منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حصد النزاع بين حماس وإسرائيل أرواح أكثر من 15 ألف فلسطيني/ة وأكثر من 1200 إسرائيلي/ة، وأصيب كثيرون. أدت الحرب إلى تشريد أكثر من 1.8 مليون فلسطيني/ة، مع بقاء مصير الكثير من الإسرائيليين مجهولاً. هناك أكثر من مئة من المختطفين في إسرائيل ما زالوا رهائن. وأسفر القتال عن تضرر 15 بالمئة من البنايات في غزة، بما يشمل أكثر من 100 منشأة ثقافية وأكثر من 45 بالمئة من الوحدات السكنية.
وكما أوضح الكثير من المعلقين في الآونة الأخيرة، فإن الكلفة المرتفعة في غزة تردد صداها في العالم العربي، مع التأكيد على أهمية وقوة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في تشكيل السياسة الإقليمية. لكن كان من الصعب تحديد لأي مدى أثّرت الهجمات على الآراء العربية، وبأي أشكال.
لكن هذا الأمر يتغير حالياً. في الأسابيع السابقة على الهجوم وفي الأسابيع التالية عليه، نفذت شبكتنا البحثية غير الحزبية، الباروميتر العربي، استطلاع رأي ممثل لمستوى الدولة في تونس، بمساعدة الشريك المحلي “وان أون وان للبحوث والاستطلاعات”. بالصدفة، فإن نحو نصف الـ 2406 مقابلة أجريت خلال الأسابيع الثلاثة السابقة مباشرة على يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول والنصف الآخر في الأسابيع الثلاثة التالية على هذا التاريخ. نتيجة لهذا، يمكن لمقارنة النتائج – المنقسمة بالتساوي بدقة كبيرة – أن تُظهر كيف غيّر الهجوم والحملة العسكرية الإسرائيلية التي تلته، من الآراء العربية.
النتائج مدهشة. فالرئيس الأمريكي جو بايدن حذّر مؤخراً من أن إسرائيل تخسر الدعم العالمي لها بسبب غزة، لكن ليس هذا إلا غيض من فيض. فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول شهدت كل دولة مشمولة بالاستطلاع كانت لها علاقات إيجابية – أو آخذة في التحسن – مع إسرائيل، تراجع تحبيذ المواطنين التونسيين لها. أكبر تراجع في الشعبية بين تلك الدول كان من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين صاغوا علاقات مع إسرائيل على مدار السنوات الأخيرة تعرضوا بدورهم لتراجع الشعبية فيما يخص الرأي العام التونسي. في الوقت نفسه، شهدت الدول التي ظلّت على الحياد تغيرات طفيفة في توجهات الرأي العام حولها. كما زادت شعبية القيادة الإيرانية، التي تعارض إسرائيل بقوة على طول الخط. بعد الهجمات بثلاثة أسابيع أصبحت نسب استحسان الرأي العام التونسي لقائد الثورة الإيرانية علي خامنئي توازي أو حتى تتفوق على نسب استحسان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد.
وليست تونس إلا دولة واحدة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة بها اختلافات وتفاوتات كبيرة، ولا يمكن لهذا الاستطلاع أن يخبر الخبراء بكل شيء عن كيف يفكر ويشعر الناس في شتى أنحاء المنطقة. لكن تُعد تونس مؤشراً واضحاً وقوياً على التغير الحادث عبر المنطقة. في استطلاعات الباروميتر العربي السابقة، كانت آراء التونسيين مماثلة لآراء المواطنين عبر أغلب الدول العربية الأخرى. والتونسيون منفتحون على الغرب لكنهم منفتحون أيضاً على قوى عالمية أخرى، مثل الصين وروسيا. تونس بعيدة جغرافياً بعض الشيء عن الآثار المباشرة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن لها تاريخ من المشاركة المباشرة، إذ استضافت من قَبِل منظمة التحرير الفلسطينية. ويمكن للمحللين والمسؤولين أن يفترضوا دون أن يحيدوا عن الصواب، أن آراء الناس في بلدان المنطقة الأخرى قد تغيّرت بقدر مماثل للتغيرات المشهودة في تونس.
هذه التحولات والتغيرات في الرأي العام كانت دراماتيكية؛ فقلما شهدنا تغيرات على هذا النطاق تحدث في ظرف أسابيع قليلة. لكن هذا التحول الكبير لا يشير إلى ردود فعل متعجلة ومؤقتة من التونسيين. إذا كانت آراء الشعب التونسي قد تغيّرت ببساطة لأنها تدعم تحركات حماس؛ كان هذا التغيّر الكبير في الآراء التونسية ليحدث في ظرف يوم من وقوع الهجوم، وكانت توجهات الآراء ستبقى مستقرة من بعد هذا. لكن ما حدث هو أن الآراء التونسية تغيرات تدريجياً، قليلاً كل يوم، على مدار فترة الأسابيع الثلاثة، والمحصلة النهائية لهذا التراكم هو تحول كبير في الآراء على مدار الفترة كاملة. إذن من الأهم هنا رصد كيف أن آراء التونسيين التي تغيرت لم تكن نتيجة لهجوم حماس، إنما بسبب الأحداث اللاحقة على الهجوم، وهي بالأساس تزايد الخسائر في صفوف المدنيين جراء العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. على ذلك، زادت الحرب قطعاً من دعم التونسيين لنضال الفلسطينيين. مقارنة بمرحلة الاستطلاع التي تمت قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، يتبين أن تونسيون أكثر بكثير حالياً يرغبون في أن يتوصل الفلسطينيون إلى تسوية للنزاع مع إسرائيل باستخدام القوة وليس بالتسوية السلمية.
إن الرأي العام مهم حتى في النظم غير الديمقراطية، حيث يتعين على القادة أن يقلقوا من الاحتجاجات المحتملة، وحيث تعيد هذه الآراء المتغيرة من تشكيل السياسة في العالم العربي، كما تعيد تشكيلها على مستوى العالم. سوف تصادف الولايات المتحدة الأمريكية والحلفاء الإقليميين لها صعوبة كبيرة في التوسع في اتفاقات أبراهام، التي يتم بموجبها تطبيع العلاقات بين دول عربية عديدة وإسرائيل. كما قد تخسر واشنطن في تنافسها مع تصاعد سمعة الصين وعودة روسيا في المنطقة. وربما قد تجد الولايات المتحدة الأمريكية أن الكثير من الحلفاء المقربين مثل السعودية والإمارات قد يصبحون أقل وداً نحو الولايات المتحدة الأمريكية وأكثر تقبلاً لمنافسيها، في سعي هؤلاء الحلفاء إلى تجنب الآثار السلبية لتداعيات الموقف على المستوى الإقليمي. منذ الهجوم –على سبيل المثال– رحّبت الدولتان المذكورتان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارته الاولى للمنطقة منذ غزو أوكرانيا.
كما قد تظهر تداعيات خطيرة للدعم المتزايد للمقاومة المسلحة. فالحرب ضد حماس لم تؤد بعد إلى اتساع النزاع، لكن اضطرت إسرائيل لصد هجمات من حزب الله في لبنان، ويعاني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من احتمالات تصاعد الاضطرابات وانعدام الاستقرار. ليس من الصعب تخيّل كيف قد يتصاعد الغزو الحالي أو كيف يمكن أن يفتح الباب أمام مستقبل من النزاعات. لدعم الاستقرار في المنطقة إذن، يتعين على إسرائيل وحلفائها البحث عن سبل لإنهاء هذه الحرب، ومن ثم السعي سريعاً لتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل سلمي.
مرحلة الحضيض
كان مشروع الباروميتر العربي البحثي الأكاديمي بصدد عملية إجراء استطلاع رأي حول القضايا العامة المتنوعة التي تهم المواطنين في تونس، عندما وقع هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. قررنا أن نستخدم هذا التزامن بين بدء البحث ووقوع الهجوم في البحث حول كيفية تأثير ذاك الهجوم والحرب التالية عليه على الرأي العام. وبما أننا لم نتوقع تغيرات كبيرة في آراء التونسيين قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، قمنا أولاً بقياس متوسط الآراء في الأسابيع الثلاثة السابقة على الهجوم. بعد ذلك بحثنا في كيف تغيّر الرأي العام في الأسابيع التالية عليه. بما أن حجم العينة صغير نسبياً لكل يوم من الأيام التالية على 7 أكتوبر/تشرين الأول، فقد أسندنا تقديراتنا إلى كيف يشعر الناس في أي مرحلة زمنية استعانة بالمتوسط الحسابي المتغير لثلاثة أيام متتالية. هذا يعني أن كل نقطة بيانات تمثل تقديراً للرأي يوم إجراء الاستطلاع واليومين السابقين عليه. (وإن كان اليوم الأخير للاستطلاع الميداني هو 4 نوفمبر/تشرين الثاني، فقد كان يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول هو اليوم الأخير للمقابلات اليومية التي جرى خلالها جمع بيانات كافية لإجراء تحليل معتمد النتائج).
بعد وضع تقديرات إحصائية حول هذا المتوسط الحسابي المتغير للرأي العام، قمنا بحساب أفضل تقدير ممكن للوسط الحسابي من المقابلات التي أجريت قبل وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول وذلك لفهم ما الذي تغير – إن كان قد تغير شيء – في إجابات كل سؤال. ساعدت هذه الطريقة في إظهار التحولات في آراء التونسيين بشكل شبه يومي، على الرغم من أن تقديراتنا للتغير في الرأي العام ركزت على رقمين: الأول هو متوسط آراء التونسيين قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، والثاني هو مستوى التأييد بناء على متوسط الآراء حتى تاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك من خلال استخدام طريقة افضل تقدير للمتوسط الحسابي للمقابلات المذكور أعلاه.
حدثت تحولات عديدة، لكن أكبر تحوّل متصل بتصورات المبحوثين حول الولايات المتحدة الأمريكية. في المقابلات الـ 1146 التي تمت قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان لدى 40 بالمئة من التونسيين آراء إيجابية أو إيجابية إلى حد ما تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، مقارنة بـ 56 بالمئة كانت آرائهم غير إيجابية. لكن بعد بدء الحرب في غزة، تغير ذلك بشكل سريع. بنهاية عملنا الميداني، كان لدى 10 بالمئة فقط من التونسيين آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وكان 87 بالمئة لديهم انطباعات غير إيجابية. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كان 56 بالمئة من التونسيين يرغبون في تحسين العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ثلاثة أسابيع من 7 أكتوبر/تشرين الأول تراجعت هذه النسبة إلى 34 بالمئة. لم يكن بايدن يتمتع بالشعبية الكبيرة في تونس في أي وقت، حيث بلغت نسبة استحسانه 29 بالمئة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول. لكن بعد بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية – وإعلان بايدن الدعم الأمريكي “غير المشروط” – تراجعت شعبيته بواقع 6 نقاط مئوية.
لا يعني الارتباط الإحصائي – بطبيعة الحال – وجود علاقة سبب ونتيجة. لكن في هذه الحالة، من الصعب رؤية تفسير بديل، لا سيما على ضوء التحول التدريجي اليومي في الآراء التونسية. كانت الحرب – أكثر من أي متغير آخر بكثير – أكبر حدث وقع خلال فترة إجراء الاستطلاع، ولقد أوضح المبحوثون أن التونسيين يفكرون في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني أثناء تقييمهم للولايات المتحدة الأمريكية. عندما سُئل المواطنين عن أي السياسات الأمريكية هي الأهم لهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اختاروا من بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الدور الأمريكي الممكن في تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بنسب أكبر بكثير، إذ ارتفعت النسبة من 24 بالمئة إلى 59 بالمئة. بالمقارنة، فإن نسبة التونسيين الذين اختاروا دور الولايات المتحدة الأمريكية في “التنمية الاقتصادية” قد تراجعت من 20 بالمئة إلى 4 بالمئة.
حتى الآن، لم تُترجم الآراء المتغيرة حول الولايات المتحدة الأمريكية إلى مكتسبات للصين وروسيا، وكل منهما التزمتا الحياد أثناء الحرب. قبل هجوم حماس، كانت آراء 70 بالمئة من التونسيين إيجابية تجاه الصين. بحلول 27 أكتوبر/تشرين الأول زادت هذه النسبة 5 نقاط مئوية فقط. أما عدد من استحسنوا تقوية العلاقات الاقتصادية مع الصين فقد تراجعت من 80 بالمئة إلى 78 بالمئة، وهو تراجع يقع في نطاق هامش الخطأ. قبل الهجوم، كان 56 بالمئة من التونسيين لديهم آراء إيجابية تجاه روسيا، مقارنة بـ 53 بالمئة بنهاية فترة البحث. ولقد زادت نسبة من فضلوا تحسين العلاقات الاقتصادية مع موسكو من 72 بالمئة إلى 75 بالمئة.
لكن هنالك بوادر على أن الصين – على الأقل – يمكنها ربح دعم أكبر على حساب الولايات المتحدة الأمريكية. رداً على السؤال قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول إن كانت سياسات بكين أو واشنطن هي الأفضل تجاه النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أعرب ثلث التونسيين عن التفضيل للسياسات الصينية. بنهاية فترة إجراء الاستطلاع، زادت هذه النسبة إلى 50 بالمئة. (نسبة التونسيين الذين يفضلون السياسة الأمريكية زادت من 13 إلى 14 بالمئة). لدى السؤال عما إذا كانت الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية هي التي لديها سياسات أفضل على مسار حفظ استقرار المنطقة، كانت النتائج مماثلة. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول بلغت نسبة من فضلوا السياسات الصينية 31 بالمئة ثم ارتفعت إلى 50 بالمئة. وتراجعت النسبة في حالة السياسات الأمريكية من 19 إلى 12 بالمئة.
الآثار اللاحقة بالحلفاء
ليست القوى الكبرى هي الدول الوحيدة التي اختلفت نظرة التونسيين إليها؛ إذ تغيرت أيضاً آراء المواطنين تجاه عدد من القوى الإقليمية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. مثل حال التغيرات في الآراء تجاه واشنطن، تغيرت الآراء كثيراً بناء على كيف تعامل القوى الإقليمية إسرائيل.
فلنأخذ السعودية على سبيل المثال. في الفترة السابقة على الهجوم، كان هناك توقعات على نطاق واسع بأن الرياض ستطبّع العلاقات مع إسرائيل. مع تنامي الغضب تجاه إسرائيل في أوساط التونسيين خلال الأسابيع اللاحقة على 7 أكتوبر/تشرين الأول، تحولت آرائهم نحو السعودية إلى الجانب السلبي؛ إذ تراجعت شعبية السعودية من 73 بالمئة إلى 59 بالمئة في تونس. بالمثل، فإن نسبة التونسيين الذين يرغبون في تقوية العلاقات الاقتصادية مع السعودية قد تراجعت من متوسط 71 بالمئة إلى 61 بالمئة. أما نسب شعبية محمد بن سلمان، فقد تراجعت من 55 بالمئة قبل الهجوم إلى 40 بالمئة بحلول 27 أكتوبر/تشرين الأول. هذه تغيرات مهمة خاصة لأن الرئيس التونسي قيس سعيد – الذي يتمتع بشعبية في تونس – لديه علاقات مقربة مع محمد بن سلمان.
لم يشمل الاستطلاع أسئلة مباشرة حول الإمارات العربية المتحدة، التي طبعت العلاقات مع إسرائيل في أغسطس/آب 2020. لكن سأل الاستطلاع عن سياسات محمد بن زايد الخارجية، وكانت النتائج مشابهة لنتائج محمد بن سلمان. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كان 49 بالمئة من التونسيين يستحسنون سياسات محمد بن زايد، وبنهاية فترة العمل الميداني على الاستطلاع، تراجعت النسبة إلى الثلث فقط.
أما الآراء حول تركيا – على النقيض – فقد ظلت إلى حد بعيد كما هي دون تغيير يُذكر. لطالما سعت أنقرة لتسليط الضوء على مصاب الفلسطينيين وإبداء التعاطف معهم، ولو كان هذا دون تدخلات ملموسة. كان لدى 68 بالمئة من التونسيين آراء إيجابية حول تركيا قبل وبعد الهجوم. ولقد تراجعت الآراء حول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من 54 بالمئة إلى 47 بالمئة، لكن نسبة من يرغبون في علاقات اقتصادية أقوى مع تركيا زادت، من 57 بالمئة إلى 64 بالمئة.
إلا أن الحرب في غزة لم تحسّن من آراء التونسيين إزاء تركيا، ربما لأن إدانتها لإسرائيل ظهرت مقيدة إلى حد ما. لكن هناك قيادة لدولة استفادت بكل وضوح: القيادة الإيرانية. فالجمهورية الإسلامية تعارض وجود إسرائيل بوضوح وقوة، ولقد أشادت بهجوم حماس. في إعلان صادف هوى الرأي العام العربي، طالب خامنئي في 17 أكتوبر/تشرين الأول بإنهاء قصف غزة ووصف تصرفات إسرائيل بأنها “إبادة جماعية”. رغم أن الاستطلاع لا يشمل آراء المواطنين حول إيران نفسها، فلقد طرح سؤالاً حول السياسات الخارجية لخامنئي، ويبدو بوضوح أن شعبية هذه السياسات قد زادت في أوساط التونسيين. قبل الهجوم، كان 29 بالمئة فقط يستحسنون سياساته الخارجية. وبنهاية فترة العمل الميداني للاستطلاع، ارتفعت هذه النسبة إلى 41 بالمئة. بلغ هذا التحسّن في الشعبية أعلى معدلاته في الأيام التالية على كلمة خامنئي في 17 أكتوبر/تشرين الأول.
ثم هناك إسرائيل نفسها. قبل الهجوم، كانت آراء التونسيين حول إسرائيل سلبية بنسب كبيرة للغاية، حيث أبدى 5 بالمئة فقط من التونسيين آراء إيجابية نحو إسرائيل. نتيجة لهذا، فإن انحسار نسبة استحسان إسرائيل إلى الصفر لم يكن بالتراجع الكبير. لكن الآراء حول التطبيع تغيرت. لم يكن تطبيع العلاقات مع إسرائيل يحظى بالشعبية في أي وقت، لكن بعد الهجوم، تبخّر تماماً أي قدر من الاستحسان للتطبيع في أوساط المواطنين التونسيين. في 7 أكتوبر/تشرين الأول كان 12 بالمئة يدعمون التطبيع، وبحلول يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول تراجعت هذه النسبة إلى 1 بالمئة.
كذلك تغيرت الآراء حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني من عدة أوجه مهمة. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول رداً على السؤال عن السبل المفضلة لدى المواطنين لتسوية النزاع، قال 66 بالمئة من المواطنين التونسيين إنهم يفضلون حل الدولتين بناء على حدود 1967، في حين أعرب 18 بالمئة عن التفضيل لمسار دبلوماسي بديل، مثل حل الدولة، حيث تتوفر حقوق متساوية للجميع، أو حل الكونفدرالية. اختار 6 بالمئة فقط بند “حلول أخرى”، وكانت الغالبية العظمى ممن اختاروا “أخرى” تشير إلى المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، بما قد يشمل القضاء على دولة إسرائيل. لكن بنهاية فترة العمل الميداني، تبين أن 50 بالمئة فقط من التونسيين يدعمون حل الدولتين. ومن يفضلون حل الدولة الواحدة أو الكونفدرالية تراجعت نسبتهم بواقع 7 نقاط مئوية. أما أكبر نسبة زادت فهي نسبة “حلول أخرى”، التي زادت بواقع 30 نقطة مئوية إلى 36 بالمئة. هنا أيضاً كانت الأغلبية العظمى ممن اختاروا بند “أخرى” يشيرون إلى المقاومة المسلحة.
كسر الدائرة
تعد تونس بعيدة جغرافياً عن إسرائيل، وإقبال سكانها المتزايد على تحبيذ المقاومة المسلحة لا يُرجح أن يؤثر على الحرب بشكل مباشر. لكن إذا حدثت تغيرات مماثلة في آراء المواطنين عبر دول عربية أخرى، فقد يشتعل القتال على حدود إسرائيل أكثر. ومن المرجح أن الغضب تجاه إسرائيل قد تنامى في الدول القريبة جغرافياً من منطقة النزاع، وفي الدول المستضيفة للاجئين فلسطينيين، مثل الأردن ولبنان. إذن فاحتمالات تصاعد العنف هي احتمالات جادة وخطيرة. إن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على كل حال معرضة لمخاطر النزاعات الجارية أكثر من أية منطقة أخرى في العالم.
مع استمرار قصف غزة، فالاتجاه الوحيد المحتمل هنا هو تصاعد هذا الخطر. في حقيقة الأمر، حتى بعد انتهاء القتال، فربما تبقى المنطقة في حالة خطر تصاعد النزاع. هناك جيل جديد رأى أهوال الاحتلال على شاشات التلفزة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بما يشمل صور مأساوية لجثامين القتلى والمعاناة التي تعرضت لها العائلات، وهي مشاهد من الصعب نسيانها. هناك نسبة ممن شهدوا على الأحداث قد تختار تمويل الجماعات المسلحة التي تقاتل ضد وجود إسرائيل، أو قد ينضموا إليها أو يساعدوها بأشكال أخرى. ربما يفكر الساسة في إسرائيل أن هذه الحرب تجعلهم أكثر أمناً، لكن أمن إسرائيل لن يزيد بسبب النزاع.
الحقيقة الأبسط هنا هي أن القضية الفلسطينية ستبقى مهمة للغاية للعالم العربي، ولا يمكن لإسرائيل أن تأمل في الانتصار بالقنابل ببساطة. هذه القضية لم تفقد زخمها في أعين الجيل الجديد. رغم ما قد تفترضه الكثير من العواصم الغربية (والعربية)، فلن تتمكن إسرائيل من إبرام اتفاقات السلام مع جيرانها طالما ليس لدى الفلسطينيين دولة. في ظرف 20 يوماً فقط، تغيرت آراء التونسيين حول مختلف الأطراف في العالم بشكل قلما نشهده على مدار سنوات. لا توجد قضية في العالم العربي يتعاطف معها الناس بشكل شخصي وعاطفي بقدر هذه القضية.
إن الزخم الكبير المشهود حول هذه القضية مدهش للغاية خصوصاً على ضوء تحديات تونس الداخلية. فالدولة تعاني حالياً من تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسب أعلى قياساً إلى ما قبل ثورة 2010. على ذلك، لا يزال التونسيون يرغبون في علاقات اقتصادية أضعف مع الولايات المتحدة الأمريكية. طبقاً للبيانات التي جمعناها، بحلول 27 أكتوبر/تشرين الأول، تبين تفضيل التونسيين للاشتباك الدولي مع القضية الفلسطينية على تفضيلهم للاشتباك الدولي في التنمية الاقتصادية لصالحهم، بهامش كبير: نسبة 59 بالمئة دعماً للسعي الدولي لحل القضية الفلسطينية مقابل 4 بالمئة دعماً للمساعدة في التنمية الاقتصادية.
إذا كانت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية يبحثان بشكل حقيقي عن السلام مع العالم العربي – بدلاً من سلام بارد مع نظم قمعية تحكم أغلب دول المنطقة – فعليهما تغيير السياسات. عليهما البحث عن سبل لإنهاء الصراع الحالي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا يعني أن تعمل كل هذه الأطراف بكل حرص نحو تهيئة مستقبل عادل وكريم للشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي يعني إعلاء أولوية حل الدولتين. هذا هو السبيل الوحيد لتغيير قلوب وعقول الناس في الدول المجاورة وإنهاء دورة العنف التي تبتلي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدار القرن المنقضي.
المصدر :https://annabaa.org/arabic/views/37347