تكويني حقيقي إضافة إلى تأثيره الغيبي، وكما أن أشعة الليزر قادرة على ما لا تقدر عليه (المادة) كذلك الدعاء، وهذا كله للتقريب إلى الذهن، ولعل العلم يكتشف يوماً بعض التأثيرات التكوينية للدعاء، ويكفي ههنا الاحتمال، ولا يصح نفيه بدعوى أن العلم الحديث لم يثبته، إذ العلم مذعن بأنه غير محيط بأسرار هذا العالم، وعدم الثبوت لا يعني النفي، ومجرد هذا الاحتمال كافٍ حتى لغير المؤمن بفائدة الدعاء، لكي يحتاط إذا أراد حل مشكلته، بالتمسك بالدعاء إضافة إلى العمل وتسبيب الأسباب!
وبعبارة أخرى: قد يقال: إن الدعاء إضافة إلى كونه من علم الغيب فهو أيضاً من عالم (الطاقة) وعالم الطاقة أقوى من عالم (المادة)، ولكل منهما قوانين تحكمهما، كما أن للأدعية قوانين تحكمها ـ وهي الشروط السابقة الذكر ونظائرها ـ.
بعبارة ثالثة أشمل: إن الأدعية هي ملتقى عوالم ثلاث: عالم الغيب وعالم الطاقة وعالم المادة، ويقرّبه إلى الذهن ما يقال عن (الحفر السوداء في الفضاء) وما يقال عن (ميكانيكا الكم) و(الفيزياء الكميّة)(2) وغيرها.
والأهم من ذلك إن الأدعية هي فوق ذلك كله تكتسب زخمها من عالم أسمى من المادة والطاقة، ولا مانعة جمع، والله العالم.
هـ ـ وقد تكون الاستجابة بخرق الأسباب الطبيعية كلها، وذلك كطوفان نوح ونار إبراهيم ويمّ موسى وإحياء الموتى على يد عيسى (عليهم السلام) وشق القمر ومشي الشجر وتكلم المدر لخير البشر المصطفى (صلى الله عليه وآله) وكرد الشمس لإمام الجن والإنس المرتضى (عليه السلام) وغيرها(3)، وكبعض الكرامات التي يحظى بها كبار الأولياء كطي الأرض والسماء والمشي على الماء والهواء، وشفاء المرضى بمجرد أن يمسح بعض الأولياء يده على المريض وبأيسر الدعاء.
والذي يبدو أن الله سبحانه جرت حكمته على أن يوجه الأسباب الغيبية نحو التسبيبات الطبيعية (كالوجوه الثلاثة الأولى) بأن يقّيّض للداعي له سبباً من الأسباب الطبيعية لتتحقق حاجته، وذلك كما جرت حكمته أن يقبض عزرائيل الأرواح ولكن مقارناً للأسباب الطبيعية من غرق أو حرق أو اصطدام أو جلطة أو شبه ذلك!
وأما تأثير الأدعية بخرق قوانين عالم الطبيعة كلها، فالذي يبدو أنه الأقل إن لم يكن النادر، فإن لم يكن ذلك بندرة المعجزات فإنه يتلوها في الندرة، والفرق أن المعجزات خاصة بالأنبياء (عليهم السلام) أما الكرامات واستجابة الأدعية على خلاف التسبيبات الطبيعية فهو خاص بمن جمع كل الشروط الخمسة والعشرين السابقة (وغيرها أيضاً) إذ يكون حينئذٍ مصداق (أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ)(4) وذلك كله نظير طي الأرض والعين البرزخية وإحياء الميت نادراً على يد بعض الأولياء؛ ألا ترى أن الشخص لو دعا الله أن يرزقه ولداً وهو غير متزوج، استجاب الله دعاءه بأن يقيض له زوجة صالحة فتلد له ذكراً سوياً، وأما لو دعى الله أن يرزقه ولداً، ولم يتزوج ولو لكونه في السجن أو في جزيرة منعزلة أو غير ذلك أي حتى لو لم يكن مقصراً في تمهيد الأسباب، فإن الله لا يرزقه ولداً من دون زوجة كما لا يرزق المرأة، ولداً من دون زوج إلا بإعجاز إلهي نادر كما في ولادة عيسى (عليه السلام) من غير أب.
وبعبارة أخرى: جريت حكمة الله تعالى أن تكون الأسباب الغيبية في (طول) الأسباب الطبيعية لا في (عرضها) وبموازاتها، أي لم يجعلها الله تعالى ـ عادة ـ بديلاً عن الأسباب الطبيعية بل جعلها مهيمنة عليها، بمعنى أنه اقتضت حكمته جل اسمه جعل الغيبيات موجِّهة للطبيعيات أي مفعّلة للأسباب الطبيعية ولذا ورد: (اعْقِلْ وتَوَكَّلْ)(5) ويدل عليه قوله: ( أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَ…)(6) والطبيعيات أسباب، والغيبيات أسباب فوقها في طولها والله منا ورائهم محيط قال تعالى: (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَليماً حَكيماً)(7) و(أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(8) (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى)(9).
وماذا عن الأوبئة والحروب والفقر والبطالة؟
فهذا كله عن المصائب الشخصية والمشاكل الخاصة بكل شخصٍ شخصٍ، كمرضٍ أو دين أو ما أشبه، وأما المصائب العامة كحرب ذرية أو نووية تقع بين الدول العظمى والتي قد تقضي على عشرات الملايين من الناس، أو كحرب كلاسيكية بين مختلف الدول المتجاورة، وكوباء عام قد يقضي على مئات الألوف أو الأكثر، فإن المعادلة تتلخص في أمرين ـ إضافة إلى ما سبق في الأجوبة الثلاثة الأولى(10) ـ.
1 ـ على الناس تقع مسؤولية قراراتهم وتقصيرهم في المقدمات
الأمر الأول: إن الله تعالى جرت حكمته ـ عموماً ـ بعدم إلغاء قانون الأسباب والمسببات الطبيعية التي وضعها لهذا العالم وهندَسَها عليه(11) وإلا لتحولت الدنيا إلى جنة أرضية ولم تكن هذه الدنيا هي هذه الدنيا! وكان كلما حلّ بلاء عام فلجأ الناس إلى الدعاء وحده، فانحلت كافة المشاكل العامة فوراً (كالتضخم والغلاء، والفقر والبطالة والحروب والوباء وغيرها) وهذا التوقع للتدخل الغيبي المتواصل لـ(الدعاء) في تغيير عالم الأسباب والمسببات، خطأ؛ إذ (أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَ…) وقال تعالى: (فَأَتْبَعَ سَبَباً)(12) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعْقِلْ وتَوَكَّلْ)، وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(13).
وعليه: فإنه تقع على أكتاف عامة الناس ومؤسسات المجتمع المدني والخبراء والعلماء والرأي العام، مسؤولية منع حكومات بلادهم من صناعة أو تطوير الأسلحة النووية أو الجرثومية أو البيولوجية، ومنع دخول حكومات بلادهم في حروب مع دول أخرى قد تتكرر فيها فجائع الحرب العالمية الأولى والثانية وجرائر مختلف الحروب في مختلف الدول، ومنع حكوماتهم والشركات الربحية الخاصة من إجراء تجارب مختبرية جرثومية وشبهها مما يحتمل تسربه إلى الخارج بشكل من الأشكال، كما كان يجب على الناس سابقاً ردم المستنقعات التي تحيط بالمدن، والتي كانت المنشأ الأساسي لانتشار البعوض الحامل لوباء الطاعون وغيره.
والحاصل: إن الناس يتحملون مسؤولية قراراتهم التي اتخذوها بأنفسهم، ولا يصح لهم أن يعترضوا على الله تعالى كلما اساءوا اتخاذ القرار أو لم يقدموا المقدمات المطلوبة ولم يقوموا بتمهيد التمهيدات اللازمة! ألا ترى أن الطالب لو تكاسل فبقي أمياً حتى كبر، أنه لا يصح له أن يتمسك الآن بالدعاء ليصبح فجأة من كبار العلماء! كذلك الأمم فإذا اختار الناس حاكماً مستبداً(14) فإن عليهم أن يتحملوا مسؤولية مغامراته ودكتاتوريته، وإذا خضع الناس لحكم طاغية مستبد(15)، ولم يثوروا بوجهه كلهم أجمعون فإنه سيجر عليهم الدواهي والويلات.
بل إنهم إذا اختاروا حاكماً ثم انحرف وطغى أو ظهر كون اختيارهم خاطئاً، فإن عليهم أن يتّحدوا جميعاً لإسقاطه، فإذا فعلوا ذلك سقط، وإن لم يفعلوا بقي وأذاقهم الأمرين عذاباً وهواناً وفي الحديث: (لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ)(16)، والنهي عن المنكر له مظهران ومصداقان:
أ ـ نهي الحكومات وردعها عن ارتكاب المنكرات وعلى رأسها ظلم العباد وسرقة أموالهم وسحق حقوقهم.
ب ـ ونهي آحاد الناس عن المعاصي، والغريب أننا نهتم عادة بالنوع الثاني من النهي عن المنكر ونهمل النوع الأول (نهي الحكومات وردعها عن المنكر والوقوف بوجهها كي لا تتمادى في الطغيان).
ومما يوضح ذلك أكثر المثال التالي: فإن الناس إذا انتخبوا ـ مثلاً ـ حكومة انتهجت منهج اقتصاديات جانب العرض والتشدد النقدي وخفض عرض النقود، لأجل كسر التضخم، مع تخفيضات كبيرة في الضرائب على دخول الأغنياء، بتوهم أن ذلك يؤدي إلى تحفيز الاقتصاد والتوسع في استخدام العمالة والإنتاج، مع خفض الإنفاق الحكومي، فإن من الطبيعي في اقتصاد عالم اليوم أن ينتج ذلك ارتفاع نسبة البطالة، وبالملايين(17) ولا يمكن للناس وللملايين من العمال الذين سُرِّحوا من أعمالهم أن يعتبوا على الله تعالى ويطلبوا منه أن يحلّ مشكلة البطالة بإعجاز إلهي لمجرد أنهم بدأوا بالدعاء في الكنائس أو غيرها، بل يكون عليهم تغيير الحكومة أو الضغط عليها لتغيير سياستها الاقتصادية إذا شاؤوا أن تتوفر فرص العمل لملاين الناس.. وهكذا وهلم جرّا.
2 ـ واما مع القصور والعجز الحقيقي فالحل في:
الأمر الثاني: إن المطلوب ـ وكما سبق ـ تمهيد كافة الأسباب الطبيعية، فإذا فعل الناس ذلك وحلّ بهم البلاء العام، فإذا ارادوا ارتفاعه بشكل إعجازي فإن عليهم الالتزام بأمرين:
أ ـ تهذيب الناس أنفسهم وتزكيتها بشكل متكامل
الأول: تهذيب الأنفس وتزكيتها والانقلاع عن كافة أنواع المعاصي من ظلم وغصب وغش واحتكار ورشوة وربا وزنا وكذب وغيبة ونميمة وغيرها؛ إذ كيف يتوقّع الناس تدخلاً إعجازياً من الله تعالى في خرق قوانين الطبيعة، وهم يعصونه ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً؟! مع أنه تعالى قال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(18) وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)(19) و(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّريقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(20).
كما قال جل اسمه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(21) و(تغيير الناس ما بأنفسهم) يكون بأمرين: الأخذ بالأسباب الطبيعية والأخذ بالأسباب الغيبية جميعاً، والغريب أننا نجد الناس يتوقعون من الله تعالى تغيير معادلات الكون وهم يتقاعسون عن تغيير أنفسهم كما طلبه منهم جل اسمه؟!
ب ـ انقطاع الجميع إلى الله في مظاهر عامة للدعاء
الثاني: انقطاع الجميع إلى الله تعالى، في مظاهر عامة للدعاء، فكما أن البلاء بلاء عام، فكذلك يجب أن تكون مظاهر الأدعية عامة، وذلك بأن تتحول البلاد كلها، بمدارسها وشركاتها ووزاراتها وساحاتها وحدائقها ومنازلها إضافة إلى مساجدها وحسينياتها، إلى قطعة من الدعاء والتضرع والتهجد والتوسل والبكاء.
ويرشد إلى ذلك ما ورد في صلاة الاستسقاء من خروج الناس كلهم إلى الصحاري رجالاً ونساء وأطفالاً وهم يبكون ويتضرعون ويضجون إلى الله تعالى، مع صدق النية وحسن الطويّة والتوبة والندم على ما فرطوا في جنب الله؛ وعندئذٍ فإن لهم أن يتوقعوا الفرج بين لحظة وأخرى قال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)(22).
وفي قصة قوم يونس (عليه السلام) شاهد ودليل
وفيما فعل قوم يونس (عليه السلام) من ألوان الاستغاثة بالله تعالى، المرشد والدليل لما يجب أن تكون عليه كيفية الدعاء والاستغاثة عند البلايا العامة وقد جاء (عن الإمام أبى جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ يونس لمّا أذاه قومه دعا اللّه عليهم فاصبحوا أوّل يوم ووجوههم صفرة واصبحوا اليوم الثانى ووجوههم سود، قال: وكان اللّه واعدهم أن يأتيهم العذاب فأتاهم العذاب حتّى نالوه برماحهم، ففرّقوا بين النساء وأولادهنّ، والبقر وأولادها، ولبسوا المسوح والصوف ووضعوا الحبال في أعناقهم والرماد على رءوسهم وضجّوا ضجّة واحدة إلى ربهم وقالوا آمنا باله يونس (عليه السلام) ) قال: (فصرف اللّه عنهم العذاب إلى جبال آمد). قال: وأصبح يونس (عليه السلام) وهو يظنّ أنهم هلكوا فوجدهم فى عافية)(23).
فقد جاء في تفسير القمي: عنِ ابن أبي عمير عن جميل قال: قال لي أَبو عبدِ اللَّهِ (عليه السلام): (مَا رَدَّ اللَّهُ الْعَذَابَ إِلَّا عَنْ قَوْمِ يُونُسَ (عليه السلام)، وَكَانَ يُونُسُ (عليه السلام) يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَأْبَوْا ذَلِكَ، فَهَمَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلَانِ عَابِدٌ وَعَالِمٌ، وَكَانَ اسْمُ أَحَدِهِمَا مَلِيخَا وَالْآخَرُ اسْمُهُ رُوبِيلَ، فَكَانَ الْعَابِدُ يُشِيرُ عَلَى يُونُسَ (عليه السلام) بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْعَالِمُ يَنْهَاهُ وَ يَقُولُ: لَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ لَكَ، وَ لَا يُحِبُّ هَلَاكَ عِبَادِهِ، فَقَبِلَ قَوْلَ الْعَابِدِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْعَالِمِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِ، يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فِي سَنَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وَ كَذَا، فِي يَوْمِ كَذَا وَ كَذَا، فَلَمَّا قَرُبَ الْوَقْتُ خَرَجَ يُونُسُ (عليه السلام) مِنْ بَيْنِهِمْ مَعَ الْعَابِدِ، وَ بَقِيَ الْعَالِمُ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَزَلَ الْعَذَابُ فَقَالَ الْعَالِمُ لَهُمْ: يَا قَوْمِ افْزَعُوا إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّهُ يَرْحَمُكُمْ وَ يَرُدُّ الْعَذَابَ عَنْكُمْ!، فَقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: اجْتَمِعُوا وَ اخْرُجُوا إِلَى الْمَفَازَةِ، وَ فَرِّقُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَ الْأَوْلَادِ، وَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَأَوْلَادِهَا، وَ بَيْنَ الْبَقَرِ وَ أَوْلَادِهَا وَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَ أَوْلَادِهَا، ثُمَّ ابْكُوا وَ ادْعُوا. فَذَهَبُوا وَ فَعَلُوا ذَلِكَ وَ ضَجُّوا وَ بَكَوْا، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَ صَرَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَفَرَّقَ الْعَذَابَ عَلَى الْجِبَالِ، وَ قَدْ كَانَ نَزَلَ وَ قَرُبَ مِنْهُمْ، فَأَقْبَلَ يُونُسُ (عليه السلام) لِيَنْظُرَ كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَرَأَى الزَّارِعِينَ يَزْرَعُونَ فِي أَرْضِهِمْ، قَالَ لَهُمْ: مَا فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ؟! فَقَالُوا لَهُ ـ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ ـ: إِنَّ يُونُسَ دَعَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَنَزَلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعُوا وَ بَكَوْا وَ دَعَوْا، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَفَرَّقَ الْعَذَابَ عَلَى الْجِبَالِ، فَهُمْ إِذاً يَطْلُبُونَ يُونُسَ لِيُؤْمِنُوا بِه)(24).
وجاء في تفسير العياشي: (وَ أَقَامَ رُوبِيلُ مَعَ قَوْمِهِ فِي قَرْيَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَوَّالٌ صَرَخَ رُوبِيلُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ إِلَى الْقَوْمِ: أَنَا رُوبِيلُ شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ الرَّحِيمُ بِكُمْ [إِلَى رَبِّهِ قَدْ أَنْكَرْتُمْ عَذَابَ اللَّهِ] هَذَا شَوَّالٌ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ، وَ قَدْ أَخْبَرَكُمْ يُونُسُ (عليه السلام) نَبِيُّكُمْ وَرَسُولُ رَبِّكُمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ فِي شَوَّالٍ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ رُسُلَهُ، فَانْظُرُوا مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟! فَأَفْزَعَهُمْ كَلَامُهُ وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ تَحْقِيقُ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَأَجْفَلُوا نَحْوَرُوبِيلَ وَ قَالُوا لَهُ: مَا ذَا أَنْتَ مُشِيرٌ بِهِ عَلَيْنَا يَا رُوبِيلُ فَإِنَّكَ رَجُلٌ عَالِمٌ حَكِيمٌ، لَمْ نَزَلْ نَعْرِفُكَ بِالرِّقَّةِ [الرَّأْفَةِ] عَلَيْنَا وَالرَّحْمَةِ لَنَا، وَقَدْ بَلَغَنَا مَا أَشَرْتَ بِهِ عَلَى يُونُسَ فِينَا، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ وَ أَشِرْ عَلَيْنَا بِرَأْيِكَ، فَقَالَ لَهُمْ رُوبِيلُ: فَإِنِّي أَرَى لَكُمْ وَ أُشِيرُ عَلَيْكُمْ، أَنْ تَنْظُرُوا وَ تَعَمَّدُوا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، أَنْ تَعْزِلُوا الْأَطْفَالَ عَنِ الْأُمَّهَاتِ، فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ فِي طَرِيقِ الْأَوْدِيَةِ، وَ تَقِفُوا النِّسَاءَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ [وَ كُلَّ الْمَوَاشِي جَمِيعاً عَنْ أَطْفَالِهَا] وَ يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [فَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحاً صَفْرَاءَ أَقْبَلَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ] فَعِجُّوا عَجِيجَ الْكَبِيرِ مِنْكُمْ وَ الصَّغِيرِ بِالصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَ قُولُوا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَكَذَّبَنَا نَبِيَّكَ وَ تُبْنَا إِلَيْكَ مِنْ ذُنُوبِنَا، وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الْمُعَذَّبِينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتَنَا وَ ارْحَمْنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ثُمَّ لَا تَمَلُّوا مِنَ الْبُكَاءِ وَ الصُّرَاخِ، وَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ، حَتَّى تَوَارَى الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ، أَوْ يَكْشِفُ اللَّهُ عَنْكُمْ الْعَذَابَ قَبْلَ ذَلِكَ.
فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْقَوْمِ جَمِيعاً عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِمْ رُوبِيلُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الَّذِي تَوَقَّعُوا فِيهِ الْعَذَابَ تَنَحَّى رُوبِيلُ عَنِ الْقَرْيَةِ حَيْثُ يَسْمَعُ صُرَاخَهُمْ وَ يَرَى الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ.
فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ (عليه السلام) مَا أَمَرَهُمْ رُوبِيلُ بِهِ، فَلَمَّا بَزَغَتِ الشَّمْسُ أَقْبَلَتْ رِيحٌ صَفْرَاءُ مُظْلِمَةً مُسْرِعَةً لَهَا صَرِيرٌ وَ حَفِيفٌ وَ هَدِيرٌ، فَلَمَّا رَأَوْهَا عَجُّوا جَمِيعاً بِالصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ، وَتَابُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفَرُوهُ، وَصَرَخَتِ الْأَطْفَالُ بِأَصْوَاتِهَا تَطْلُبُ أُمَّهَاتِهَا، وَ عَجَّتْ سِخَالُ الْبَهَائِمِ تَطْلُبُ الثَّدْيَ، وَعَجَّتِ الْأَنْعَامُ تَطْلُبُ الرَّعْيَ)(25).
وجاء في تفسير مجمع البيان: (إن قوم يونس (عليه السلام) كانوا بنينوى من أرض الموصل، وكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث إن لم يتوبوا، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبا، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة، فليس بشئ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم.
فلما كان في جوف الليل خرج يونس (عليه السلام) من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب، قال وهب: أغامت السماء غيما أسود هائلاً، يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى غشي مدينتهم، واسودت سطوحهم. وقال ابن عباس: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ثلثي ميل.
فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا نبيهم فلم يجدوه، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم، ونسائهم، وصبيانهم، ودوابهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها، واختلطت أصواتها بأصواتهم، وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس (عليه السلام). فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم.
قال عبد الله بن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى كان الرجل ليأتي الحجر، وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ويرده.
وروي عن أبي مخلد أنه قال: لما غشي قوم يونس (عليه السلام) العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: لقد نزل بنا العذاب، فما ترى؟ قال: قولوا: (يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت) فقالوها، فانكشف عنهم العذاب)(26). فلاحظ كيف أنهم ضجوا إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع من جهة وبالتوبة قولاً وعملاً وسلوكاً من جهة أخرى، وكيف لجأوا إلى ألوان مختلفة من مظاهر الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى حتى استجاب الله لهم، وهل فعلنا مثل ذلك حتى نتوقع ارتفاع أنواع البلاء؟
فهذا بحث موجز مختصر حول وجه عدم استجابة بعض الأدعية، وحول شروط استجابة الدعاء، والمأمول أن يوفقنا الرب الكريم لكتابة بحث فقهي ـ أصولي، مستوعب عن المسألتين نتتبع فيه كافة الأدلة بأسانيدها ومرجّحاتها، وبدلالاتها ووجوه الجمع العرفي بينها أو الجمع بينها بما عليه شاهد من الروايات وغير ذلك. والله الهادي.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
انتهى
القسم الأول: https://annabaa.org/arabic/dogmas/22567
القسم الثاني: https://annabaa.org/arabic/dogmas/22578
القسم الثالث: https://annabaa.org/arabic/dogmas/22592
……………………………..
(1) أو الوحي بالمعنى الأعم: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (سورة النحل: 68) و(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى)(سورة طه: 38) و(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا)(سورة مريم: 11).
(2) حيث تتصرف الجسيمات كأمواج وكجسيمات في الوقت نفسه و… وهي المسماة بـ(Quantum).
(3) نعم ليس كل مدّعٍ للكرامات بصادق! بل ما أكثر الكاذبين، فيجب الحذر وعدم التصديق بمجرد نقل هذا أو ذاك أو بمجرد مشاهدة ما يحتمل أن يكون له.
(4) عدة الداعي: ص310 / وإرشاد القلوب: ج1 ص75.
(5) عوالي اللئالي: ج1 ص75.
(6) الكافي: ج1 ص183.
(7) سورة الإنسان: 30.
(8) سورة الواقعة: 64.
(9) سورة الأنفال: 17.
(10) إن الدعاء مقتضٍ للإجابة وليس علّة تامة، وإن استجابته مرتهنة بتحقق شروط كثيرة، وإن الاستجابة قد تكون بنحو آخر أو في زمن آخر.
(11) أو فقل إلا تسامحاً: هندسها عليه، اللهم في الموارد النادرة.
(12) سورة الكهف: 85.
(13) سورة الأنفال: 60.
(14) كهتلر.
(15) كصدام والقذافي.
(16) تحف العقول: ص197 / والكافي: ج7 ص51.
(17) كما حدث في زمن الرئيس الأمريكي ريغان مثلاً، حيث اتبع هذه السياسة فارتفعت البطالة إلى 12% عام 1981 وهو أعلى معدل للبطالة منذ الكساد العظيم عام 1929، كما ارتفع الدين القومي أثر خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري وعمق الركود، إلى 3.2 تريليون دولار!.
(18) سورة الأعراف: 96.
(19) سورة المائدة: 66.
(20) سورة الجن: 16.
(21) سورة الرعد: 11.
(22) سورة الأنعام: 43.
(23) تفسير الصافي: ج2 ص426.
(24) تفسير القمي w:ج1 ص318.
(25) تفسير العياشي: ج2 ص131 ـ 132.
(26) مجمع البيان في تفسير القرآن: ج5 ص229 ـ 230.
رابط المصدر: