د.وليد ربيع
بدأت العلاقات الروسية مع سوريا منذ استقلالها عام 1946، وقد تطورت هذه العلاقات منذ مطلع الخمسينيات، وأصبحت سوريا من أهم حلفاء الاتحاد السوفيتي سابقًا في الشرق الأوسط، وتطورت تلك العلاقة مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا في بداية السبعينيات من القرن العشرين.
وخلال الأزمة السورية التي اندلعت في مارس 2011، وتحديدًا في عام ٢٠١٥ تدخلت روسيا لمساعدة النظام على النهوض مجددًا، ومحاولة حمايته بكافة الأساليب والوسائل، وأخذت تدعم بشار الأسد حتى يكون قادرًا على مفاوضة قوى المعارضة التي تحظى بدعم الشارع السوري على المدى البعيد لضمان موقف أقوى لنفوذها في سوريا، أي إن العمل العسكري في نظر روسيا إنما هو وسيلة لا غاية.
وقد كان الموقف الروسي واضحًا منذ اليوم الأول لاندلاع الأحداث في سوريا، إذ أيدت النظام السوري وإجراءاته ضد المعارضة بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، وعلى الصعيد السياسي استخدمت روسيا الفيتو ضد قرارات الإدانة أو التدخل العسكري الغربي ضد النظام السوري، ويعود أسباب كل هذا الدعم إلى عدم رغبة روسيا في الخروج من سوريا دون مكاسب، كما خرجت من ليبيا، كذلك تشكل الأراضي السورية قاعدة متقدمة لروسيا في مراقبة النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
تنوعت أهداف هذا التدخل ما بين أهداف إنسانية، وتحقيق مصالح خاصة بالدولة الروسية، وكان من ضمن هذه المصالح ضرورة إبقاء بشار الأسد في الحكم، وأن سقوط هذا النظام سوف يؤدي إلى خسائر فادحة لروسيا، أيضًا كانت تبرر تدخلها في سوريا على أنها تقوم بمحاربة الإرهاب وكان لديها أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية، فضلًا عن الأهداف الاستراتيجية الممثلة في أهمية الموقع الجيوبوليتكي الذي تحتله سوريا في الشرق الأوسط والتي توجد فيها العديد من المصالح التابعة لمعظم القوى العالمية.
الوجود الروسي في سوريا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية
قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، ترددت شائعات بأن عددًا من المتطوعين السوريين يستعدون للتوجه إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال لتزداد بذلك الأعداد الكبيرة للمقاتلين الأجانب الموجودين بالفعل في المنطقة، وتزداد بالتالي التوقعات بارتفاع نسبة مشاركة المقاتلين الأجانب في الهجوم الروسي على أوكرانيا.
نقلت صحيفة “نيويورك تايمز”عن مسئولين بارزين مقيمين في الشرق الأوسط قولهم إن روسيا سحبت قوات ومعدات عسكرية حساسة من سوريا في الآونة الأخيرة، لتعزيز عملياتها العسكرية في أوكرانيا وأن عدد القوات الروسية التي سحبت من سوريا يتراوح بين 1200 و1600 عسكري، في حين أكد مسئول ثالث أن العدد أكبر من ذلك بكثير، ومن بين المعدات العسكرية التي سحبتها موسكو نظام للدفاع الجوي.
وقالت المصادر إن إعادة انتشار القوات والمعدات الروسية من سوريا يزيح إحدى العقبات أمام الدعم الإسرائيلي لأوكرانيا، وأضافت أن هذه الخطوة الروسية دليل على تراجع نفوذ موسكو خارجيا بسبب الحرب على أوكرانيا.
كما نقلت “نيويورك تايمز” عن مسئول إسرائيلي أن عددًا من القادة العسكريين الروس في سوريا نقلوا إلى أوكراني وذكر أن مشاركة روسيا في إدارة العمليات بسوريا تقلصت، ومنها التنسيق العسكري مع إسرائيل.
وتلا ذلك التصريح قيام وزارة الدفاع الروسية بإعلان تعيين الجنرال “سيرغي سوروفيكين” قائدًا للمجموعة المشتركة من القوات الروسية في منطقة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والذي ورد اسمه إلى جانب قادة روس وبعض القادة السوريين الذين يمكن أن يُعتبروا مسئولين عن انتهاك حقوق الإنسان أثناء الزحف على محافظة إدلب. ويأتي تعيين الجنرال الروسي بعد حادثتين أساسيتين، الأولى هي التفجير الذي أصاب جسر القرم، والثانية هي إخلاء القوات الروسية مواقع لها في منطقة خيرسون جنوبي البلاد، وإعادة تموضعها في بعض المناطق.
وزعمت “هيومن رايتس ووتش” أن القوات الروسية تحت قيادته قصفت عمدًا مناطق سكنية وبنى تحتية مدنية، وتوصل تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عام 2019 إلى نتيجة مماثلة، ودائمًا ما تنفي موسكو مثل هذه الاتهامات، بل ونتيجة عمله في سوريا حصل سيرغي سوروفكين على وسام بطل روسيا، وهو أعلى جائزة في البلاد.
سارعت سوريا لدعم حرب روسيا في أوكرانيا من خلال دعم المتطوعين الذين يريدون مساندة القضية الروسية، وحرصت وسائل الإعلام السورية على غرس الشعور بالإثارة، وتأجيج الدعم الشعبي، وتشجيع المتظاهرين في الجامعات لمساعدة روسيا. ولإثبات جدية دعمها، عرضت شعبة المخابرات العسكرية 217 على المتطوعين عقدًا يشمل مزايا مادية وعينية، حيث يقدم نحو 3000 دولار أمريكي للمقاتلين المتطوعين و7000 دولار أمريكي للمقاتلين الجرحى وحصصًا غذائية لأسر المتطوعين. ويتضمن العقد أيضًا مبلغ تأمين بقيمة 15000 دولار أمريكي يُدفع في حال وفاة المتطوع أثناء القتال.
في غضون أيام قليلة، شرعت وسائل الإعلام السورية الرسمية في الإعلان عن أعداد المتطوعين التي بلغت بحسب المصادر الرسمية 40 ألفًا من المرتزقة. ولكن هذه الأرقام لم تؤكدها أي مصادر مستقلة ولا تبدو واقعية، ولا سيما بعد رفض السلطات الروسية استقبال المتطوعين المدنيين السوريين الذين قدموا أنفسهم طواعية إلى السفارة الروسية في دمشق وإلى قاعدة حميميم الجوية العسكرية.
الفيلق الدولي
على الجانب الأوكراني وبعد يومين من بداية الغزو الروسي، وجه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، نداءً للمتطوعين الأجانب للانضمام إلى الفيلق الدولي الذي تم تشكيله حديثًا. وسرعان ما حظيت دعوته بدعم رئيس الوزراء الدنماركي ميت فريدريكسن ووزيرة خارجية المملكة المتحدة السابقة ليز تروس التي أعلنت أن معركة أوكرانيا هي معركةٌ من أجل الحرية، ومن أجل “أوروبا بأكملها”. لكن يبدو أن تلك التصريحات الداعمة قد انطلقت بدون التنسيق مع أعضاء الناتو الآخرين الذين تحفظوا في منح المتطوعين الأجانب تفويضًا شبه رسمي للانضمام إلى اللواء الدولي، كما فعلت بريطانيا والدنمارك، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الحلف.
على الجانب الروسي، شجع الرئيس فلاديمير بوتين أيضًا المقاتلين الأجانب على الانضمام إلى ما أسماه بالحرب ضد النازية الجديدة، على الرغم من أن تعداد المقاتلين في القوات المسلحة الروسية يبلغ 900 ألف مقاتل ومليوني جندي احتياطي. ويبدو أن بوتين كان يسعى، من خلال دعوته تلك، إلى تحويل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا إلى حرب “وجودية” ضد “المتطرفين”، وأن يستعرض للعالم كافة قدرة الكرملين على حشد العالم العربي في الخندق الروسي. ولكن، باستثناء سوريا، لم تستجب الدول العربية للدعوة الروسية، ومن الواضح أن ذكرى القيود الدبلوماسية خلال الحرب الباردة والتخلي عنها عندما سقط جدار برلين، لا تزال ماثلة أمام أعينها.
أعلن الجيش الروسي أنه قد أوكل مهمة تجنيد المتطوعين إلى عدد من الشركاء في القطاع الخاص مثل شركة الصياد، وهي شركة لخدمات الحراسة والحماية، التي فتحت باب التسجيل في 12 مارس 2022، لتتلقى نحو 30 طلبَ انضمام فقط على الرغم من توقعها تسجيل مئتي طلب.
وقد أشرف هاني أبو شموط، القائد السابق لفصيل لواء العهدة العمرية والذي عمل كمترجم للقوات الروسية في منطقة دمشق، على تجنيد متطوعين من بلدات متعددة، بما فيها القطاع الشرقي لمدينة حمص، ولكنه لم يعلن عن نتائج جهوده في عمليات التجنيد تلك. أما نبيل عبد الله، قائد قوات الدفاع الوطني شبه العسكرية، فقد عرض الاستعانة برجاله الذين وصفهم بأنهم خبراء في القتال الحضري، ولكن الحقيقة هي أنهم غير خبراء وغير مجهزين عسكريًا ولم يتفوقوا قط في ساحة المعركة.
الاستخدام الروسي للمرتزقة السوريين
الواقع أن محاولة روسيا لاستخدام المرتزقة السوريين وقودًا للقتال في المناطق السكنية لم يكن مقدرًا لها النجاح منذ البداية. فاستراتيجية موسكو التي كانت تعتمد على تدفق المقاتلين الأجانب لتثبيط عزيمة الشعب الأوكراني، وكسر المرونة المدنية، وحرمان جيش كييف من دعمه الشعبي، كانت تعاني من تناقضاتٍ تكتيكية. ولو كان المقاتلون السوريون ضرورة حيوية لنجاح الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا، لتحتم على موسكو السعي إلى تجنيد منتسبي الجماعات المسلحة التي تدعم روسيا، مثل اللواء الثامن الذي يتألف من جنود محترفين مسلحين بأسلحة فردية، ويتقاضون رواتبهم بانتظام، ومعتادين على العمل مع الضباط الروس. ولكن روسيا لم تحاول أبدًا أن تستخدم هذه الإمكانات العسكرية المتاحة لها.
علاوة على ذلك، عدم خبرة الروس في قيادة المقاتلين السوريين تحت القصف، وافتقار مجموعات القتال لضباط الصف الذين يحافظون على تسلسل قيادي قوي في الميدان أثر سلبًا على نجاح الحملة الروسية. وبينما تتقن روسيا تمويل وتجهيز الجماعات المسلحة وقصف المدن، إلا أنها لا تعرف كيفية تنسيق العمليات على الخطوط الأمامية مع القوات المساعدة والاستفادة من المجندين السوريين في أداء المهام البسيطة مثل الحراسة، والمناولة، والتنظيف بتكلفة أقل للجيش الروسي.
وعلى الرغم من جهود التعبئة التي قامت بها حكومة دمشق وشركاؤها في القطاع الخاص، فقد فشل هدف روسيا في إغراق أوكرانيا بالمقاتلين الأجانب. وأكد الجنرال كينيث ماكينزي، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية، أنه لم يكن هناك تدفق للمقاتلين السوريين في هذه المرحلة، فأولئك الذين تطوعوا لا يحققون التأثير المطلوب، ومهاراتهم العسكرية ضعيفة بشكل عام، وهم في الغالب مدفوعون بالمال. كما أن الجماعات المسلحة ذات الخبرة الواسعة والمَعرفة المُحددة والمختصة، خاصة الجماعات التي لديها قناصة وخبرة في التعامل مع المتفجرات، بقيت بعيدة عن الصراع بسبب عدائها الشديد للنظام السوري وحليفه الروسي.
وهكذا فإن محاولة بوتين لحشد المتطوعين جاءت بمثابة استجابة لا إرادية لنداء زيلينسكي، دون تقييم شامل للسلبيات المحتملة. وأكد فشل حملة التجنيد التي أطلقها النظام السوري أن نقطة ضعف هذا النظام هو حليفه الأكبر روسيا.
ختامًا..
جاءت الحرب الروسية الأوكرانية بعدة آثار على التواجد الروسي في سوريا ودعمها لنظام الأسد، ليس عسكريًا في صورة سحب معدات وقادة ومقاتلين، ولكن سياسيًا أيضًا. فبالرغم من أن روسيا كانت تتوقع نجاح القمة العربية المنعقدة حاليًا في الجزائر العاصمة، حيث كانت تأمل في تحقيق إنجاز شخصي للرئيس بوتين من خلال عودة سوريا إلى المسرح الإقليمي، إلا أن توقعاتها هذه لا يبدو أنها ستكلل بالنجاح. فالقرائن القليلة على توافق الدول الأعضاء على دعوة بشار الأسد لحضور القمة، التي كانت تلوح في بداية العام، قد اختفت بعد المشاورات التي أجراها أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، مع أعضائها.
كما سعت الجزائر في الكواليس بتشجيع من روسيا لإعادة دمشق إلى الجامعة العربية، التي علقت عضويتها فيها نهاية عام 2011 في بداية الحراك ضد نظام بشار الأسد، لكنها تخلت عن هذا المسعى رسميًا بناء على طلب النظام السوري نفسه، وأصبح من الواضح أن “دعوة سوريا إلى قمة الجزائر في الوضع الراهن تنطوي على مخاطرة كبيرة، فدركت الجزائر عواقب هذا الوجود على نجاح قمتها وبالتعاون مع دمشق تخلت عن مبادرتها”.
وبينما يسعى الأسد للخروج من العزلة الدبلوماسية لنظامه، يواجه بوتين حليفه الأساسي حاليًا عزلته الخاصة، مما يعيق محاولات سوريا لإخراج نفسها من مأزق سياسي امتد طويلًا.
.
رابط المصدر: