د. نضير الخزرجي
لو اجتمع عدد من الكتّاب والأدباء وطلبة الدراسات العليا في مسابقة للكتابة في حقل معين، وعرض على مجموعهم الكتابة في عنوان بعينه مثل: “أثر النشاط السياحي في تنمية الدخل القومي للمواطن”، فبالتأكيد فإن الجميع قادرون على الكتابة لما وهبهم الله من ملكة القلم إن طوعا بالنسبة للكاتب أصالة أو قسرا لمن يستوجب منه الكتابة مثل طلبة الدراسات العليا، فكل سيبدع فيما هو فيه، ولكن في نهاية الأمر وعند المقارنة فإن الأسلوب سيختلف من كاتب لآخر إن كان في المدخل أو المتن أو الخاتمة، ولو عرضت نتائج المسابقة على أديب فإنه ربما اختار ما كتبه الأديب لأنه ينسجم مع ذوقه، ولو عرضت على كاتب مؤلف اختار ما كتبه نظيره، ولو عرض على أستاذ جامعي لاختار ما كتبه طالب الدراسات العليا لانسجامه مع معايير الدراسة الجامعية الأكاديمية.
وعند النظر إلى جميع ما كتب من منظار الكتابة البحثية، فإن طالب الدراسات العليا سيكون مقدما على الجميع وربما فاق الأسماء الكبيرة في عالم الأدب والتأليف، ولسبب بسيط جدا، لأنه تفرد على الجميع أن كتب ضمن موازين الكتابة البحثية التي تستند إلى منهج معين ينسجم مع مفاد البحث يسير الكاتب على هداه في تناوله لموضوع البحث، شريطة الإستفادة من المنهج وقواعده، والعمل بأنواره للوصول إلى نتائج طيبة، وكلما كان الكاتب أو الطالب متبعًا للقواعد بصورة سليمة كان أقرب للصحة والقبول، فهو كمن يسير في سيارة إلى مقصد معين مهتديا بالمرشد الآلي الإلكتروني (Navigation) أو تُم تُم (TomTom).
فالمرشد الإلكتروني للطرق البرية أو البحرية أو الجوية أو الفضائية، آلة يستهدي بها مستخدمها مع ضمان الدقة في التعاطي معها، ومثلها آلة العلوم بجميع أصنافها وأبوابها، أو ما يُعبر عنها منذ القدم بـ (المنطق) بوصفه البوابة إن أدرك العالم أو المتعلم عظيم شأنه في فتح مغاليق العلوم وزواياها المظلمة، وقد تناوله كثيرون منذ أرسطو طاليس المتوفى سنة 322 قبل الميلاد وحتى يومنا هذا، ومن هؤلاء الشريف الجرجاني علي بن محمد الحسيني المتوفى سنة 1413م في كتابه “الكبرى في المنطق” الذي خطه باللغة الفارسية وكان محل التدريس في المحافل والحواضر العلمية حتى يومنا هذا، ومن تلك حاضرة كربلاء المقدسة حيث كان الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي يقوم بتدريسه منذ سنة 1963م حتى خروجه من العراق مرغما سنة 1971م، وكان يقوم بتدريسه باللغة العربية، وما كان قد حبّره على الورق منذ عقود من ترجمة وشرح، صدر مؤخرا في طبعتين منفصلتين حمل المعرَّب منه عنوان (المنطق الواضح.. الكبرى في المنطق)، وحمل الشرح عنوان (الراجح في المنطق الواضح.. ترجمة وشرح الكبرى في المنطق)، أعدّ الأول للطبع وقدّم له وعلّق عليه الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني، وقدّم للثاني الأديب العراقي أستاذ علم الفلسفة الدكتور إبراهيم العاتي.
وما نحن بصدده هو المعرَّب الصادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت سنة 1440هـ (2019م) في 116 صفحة من القطع المتوسط.
العقل والعقلانية
يقوم علم المنطق على قاعدتي التصور والتصديق، ويضم كتاب “المنطق الواضح” المعرّب أو “الكبرى في المنطق” على 39 فصلًا تقاسمها التصور والتصديق (23) لـ (16)، وزاد من أهمية الكتاب المقدمة المستفيضة التي كتبها الأديب الدهيني وفيها أبان معالم علم المنطق من تعريف وتاريخ ومنهج ومؤلفين إلى جانب الشروحات في الهامش، ليسهل على القارئ والدارس تناول الكتاب والخروج منه بحصيلة غنيّة، لاسيما وإن علم المنطق ليس علم تاريخ أو اقتصاد أو اجتماع وليس من فنون الأدب يرجع إليها القارئ أو الدارس عند الحاجة، وإنما هو منهاج تفكير وتفكر، مَن وقف على مداخلها ظفر بحسن النظر والعمل السليم، لأن العلم يخاطب العقل ويحاكيه، ومحاكات العقل أقرب إلى الصواب من مخاطبة المشاعر ومحاكاة الأحاسيس، كون العقل هو المائز بين الإنسان والحيوان، وفي التعامل البشري اليومي يتوجه الخطاب الى العقل، فالنائم معذور والمجنون مرفوع عنه القلم، لغياب الحضور الذهني في الأول وتعطيل آلة العقل في الثاني، والحيوانات غير مدركة لعالم الإنسان أو الإنسان غير قادر على التخاطب الذهني والعقلي مع الحيوانات، وما حصل مع خاصة الأنبياء مثل النبي سليمان وحديثه مع الهدهد والنمل وغيرهما فهو أمر رباني استثنائي، بل إن الأنبياء والمرسلين لهم من العقل والعقلانية ما ليس لعموم الناس ولهذا فإنهم مكلفون بمجاراة عقول العامة، وفي ذلك قال رسول الله (ص): (إنّا معاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قدر عقولهم).
فالأمور كلها خاضعة لعقل الإنسان وحجم الإستفادة منه، فبه يُكرم المرء أو يهان، وعليه المعول في الثواب والعقاب، وفي الحديث الشريف عن الإمام محمد الباقر (ع): (لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أحبّ إليَّ منك، ولا أكملك إلا فيمن أحب، أما إنِّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وإيّاك أُثيب)، وفي الحديث النبوي الشريف: (لا يعجبنكم إسلام المرء حتى تعلموا ما عقدة عقله)، ويضيف عليه الصلاة والسلام (ذا بلغكم عن رجل حسن حاله، فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازى بعقله).
وحتى يصل الإنسان المدارج العليا من سلّم العقلانية، فإن عددا غير قليل من العلماء في سالف الزمان وحاضره يعولون على فهم قواعد المنطق والعمل بها لضمان الحصول على عقلية نافذة وتفكير أسلم ونتيجة مضمونة سالمة.
آلة العلوم
يتابع الدهيني في تقديمه وتعليقه على ما عرّبه المحقق الكرباسي من منطق الشريف الحسيني الجرجاني، موضوعات على غاية من الأهمية، من قبيل: علاقة العقل بعلم المنطق، تعريفات علم المنطق عبر التاريخ، أقسام المنطق: الإستعمال العام والإستعمال الخاص للذهن، مناهج الإستدلال الرياضي والإستقراء والمنهج التاريخي والمنهج الجدلي، المراحل التاريخية، أسماء المنطق عبر التاريخ، أهمية المنطق والحاجة لدراسته، علاقة علم المنطق بالعلوم الأخرى، وأخيرا علم المنطق والإجتهاد.
ويعتبر الإجتهاد من المراتب العلمية العالية التي يصل إليها العالم، مع التأكيد بأن الإجتهاد مصطلح اشتهر بين علماء الدين والدراسات الشرعية والحوزوية، لأن الطالب في هذه المدارس عندما يصل مرحلة الإجتهاد يكون مؤهلا للإفتاء، وهي رتبة كبيرة وخطيرة في آن واحد، والإجتهاد عام وخاص، يكثر روّاده في الثاني ويقل في الأول، على أن الإجتهاد وإن اختص بالعلوم الدينية الشرعية فهو في نظري قابل للإمتداد إلى كل علم وفن، فطالب الدكتوراه المجاز في حقله هو مجتهد في البحث الذي أنجزه وهو محل للسؤال من آخرين كما هو الفقيه المجتهد محل للإستفتاء من آخرين، فالمختص في علم الإجتماع هو مجتهد، وكذا المختص في علم التاريخ، والمختص بعلم اللغة، والطبيب الأخصائي المتمرس.
ومثلما التوم توم آلة الكترونية يستدل بها الإنسان على العنوان الذي يبغيه، فإن المنطق لدى كثير من المختصين والباحثين هو بمثابة آلة لكل علم، ولهذا اشتهر تعريف علم المنطق بالقول: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر)، وأول ما ألّف فيه ووضع قواعده الفيلسوف أرسطوطاليس في كتاب الأورغانون (Organon) وهي تعني الآلة أو آلة العلوم، ومثله قال الشيخ ابن سينا المتوفى سنة 1037م عندما قسَّم العلوم في كتابه منطق المشرقيين الى: العلم الآلي، العلم الكلي، العلم الإلهي، العلم الطبيعي الأصلي، العلم الرياضي، والعلم العملي، واعتبر الأول هو المنطق بعينه، والعلم الآلي سبيل ومنهاج الى بقية العلوم يُحصِّن المتدرع به عن الوقوع في الزلل ما أمكنه ذلك، وإلا صار من زمرة المعصومين المصطفَين الأخيار.
فصول رقمية
لم يشأ المعرِّب وضع عنوان لكل فصل وإنما اكتفى بالترقيم، تبعًا للأصل الفارسي من جهة ولأن الفصول متداخلة مع بعضها، ولكنها بالعموم تناولت: الصورة الحاصلة في الذهن (القوة المدركة للإنسان) التي تتمحور حول التصور والتصديق، ونسبة الشيء إلى شيء سواء كان بالإيجاب أو السلب وهو ما يعبر عنه بالتصديق، حيث شبّه المناطقة الصورة الحاصلة بالآلة والمرآة لمشاهدة ذي الصورة، وعقل الإنسان يدرك العلاقة بين التصور والتصديق من خلال تصور المنسوب إليه أو المحكوم عليه وتصور المنسوب به أي المحكوم به وتصور نسبة البين بين أي النسبة الحكمية مثل قولنا “زيد قائم”، ومن التصديق قولنا: العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم متغير، فالعقل يحكم بذلك سراعا، وهذا ما يميز الإنسان عن غيره فهو قادر أن يحصل من المعلومات على مجهولات بإجراء بعض المعادلات الذهنية.
ويتابع الكتاب في الفصول اللاحقة بيان معنى الدلالة والوضع واللفظ وأنواعه: المختص والمشترك والمنقول والحقيقة والمجاز، واللفظ المفرد واللفظ المشترك والمفرد المركب، والمركب التام والناقص، والكليات الخمس: النوع والجنس والفصل والعرض الخاص والعرض العام، وماهية الشيء وحقيقته، والمعرَّف، والألفاظ المجازية والمشتركة.
ينتهي الكتاب في الفصل الثالث والعشرين من قاعدة التصور ليدخل في الفصل الرابع والعشرين حتى النهاية في قاعدة التصديق، متناولا القضية بوصفها حملية وشرطية متصلة وشرطية منفصلة، وما للقضية الحملية من موضوع ومحمول ونسبة حكمية أي الرابط مثل قولنا: “زيد هو قائم”، ثم يتناول الكتاب الحجة من قياس واستقراء وتمثيل، ففي القياس نستعمل قاعدة الهرم المقلوب من كلي إلى جزئي مثل قولنا: كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم، فالحيوان كلي يجمع العاقل وغير العاقل انتهى بنا القياس إلى معرفة حال الجزئي وهو الإنسان، وعكسه الإستقراء الذي نستعمل فيه قاعدة الهرم الطبيعي من جزئي إلى كلي مثل قولنا: الإنسان والبهيمة والطير يحرك فكه عند الأكل والمضغ وانتهى بنا الإستقراء إلى معرفة حال الكل من بيان الجزء، وأما التمثيل فهو مثل سكة القطار استدلال من حال جزئي على جزئي آخر مثل قولنا: النبيذ مسكر ولما كان الخمر مسكرا وهو حرام فالنبيذ حرام، على أن الإستقراء والتمثل كما في الفصل الثالث والثلاثين مفيد للظن والقياس مفيد لليقين، والعمدة في باب تحصيل التصديقات هو القياس وهو عبارة عن قولٍ مؤلّف من قضايا بحيث يلزم منها لذاتها قول آخر كما في قولنا السابق الذكر: العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث، وللقضايا أشكالها وأشراطها واشتراطاتها يوضحها مع الأمثلة الفصل التاسع والثلاثون وهو الأخير.
وبشكل عام، فإن الوقوف على قواعد علم المنطق ليس بالأمر العسير، والعبرة في الإلتزام بها والعمل بقواعدها، وإن كان بعض العلماء لا يرى ضرورة في تعلم المنطق بخاصة لطالب العلوم الدينية الذي يروم الإجتهاد والإفتاء، بيد أن العالم الذي لا يقول بضرورة تعلم المنطق ينتهي في قضية معينة إلى النتيجة نفسها التي ينتهي بها دارس علم المنطق، لأن المسألة عقلائية خاضعة لإعمال العقل، على أن الثاني ربما وصل إلى النتيجة أسرع من الأول، وهنا تبدو الحكمة في فهم قواعد المنطق.
وخلاصة الأمر كما يؤكد الفقيه الكرباسي: إن المنطق أمر وجداني يتعاطاه الإنسان من حيث يعلم أو لا يعلم، وهو من العلوم العقلية التي يتعاطاها أولو الألباب في حواراتهم واستدلالاتهم من دون تكلف، وهو جار في كل العلوم.
رابط المصدر: