طارق الشامي
عندما بدأ انتشار وباء “كورونا”، طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الكونغرس مليارين ونصف مليار دولار للمواجهة، لكن الكونغرس اعتبرها غير كافية ورصد أكثر من ثمانية مليارات دولار. ومع تزايد خطر الوباء في الولايات المتحدة، قفز الرقم المخصص للأزمة إلى 750 ملياراً، ثم إلى تريليون، وأخيراً، انتهى الأمر إلى تخصيص حزمة تزيد على تريليوني دولار هي الأكبر في التاريخ، أقرها مجلس الشيوخ وانتقلت إلى مجلس النواب لاعتمادها نهائياً، بينما لا تزال هناك تحت المناقشة مشاريع قوانين أخرى لتخصيص تريليونات إضافية إذا تواصلت الأزمة. لكن من أين توفر الحكومة الأميركية كل تلك التريليونات بهذه السهولة؟ مَن سيسدّد هذه الأموال الطائلة؟ هل تستطيع أميركا تحمل تكلفة ذلك؟
عملتان عملاقتان
مع بدء التفكير في طرح الحزمة الأكبر من الأموال (تريليونا دولار)، التي سبقتها حزمتان أخريان بمليارات الدولارات، نشرت مجلة “فورتشن” تقريراً موثقاً بأوراق رسمية من الكونغرس تقول إن رشيدة طالب، وهي عضو ديمقراطية في مجلس النواب، طرحت خطة بمشروع قانون، يسمح لوزارة الخزانة الأميركية بسك عملتين معدنيتين قيمة كل منهما تريليون دولار بهدف توفير هذه الأموال لحزمة التحفيز الاقتصادية الهادفة إلى إنقاذ الاقتصاد الأميركي من التدمير الذي سببه وباء “كورونا”.
وبموجب هذه الخطة، تودع وزارة الخزانة العملتين المعدنيتين وفقاً للقانون، في مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) الذي يضيف تريليوني دولار إلى حساب وزارة الخزانة، ومن ثم تستخدم الوزارة هذه الأموال تحت إشراف الكونغرس من أجل تحفيز الاقتصاد الأميركي.
غير أن هذه الخطة غير المسبوقة في التاريخ، بدت غير قابلة للتطبيق أيضاً. بالتالي، لم تجد طريقها إلى النور، وبدلاً من ذلك، ستموّل الحكومة الأميركية خطة التحفيز الاقتصادي التي تعادل ضعف خطة التحفيز التي أُقرت وقت الأزمة الاقتصادية عام 2008 من خلال الطريقة التقليدية التي اتُّبعت من قبل وهي الاستدانة عبر بيع سندات الخزانة.
تمويل الدين
ومنذ أن توقف الكونغرس الأميركي العام الماضي 2019 عن تحديد سقف للدين الحكومي لمدة عامين، أصبحت وزارة الخزانة مطلقة اليدين، وتستطيع أن تستدين كيفما شاءت وبأي قدر من خلال إصدار سندات حكومية وبيعها للبنوك كلما اقتضى الأمر. وإذا لم يكن لدى البنوك ما يكفي من الأموال، يقرض الاحتياطي الفيدرالي البنوك بما تحتاج. وفي خطوة تالية، تبيع البنوك، بهامش ربح ضئيل، هذه السندات الحكومية الأميركية للمستثمرين حول العالم بما في ذلك الحكومات الأجنبية والصناديق المشتركة وغيرها ممن يرغب في الحفاظ على أمواله في مكان آمن.
وطالما استمر المستثمرون في شراء الديون الأميركية، ولا سيما في أوقات الاضطراب المالي العالمي، ستواصل الحكومة الأميركية عملية البيع وستظلّ هناك سوق لها.
ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن ذلك لا يعني أن الإدارة الأميركية متلهّفة لمزيد من الديون، ولكنها تفعل ذلك لأن البديل أسوأ، فإذا أصبح العمال عاطلين عن العمل لأشهر عدّة واضطرب أداء الشركات الأميركية لتحقق خسائر تلو الأخرى، فستكون هناك نتائج كارثية تفوق بكثير الآثار المترتبة على زيادة الدين.
هل من خطر؟
حتى الآن، وصلت الديون الفيدرالية الأميركية إلى 79 في المئة من إجمالي الناتج القومي المحلي للولايات المتحدة، وهو مستوى مرتفع جداً، لكنه من الناحية التاريخية، لا يمثّل رقماً قياسياً جديداً في مستوى الدين، إذ تجاوز الدين الفيدرالي الأميركي حاجز 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن ما يثير قلق البعض، هو تقرير أصدره مكتب الميزانية التابع للكونغرس قبل أسبوعين، توقع فيه ارتفاع مستوى الدين الفيدرالي الأميركي إلى 31.5 تريليون دولار بحلول عام 2030، ما يثير أسئلة أوسع عن كيفية سداد هذه الديون.
جاذبية السندات
غير أن وباء “كورونا” وما رافقه من هبوط حاد في أسعار الأسهم، دفع المستثمرين إلى الإقبال على شراء الديون الحكومية الأميركية، على الرغم من أن العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات وصل عند نقطة ما هذا الشهر إلى 0.54 في المئة.
وبحساب معدل التضخم، فإنّ هذا يعني أن المستثمرين لديهم فعلياً الرغبة في إقراض الحكومة الأميركية أموالاً بالخسارة، لأنهم فقط يتطلّعون إلى مكان آمن يودعون فيه أموالهم في وقت الاضطرابات والشكوك المزعجة، وعلى الرغم من أن العائد على السندات الحكومية الأميركية لأجل 10 سنوات ارتفع إلى 0.99 في المئة، إلاّ أنّه يُعدُّ مستوى منخفضاً للغاية بالمقاييس التاريخية، وهو الأمر الذي جعل وزارة الخزانة تدرس حالياً إصدار سندات جديدة لأجل 50 عاماً لتمويل النفقات الجديدة لإنقاذ الاقتصاد الأميركي.
إلى متى يستمر الإقراض؟
ويتساءل كثيرون في الولايات المتحدة وحول العالم عن المدى الزمني الذي يمكن أن يستمر فيه المستثمرون وغيرهم في مواصلة إقراض الحكومة الأميركية التي يتزايد حجم ديونها يوماً بعد يوم، لكنه تساؤل مردود عليه، فقد تعايشت دول كثيرة مثل اليابان مع مستويات مرتفعة من الديون لسنوات عدّة، بينما شهدت دول أخرى مثل اليونان وأيرلندا، أزمات مالية نتيجة للديون المثقلة عليها.
وفي حين يعتقد البعض أن عبء الديون الأميركية المرتفع ينبغي أن يحول دون الإنفاق الحكومي الضخم لمكافحة “كورونا”، وتحفيز الاقتصاد وبث الطمأنينة في نفوس الشعب الأميركي، إلاّ أنّه مع مرور الوقت وبدء تعافي اقتصاد أكبر دولة في العالم، من خلال مزيج من النمو الاقتصادي وزيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام، عندها سينخفض عبء الديون.
غير أن الحذر ممّا يمكن أن تحمله الأيام بسبب تداعيات الوباء على الاقتصاد الأميركي والمخاوف المتنامية من الانكماش، لا تزال تمثّل عاملاً مقلقاً إلى حد بعيد، وحتى قبل أن يضرب “كورونا” ضربته المؤلمة للاقتصاد الأميركي، كانت واشنطن مهيأة لإنفاق تريليون دولار إضافية أكثر ممّا جمعته، ولهذا فإن الكثير ما زال يعتمد على ثقة المستثمرين حول العالم في الاقتصاد الأميركي.
رابط المصدر: