نشر معهد الدراسات السياسية الدولية (ISPI)، وهو مركز أبحاث إيطالي متخصص في الشؤون الدولية، في الأول من ديسمبر 2022 مقالاً لمارك إن كاتز، أستاذ الحكم والسياسة بجامعة جورج ميسون، والزميل الأول غير المقيم في المجلس الأطلسي، بعنوان: “كيف تضرب الحرب في أوكرانيا منطقة الشرق الأوسط”، حيث يَخلُص فيه كاتز إلى أن الصراع في أوكرانيا يمكن أن يساهم في انهيار النظام في منطقة الشرق الأوسط، وهو الشيء الذي لا يستطيع الغرب ولا روسيا منعه أو حتى السيطرة عليه، على حد تعبير الكاتب. وقد جاء المقال على النحو التالي:
لقد كان للحرب في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير 2022، أصداء مهمة في أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط.
وقبل اندلاع الحرب، كان أحد النجاحات العظيمة لدبلوماسية الرئيس فلاديمير بوتين هو حقيقة أن روسيا قامت بتطوير علاقات جيدة مع جميع حكومات الشرق الأوسط التي تعتبر في الأساس موالية للغرب (حيث تتمتع الحكومات المعادية للغرب أصلاً في إيران وسوريا بعلاقات جيدة مع روسيا، ولكن على النقيض من ذلك مع الولايات المتحدة أو العديد من الحكومات الأوروبية).
فما هي أسباب نجاح دبلوماسية بوتين في منطقة الشرق الأوسط؟
في الحقيقة، كان لتفضيلات حكومات الشرق الأوسط دور كبير في ذلك.
فربما رأت بعض الحكومات الموالية للغرب في المنطقة أن التعاون مع روسيا في وقتٍ تصاعدت فيه حدة التنافس الروسي- الغربي كان بمثابة وسيلة لتحفيز الغرب على الاستمرار في الانخراط في منطقة الشرق الأوسط (حيث كانت الحكومات هناك تخشى أن يتضاءل الدور الذي يلعبه الغرب في المنطقة، كما حدث في كثير من الأحيان من قبل). وكان التعاون مع روسيا أيضاً وسيلة استخدمتها تلك الحكومات الشرق أوسطية – خاصة تلك المهتمة بإيران وحلفائها – لمنح موسكو حوافز لمراعاة مصالحها (الحكومات الشرق أوسطية)، والكف عن دعم طهران ضدها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد رأى البعض في روسيا مصدراً بديلاً لتوريد الأسلحة دون تقديم مطالب غير مرحَّب بها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان كما دأب على القيام به المشرعون والصحفيون والنشطاء في الغرب.
لقد حاولت الحكومات الموالية للغرب في منطقة الشرق الأوسط منذ بداية الحرب في أوكرانيا، في فبراير 2022، الحفاظ على توازنها بين روسيا والغرب. وفي إطار شَغلها حالياً فترة عضوية غير دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فقد امتنعت دولة الإمارات العربية المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي المدعوم من الغرب والذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا. وبينما دعمت العديد من حكومات الشرق الأوسط قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (غير الملزمة) ضد روسيا، إلا أن بعضها امتنع عن التصويت أو لم تشارك في التصويت عليها. وحتى إسرائيل – الشريك الأقرب للولايات المتحدة في المنطقة – لم تفعل شيئاً يذكر لمساعدة أوكرانيا، بسبب رغبتها في تجنب استعداء روسيا والمخاطرة بتعطيل اتفاق تفادي التضارب بين روسيا وإسرائيل، حيث تغض موسكو بموجبه الطرف عن الهجمات الإسرائيلية على مواقع إيران وحزب الله في سوريا.
وعلى الرغم من توتر علاقات تركيا مع الغرب حول العديد من القضايا، إلا أنها لعبت دوراً حاسماً في إقناع روسيا بالسماح باستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية (التي يعتمد عليها الشرق الأوسط بشكل خاص) والتي كانت قد منعتها البحرية الروسية في الأشهر الأولى من اندلاع الحرب. وبينما تشعر الحكومات الغربية بالاستياء من عدم مشاركة تركيا في العقوبات الغربية ضد روسيا، وكذلك التهديد بمنع انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، فإنها مع ذلك تُقدّر الدور الذي لعبته تركيا في السماح للحبوب الأوكرانية بالوصول إلى السوق العالمية.
ولم يكن الغرب سعيداً بسلوك المملكة العربية السعودية (في ظل حرب روسيا على أوكرانيا)، ليس فقط لعدم رغبتها في زيادة إنتاج النفط بناء على طلب من الغرب، ولكن بشكل خاص للانضمام إلى روسيا في خطة أوبك+ لخفض الإنتاج (مما يؤدي إلى إبقاء أسعار النفط مرتفعة، مما يساعد روسيا باعتبارها دولة مصدرة للنفط ويؤذي الغرب المستورد للنفط بشكل أساسي). وقد تؤثر الدعوات التي ظهرت في واشنطن لمراجعة وضع العلاقات السعودية- الأمريكية سلباً على العلاقة الأمنية الأمريكية السعودية – وهو أمر ترحب به موسكو بالتأكيد.
وكان قد تم تداول تقارير تفيد بأن مقتضيات الحرب في أوكرانيا أدت إلى قيام روسيا بتقليص وجودها في سوريا، فضلاً عن ترك المزيد من المسؤوليات لإيران هناك. وإلى الحد الذي يحدث فيه ذلك، فإن ذلك يعني أن روسيا أقل قدرة على الحفاظ على التوازن هناك بين إسرائيل، من جهة، وإيران وحلفائها من حزب الله من جهة أخرى؛ وكذلك بين تركيا ونظام الأسد والقوات الكردية السورية. وقد تكون النتيجة المترتبة على ذلك إحياء الصراع في سوريا من جديد.
والأبعد من ذلك، أنه قد تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى أن تصبح روسيا شريكاً أقل فائدة لدول الشرق الأوسط، إذا قاد هذا الوضع إلى أن تكون موسكو أقل استعداداً وقدرة على تصدير الأسلحة إلى دول الشرق الأوسط، بسبب مشاكل الإنتاج الروسية الناشئة عن العقوبات الغربية، إلى جانب حاجة موسكو الخاصة إلى هذه الأسلحة في أوكرانيا.
وفي واقع الأمر، فقد استوردت موسكو من إيران طائرات مسلحة بدون طيار لاستخدامها في أوكرانيا. وقد يعني الاعتماد الروسي على إيران في مثل هذه الأسلحة أنه حتى خارج سوريا، فإن روسيا أقل استعداداً أو قدرة على الحفاظ على التوازن بين إيران من جهة وخصومها في الشرق الأوسط من جهة أخرى. وعلى المدى القصير، فقد يضاعف خصوم إيران في الشرق الأوسط جهودهم لمغازلة موسكو لموازنة اعتمادها على إيران. ومع ذلك، فعلى المدى الطويل، قد يجدون روسيا شريكاً أقل فائدة بالنسبة لهم، إذا كان اعتمادها على إيران يعني أنها (روسيا) لا تستطيع أو لن تعمل على كبح السلوك الإيراني العدائي تجاههم.
وطالما استمرت الحرب في أوكرانيا، ففي واقع الأمر قد لا تكون روسيا في وضع يمكّنها من زيادة وجودها العسكري في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فليس من الواضح إلى أي مدى يمكن للغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، تقديم المساعدة لدول الشرق الأوسط التي تشعر بالتهديد من قِبل إيران، بينما تركز أمريكا وأوروبا بشكل أكبر على كل من روسيا في أوروبا والصين في آسيا. وإذا لم ترى دول الشرق الأوسط أن الغرب أو روسيا قادران على الحفاظ على النظام في تلك المنطقة، فقد تشعر القوى الإقليمية في الشرق الأوسط بأمسّ الحاجة إلى التصرف بمفردها، بما في ذلك تقليل مستويات ضبط النفس الخارجي عند القيام بذلك. ولذلك، فقد يؤدي الصراع المطوَّل في أوكرانيا إلى زيادة الصراع في منطقة الشرق الأوسط.
وأخيراً، فكلما طالت الحرب في أوكرانيا، كلما زادت احتمالية عودة العجز في صادرات الحبوب، إما نتيجة للحصار الروسي المتجدد على صادرات الحبوب الأوكرانية، أو بسبب انخفاض قدرة المَزارع الأوكرانية، المتأثرة باستمرار الحرب، على إنتاج نفس القدر من الحبوب التي كانت تنتجها من قبل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة عدم الاستقرار في جميع أنحاء الدول الأشد فقراً في منطقة الشرق الأوسط – مما سيشكل بدوره تهديداً لجيرانها الأكثر غِنى. ولن تتأثر سلباً من ذلك الدول الموالية للغرب فقط، بل الدول المعادية للغرب أيضاً. وبالتالي، فإنه يمكن أن يساهم الصراع في أوكرانيا في انهيار النظام في الشرق الأوسط، في الوقت الذي لا يستطيع الغرب ولا روسيا أن يمنعه أو أن يتمكن حتى من السيطرة عليه.
.
رابط المصدر: