لا تزال تداعيات الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا تلقي بظلالها سلبًا على العالم ومصر، فارتباط مصر بنظام الاقتصاد العالمي لا يجعلها بمنأى عما يحدث. ومع دخول صراعات روسيا وأوكرانيا أسبوعها الثالث، يشهد العالم ارتفاعًا جنونيًا في جميع أسعار السلع والمواد الأخرى، ولذلك تعمل الحكومة المصرية بكل ما أوتيت من قوة على امتصاص أكبر قدر من تداعيات الأزمة، وتخفف الحمل عن مواطنيها.
العالم يدفع ثمن الحرب
“الحرب مكلفة وغالية”، هذا هو الدرس الذي نتعلمه بقسوة ونحفظ معانيه جيدًا الآن، ففي ظل هذا المشهد المرتبك، يتلقى الاقتصاد العالمي ضربة قوية، وهو لم يسترد عافيته من الضربة الكبرى التي أطاحت به أرضًا من تفشي جائحة كورونا، ليجد نفسه وسط صراع بين بلدين منهم قوة عظمى، ووسط عقوبات انتقامية مغلظة من الغرب لن تتأثر بها روسيا وحدها، بل الجميع سيتلقى منها نصيبًا.
الصراع في حالته الراهنة قلب جميع الموازين، ما بين أسواق السلع والطاقة، وجميع الاستراتيجيات التي وضعت للوصول بالاقتصاد العالمي إلى مرحلة التعافي من الجائحة، فنحن على بعد خطوات من “الركود التراكمي”، وتضخم يرتفع إلى معدلات غير مسبوقة، ما يعني أزمة حادة في القدرات الشرائية.
وعن المواطن المصري، للوهلة الأولى، بقراءة المشهد نرى أن كثيرًا من المصريين سيدفعون جزءًا من ثمن هذه الأزمة العالمية التي لا دخل لهم بها، فكانت البداية بارتفاع سعر البترول إلى 112 دولارًا في أسواق اليوم، وهو بشكل حتمي سيقود إلى ارتفاع أسعار الوقود لا محالة، وسيتبعه ارتفاع أسعار السلع، ما يشكل تهديدًا واضحًا لـ “الأمن الغذائي” في مصر.
فمصر من الناحية السياسية اتخذت موقفًا محايدًا من هذا الصراع بين القوى الكبرى، وناشدت الأطراف المتصارعة اللجوء إلى الحوار والدبلوماسية لتسوية الخلافات والعمل على حماية الحقوق الإنسانية. وبغض النظر عن موقفها من التوتر بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، فهي تجد نفسها أمام تحدٍ خطير يتمثل في الأثر الذي قد يتركه تصاعد حدة الصراع على إمداداتها من القمح الذي تستورده من روسيا وأوكرانيا من ناحية، وعلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية من ناحية أخرى والتي تشهد بالفعل ارتفاعًا نتيجة تداعيات الجائحة، حيث زاد سعر طن القمح في السوق المصرية نحو ألف جنيه، ليتراوح بين 6 آلاف إلى 6500 جنيها، بينما ارتفع طن المكرونة إلى 10 آلاف جنيه مقابل نحو 8 آلاف جنيه قبيل الأزمة الأوكرانية، وبعد الأزمة قفز سعر طن الدقيق إلى أعلى مستوى له ولامس حاجز 11 ألف جنيهًا.
وتعد مصر المستورد الأكبر للقمح في دول الشرق الأوسط، حيث تستورد 13 مليون طن، بجانب أنها الأولى عالميًا في استيراد الذرة من أوكرانيا خلال الموسم الزراعي 2020-2021، وهو ما يجعل ناقوس الخطر يدق بفضل هذه الأزمة، فنحن نتحدث عن أهم سلعة تستهلك يوميًا وهي “رغيف الخبز”، وهذا يعني أن قوت الناس اليومي في خطر.
استغلال التجار، وارتفاع سعر الخبز غير المدعم
ارتفع سعر الخبز غير المدعم في مصر بقيمة 25 قرشًا، خلال الأيام القليلة الماضية، نتيجة زيادة مفاجأة في سعر الدقيق حيث وصل إلى 11 ألف جنيه، وسط تصريحات المسؤولين بأن هذه الزيادة غير مبررة، في ظل وجود مخزون احتياطي يكفي البلاد. ولكن وسط هذا الكم من التشاؤم، يتوقف مدى تأثر مصر على درجة جاهزية الدولة للتعاطي مع كافة السيناريوهات المتوقعة، وقد كونت الحكومة عدة خطط لمواجهة تداعيات الأزمة، مؤكدة أن مصر تمتلك مخزونا استراتيجيًا من جميع السلع، وهو سبب تأخر الإحساس بالأزمة محليًا.
الحكومة تتحمل فرق الأسعار، وتخفف من صدمات الأزمة على المواطن
في مواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على أمن مصر الغذائي، قررت الحكومة اتخاذ إجراءات أكثر حزمًا، لتأمين مخزونها من السلع الاستراتيجية والاحتياجات الأساسية للمواطنين، وكان أبرز هذه الإجراءات هو قرار وزارة التجارة والصناعة بحظر تصدير الفول، والعدس، والقمح، والدقيق بجميع أنواعه، فضلًا عن المكرونة بأنواعها، وذلك لمدة 3 أشهر، وذلك ضمن ” قرارات استباقية”، تحسبًا لعدم وجود مستورد جراء الظروف الحالية، وارتفاع الأسعار العالمية، مما يسهم في توفير السلع وعدم غلائها وضبط أسعارها في الداخل، خاصة أننا مقبلون على شهر رمضان الذي يتزايد فيه الإقبال على السلع.
وعلاوة على ذلك، فقد تحوطت الحكومة المصرية في أزمة القمح العالمية، وذلك منذ بداية جائحة كورونا عام 2019، وقامت بوضع سيناريوهات وخطط بديلة حال وقوع أي حدث طارئ، فضمنت مخزونًا استراتيجيًا قويًا من السلع الأساسية والاستراتيجية، مثل القمح والسكر والزيت والحبوب بمختلف أنواعها، فهناك احتياطي استراتيجي من السكر يكفي لمدة 4.5 شهر، ومن الزيت لمدة 5.5 شهر، والأرز 6.5 شهر، والفول 3 أشهر، واللحوم والدواجن 8.5 شهر.
ويُذكر أن الحكومة المصرية وفرت 87 مليار جنيه (نحو 5.5 مليار دولار) في موازنة العام الحالي للإعانات المقدمة للسلع الغذائية، وهو ما يمثل 3.5٪ من إجمالي الإنفاق العام، على أن يشمل ذلك 50 مليار جنيه لدعم الخبز و37 مليار جنيه لدعم السلع التموينية، ورفعت أسعار شرائه من المزارعين محليًا بنسبة 15% لتشجيعهم على الزراعة، بالإضافة إلى أن اعتدال المناخ لزراعة القمح زاد من حجم الإنتاج مما يقلل احتياج مصر من القمح المستورد. ويكفي المخزون الاستراتيجي المصري من القمح في الوقت الحالي 5 أشهر، وبدءًا من 15 إبريل المقبل سيتم ضم الإنتاج المحلي من القمح ليكفي إجمالي الاحتياطي لمدة 9 أشهر.
وأمرت الحكومة بضخ أكثر من 50 مليار جنيه لتعزيز المخزون الاستراتيجي من السلع، ورفع سعة الصوامع التخزينية من 2 مليون طن قمح إلى أكثر من 4 ملايين طن خلال السنوات القلية الماضية، وأعلنت الحكومة أن هناك 14 دولة على مستوى العالم تصلح كبديل يمكن من خلالهم استيراد القمح حال استمرار الأزمة، واجتمعوا بقيادة رئيس مجلس الوزراء في مؤتمر ناقش تداعيات الأزمة على مصر، وطمأنوا المواطنين بأن هذه التداعيات سيتحملها الجميع حكومة وشعبًا، وسيتكاتف الجميع للعبور من هذه الأزمة.
الحكومة تراقب الوضع، وتضع السيناريو المتفائل
شدد المؤتمر الصحفي الذي أقامه رئيس الوزراء وعدد كبير من الوزراء على أن الدولة المصرية تعمل بكد من أجل مصلحة المواطن المصري، وعدم تركه فريسة للغلاء، منوهة أن الزيادات في الأسعار طالت العالم كله، ولكن مصر تأثرت بها بشكل أقل من أي دولة أخرى في العالم.
وحول الاجتماع الذي ناقش تداعيات الأزمة اقتصاديًا على مصر، صرح وزير المالية “محمد معيط”، بأن وزارته تقوم بالتنسيق مع وزارة البترول والثروة المعدنية لتوفير كل احتياجات الدولة المصرية، وأكد أن الموازنة العامة قادرة على التعامل مع هذا الظرف، كما تعاملت مع ظرف جائحة كورونا وتبعاتها.
وكشف الدكتور “علي مصيلحي”، وزير التموين، عن تحمل الدولة المصرية نسبة كبيرة من فرق الأسعار، حتى لا يشعر المواطن بحجم الأزمة، فذكر أن الجزء الأكبر من هذه الزيادات تتحمله الدولة بنسبة 100% بالنسبة للخبز المدعم، أما في الزيت فقد تحملت الدولة أكثر من 75% حيث كان وصل الزيت إلى 1470 دولارًا أي تم مضاعفة سعره وهذا لم يؤثر على سعره في السوق المصري، وأن الزيادات التي حدثت ليست الضعف، حيث ارتفع سعر نوع منه من 17 جنيهًا إلى 20 جنيهًا، ونوع أخر من 21 إلى 25 جنيهًا، وبالنسبة للسكر فإننا لدينا تقريبًا اكتفاء ذاتي حيث إن 87% من استهلاكنا يتم إنتاجه في مصر، وتم استيراد 100 ألف طن خام قبل الزيادات، ولذلك فإن السكر مؤمن ولا توجد هناك زيادات في سعره.
وفيما يخص الأرز، قال الوزير إنه سيتم العمل على توفير جميع الإمكانيات المطلوبة من الأرز في شهر رمضان، وسيعرض بأقل من 10 جنيهات للكيلو، وذلك من خلال تدخل الحكومة مباشرة مع التجار، حتى لا يكون هناك أي نقص في المعروض.
وأضاف “مصيلحي” أنه بحلول 15 مارس الجاري سيتم عرض السلع بأسعار مناسبة ومخفضة للمواطنين تصل إلى 20%، وسيتم فتح 200 شادر لمعرض “أهلا رمضان” بالمحافظات ومنافذ جمعيتي وشركات الجملة ومنافذ السلاسل لتوفير احتياجات المواطنين في جميع المحافظات بأسعار في متناول الجميع، وبها تخفيضات من 10 إلى 15% وفي بعض السلع تصل إلى 25%.
وفيما يخص اللحوم، أكد مصيلحي أن زيادة أسعار اللحوم والأعلاف على مستوى العالم، وأنه يتم في المنافذ عرض 3 أنواع من اللحوم ذات الجودة العالية وهي الهندي سيتم طرحها بـ 55 للكيلو، والبرازيلي المجمد سيتم طرحها ب 85 جنيهًا للكيلو، والسوداني المذبوح في مصر 95 جنيهًا للكيلو، مشيرًا إلى أنه سيتم زيادة المعروض من اللحوم البلدية والدواجن، وسيتم العمل مع مؤسسات المجتمع المدني لزيادة كراتين رمضان وكوبونات الخصم.
ومن جانبه، أشار “السيد القصير” وزير الزراعة إلى المجهودات التي بذلتها الدولة خلال الفترة الماضية، والتي بسببها نقف اليوم على أرض صلبة في ظل هذا الصراع، مستعرضًا نتيجة مشروعات التوسع الأفقي الذي تنفق عليه الدولة المليارات، والذي مكّن مصر من زراعة 3.6 مليون فدان لتحقيق قدر كبير من الأمن الغذائي لشعب مصر.
وخلال المؤتمر الصحفي، قالت “نيفين جامع”، وزيرة التجارة والصناعة، إنه منذ بداية الأزمة تقوم الوزارة بالتنسيق المستمر مع اتحاد الغرف التجارية واتحاد الصناعات وكبار المنتجين، ودائمًا نولي أهمية كبيرة للشراكة القائمة بين الحكومة والقطاع الخاص من أجل العمل على زيادة المعروض، وألا يكون هناك أي نقص في السلع الاستهلاكية.
واختتم رئيس الوزراء “مصطفى مدبولي” المؤتمر بتأكيده أن الثوابت التي تعمل من خلالها الحكومة تقوم على امتصاص أكبر قدر من التداعيات السلبية على الدولة، بحيث يكون هناك أقل قدر ممكن من التأثير السلبي على المواطن، مناشدًا المواطنين أن يكونوا على قدر عال من المسؤولية، وأن يقوموا بترشيد الاستهلاك وعدم تخزين سلع لا يحتاجونها في الوقت الحالي، لتزيد مدة عدم الاحتياج للسلع من الأسواق العالمية، ومن جانب الحكومة، أكد مدبولي أنها ستتعامل بحزم مع أي ممارسات غير مقبولة من التجار.
المنافذ الحكومية ومنظمات المجتمع المدني تواجه الغلاء
وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لدعم منظومة الحماية الاجتماعية للمواطنين، وبمناسبة حلول شهر رمضان المبارك والاحتفال بعيد الأم، وعملًا باستراتيجية وزارة الداخلية في تكريس الدور المجتمعي لمنظومة العمل الأمني من خلال المساهمة في رفع العبء عن كاهل المواطنين، وبالتنسيق مع كبرى الشركات والموردين وأصحاب السلاسل التجارية الكبرى لتوفير السلع المختلفة بأسعار مخفضة عن مثيلاتها بالأسواق، وتم التأكد من توفير كافة السلع بشكل دائم وبالكميات التي تلبي احتياجات المستهلك، وذلك عن طريق توفرها في منافذ القوات المسلحة والداخلية ووزارة الزراعة وبأسعار مخفضة عن السوق.
فوزارة الداخلية قامت بكافة إجراءاتها لإطلاق فعاليات المرحلة الثانية والعشرين من مبادرة “كلنا واحد”، والتي ستبدأ من 15 مارس الجاري، ولمدة ثلاثين يومًا، لتوفير كافة المستلزمات الغذائية وغير الغذائية، ومستلزمات البيت المصري وخاصة محلية الصنع، بجودة عالية وأسعار منخفضة بنسبة تتراوح بين 25% إلى 60%.
وكذا، تم التنسيق مع منظومة” أمان”، والتي تشارك في تلبية احتياجات المواطنين من خلال تجهيز العديد من المنافذ الثابتة والمتحركة لطرح السلع المختلفة بأسعار مخفضة بالأماكن النائية والقرى بجميع المحافظات. وتواصل الحملات الأمنية مجهوداتها في الأمر، فشرطة التموين والتجارة بالتنسيق مع مديريات الأمن تقوم بتكثيف الحملات التموينية لمراقبة الأسواق للمحافظة على استقرار الأسعار، ورصد أي احتكار، بالإضافة إلى التحقق من توافر السلع بالأسواق، ومطابقتها للمواصفات ومدى صلاحيتها، وذلك حفاظًا على صحة المواطنين العامة.
وستشارك منظمات المجتمع المدني الحكومة في جميع المبادرات التي تهدف إلى تخفيف وطأة الأزمة على المواطنين، فستشارك مؤسسات حياة كريمة ومصر الخير وبنك الطعام وغيرها في إطار توجيهات رئيس الوزراء بزيادة أعداد “كرتونة رمضان”، للمواطنين الأكثر احتياجًا.
وختامًا، يتسم الاقتصاد المصري بالقوة والمرونة في ظل مروره بأصعب الأزمات، فقد استطاع من قبل أن يتخطى الأزمات التي أثرت على سلاسل التوريد العالمية أو التي أسهمت في ارتفاعات أسعار المواد البترولية، أو الأزمات ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي على المستوى الدولي أو الإقليمي، بل وخرج منها أقوى من السابق، ولعل أزمة تفشي جائحة كورونا خير دليل على ذلك، حيث حققت مصر مستويات نمو مرتفعة حظيت بإشادات كثير من المنظمات الدولية المعنية بتقييم الأوضاع الاقتصادية.
.
رابط المصدر: