- انتقلت إدارة ترمب، إزاء تنافسها التكنولوجي مع الصين، من المقاربة المرتكزة على حماية الأمن القومي إلى المعاملاتية التجارية، منتهجةً بذلك نفس نموذج الصين في تحويل القيود إلى أدوات نفوذ تكتيكية يمكن توظيفها كأوراق ضغط في أي مفاوضات.
- من الواضح أن تخفيض إدارة ترامب قيود تصدير الرقائق الفائقة إلى الصين يهدف إلى دفع السوق الصيني نحو “إدمان” التكنولوجيا الأمريكية وتعويق استراتيجية الصيني لتوطين صناعة الرقائق المتقدمة. ويبقى تراجع التصعيد التكنولوجي بين البلدين هشاً، ومن المحتمل أن تلجأ الصين إلى قيود المعادن إذا انهارت التفاهمات التجارية.
- تخلق السياسة الأمريكية الجددية تحديات بالنسبة لشركاء واشنطن الخليجيين، وتحديداً دولة الإمارات والسعودية، الطامحتين إلى القيام بدور كبير في النظام التكنولوجي العالمي، وفي الوقت نفسه تمنحهم فرصاً، أبرزها القدرة على التحوُّط، والتأثير على السياسات الأمريكية، والوصول إلى معاملات تفضيلية تُسرِّع خطط الانفتاح التكنولوجي.
أجاز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في 9 ديسمبر 2025، لشركة التكنولوجيا العملاقة “إنفيديا” بيع رقائق H200 المتطورة إلى الصين، بموجب اتفاق تسدد الشركات الأمريكية بموجبه 25% من عائدات المبيعات إلى الحكومة الأمريكية، في خطوة فُهمت بكونها تخفيفاً كبيراً لقيود التصدير التي تفرضها واشنطن على التكنولوجيا الصينية. وسبق للإدارة الأمريكية السماح بتصدير رقائق أقل تطوراً مقابل رسوم تصل إلى 15%. يعني ذلك أن القيود على الصادرات التكنولوجية إلى الصين لم تعد تتعلق حصراً بالأمن القومي، بل أصبحت أدوات للمساومة الاستراتيجية أيضاً. هذه الخطوة تثير تساؤلات استراتيجية جوهرية، أبرزها: ما أهداف الإدارة الأمريكية من ورائها؟ وما ضوابط التصدير التي تعتبرها الإدارة الأمريكية خطاً أحمر غير قابل للتفاوض، وما الذي يمكن استخدامه كورقة ضغط؟ وكيف تقارَن قوة النفوذ الاستراتيجي في مجال التكنولوجيا الفائقة بين الولايات المتحدة والصين؟ وكيف ينعكس ذلك على شركاء واشنطن في منطقة الخليج؟
مساومة تكتيكية
أعادت إدارة ترمب هيكلة استراتيجية الذكاء الاصطناعي والرقائق تجاه الصين بشكل شبه كامل مقارنةً بمقاربة إدارة بايدن. تتشكل أهم التحولات الكبيرة في الاستراتيجية الجديدة في مبدأين أساسيين: أولهما، الانتقال من التركيز على بناء نظام عالمي قائم على التكتلات السياسية والأيديولوجية إلى سياسة معاملاتية تعتمد على دور أكبر للحكومة الأمريكية في سلاسل التوريد والمساومة التجارية. وثانيهما، الانتقال من الحظر الشامل لتصدير الرقائق المتطورة إلى الإتاحة الانتقائية بناءً على المشاركة الربحية من قبل الدولة، وتجسَّد ذلك في النقاشات حول رغبة الحكومة الأمريكية في الاستحواذ على حصة في شركة “إنتل”.
في 13 مايو، ألغت إدارة ترمب “قاعدة انتشار الذكاء الاصطناعي” التي وضعتها إدارة بايدن قبل أيام من دخولها حيز التنفيذ. ولعبت الضغوط الكبيرة من قبل شركات الرقائق والذكاء الاصطناعي الأمريكية وحكومات حليفة لواشنطن، رأت في القاعدة إفراطاً تنظيمياً وصعوبات كبيرة في تنفيذها، دوراً كبيراً في قرار الإلغاء. وألغت الإدارة بالتبعية النظام الهرمي للدول المكون من ثلاث رتب وفقاً لدرجة حظر تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي وبرمجياتها ومعدات تصنيعها لها. ومثَّل ذلك تحولاً من سياسة الحظر الشامل تجاه الصين إلى منظومة “ضوابط معاملاتية” تُستخدم كأوراق ضغط تفاوضية ومساومات سياسية، وهو ما ساهم في الاتفاق المبدئيبين الرئيسَين دونالد ترمب وشي جينبينغ في كوريا الجنوبية في 29 أكتوبر على خفض التصعيد التجاري.
وتصاعد النقاش الداخلي، خلال يونيو وحتى أغسطس، حول إطار جديد يسمح بتصدير رقائق الذكاء الاصطناعي من الفئتين المتوسطة والعليا إلى الصين بموجب نظام إصدار تراخيص جديد. يسمح هذا النظام بمنح تراخيص للشركات الأمريكية للتصدير إلى الشركات الصينية “المعتمدة” مقابل حصول الحكومة الأمريكية على نسبة 15% من العوائد. ويُحوِّل هذا القرار ضوابط حقبة بايدن القائمة على الحظر واحتواء صعود الصين كقوة منافسة، بشكل عملي، إلى أداة شبه جمركية أو إيجار ترخيص سيادي كميزة للشركات الأمريكية. وتَعزز هذا المفهوم، في 9 ديسمبر، بعدما سمحت الإدارة لشركة “إنفيديا” بتصدير رقائق H200 المتقدمة إلى الصين، ضمن نظام “السماح الخاضع للضريبة” مقابل حصة تبلغ 25% من العوائد، مع استمرار القيود على الرقائق الأعلى مثل Blackwell.
أهم التداعيات للتحوُّل من مقاربة مرتكزة على الأمن القومي إلى المعاملاتية التجارية، هي تخلي واشنطن بشكل شبه كامل عن مبدأَي “الانفصال التكنولوجي” و”خفض المخاطر“. إضافة إلى ذلك، فإن النظام الأمريكي الجديد قد يشجع دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً شركة “إيه إس إم إل” الهولندية، إلى إعادة النظر في القيود المفروضة على تصدير آلات الطباعة والمعدات المتقدمة الأخرى لتصنيع الرقائق، إلى الصين.
وبشكل فعلي، يمكن القول إن إدارة ترمب طبقت نفس نموذج الصين في تحويل القيود إلى أدوات نفوذ تكتيكية يمكن تقديمها كتنازلات في أي مفاوضات مستقبلية. ويكمن الهدف الأهم وراء ذلك في زيادة اعتماد الشركات ومنظومة الذكاء الاصطناعي الصينية على الرقائق الأمريكية، عبر السماح بتصدير الرقائق المتقدمة والوسيطة، مع الإبقاء على الحظر القائم على تصدير معدات الطباعة. بمعنى أن واشنطن ترغب في إغراق الصين وجعْلها مدمنةً على التكنولوجيا الأمريكية، دون السماح للصين بتعلم كيفية تصنيعها.
إضافة إلى ذلك، أبْقت الإدارة الأمريكية على سياسة “التوطين لدى الأصدقاء” Friendshoring، وعلى البنية التحتية للتحالفات الأمريكية لاحتواء الصين تكنولوجياً. وأهم مكونات هذه المنظومة شراكة التنافسية والمرونة الأمريكية-اليابانية، ومجلس التجارة والتكنولوجيا الأمريكي-الأوروبي، إضافة إلى التعاون على مستوى الشركات ضمن الشراكة التجارية والصناعية الأمريكية-اليابانية. وأسست واشنطن مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان تحالفاً من أجل الرقائق لتنسيق ضوابط التصدير، وهو ما قد يصبح تحت ضغط بعد التغيرات في السياسة الأمريكية. لكن الضوابط الحاكمة للتحالفات الأمريكية تترك مساحة ضئيلة لحلفائها للمناورة. ينعكس ذلك في الشراكة التجارية والصناعية مع اليابان، والشراكة الاقتصادية والتكنولوجية الاستراتيجية مع كوريا الجنوبية، بما يُفضي إلى تشكيل دائرة تحكُّم ضيّقة ونفوذ أكبر لواشنطن.
إدمان التكنولوجيا الأمريكية
بات واضحاً أن الاستراتيجية الأمريكية تهدف إلى زيادة اعتماد الشركات الصينية على التكنولوجيا الأمريكية، وتشجيع عمالقة التكنولوجيا على تبني أولويات الحكومة الأمريكية. لكن ليس هذا فحسب، بل أيضاً تقويض النمو الصيني في منظومة الذكاء الاصطناعي والرقائق الوطنية. وعلى سبيل المثال، أدى قرار واشنطن السماح بإعادة تصدير رقائق “إنفيديا” H20 الأقل تطوراً والمخصصة للسوق الصيني، إلى تقويض الطلب على الرقائق المحلية، أخذاً في الاعتار قدرتها على المنافسة التجارية نتيجة سعرها المنخفض البالغ 13 ألف دولار للوحدة الواحدة، ضمن حرب أسعار مع المنافسين الصينيين وعلى رأسهم “هواوي”. واعتمدت “إنفيديا” في ذلك على ارتفاع كلفة انتقال الشركات إلى اعتماد الأنظمة المحلية، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى ثلاثة أضعاف كلفة الاعتماد على نظام “بنية الحوسبة الموحدة للأجهزة” (CUDA) الخاص بالشركة الأمريكية، وهو ما أبطأ وتيرة التوطين الحقيقي للرقائق في الصين.
وقد تبنَّت الصين استراتيجية متعددة الأوجه تستهدف تحصين السوق المحلي عبر تقليل الاعتماد على الرقائق الغربية، وتشجيع الابتكار الوطني، وتعزيز موقعها في سلاسل التوريد العالمية، وتسويق نموذج الحوكمة الصيني عالمياً.
أولاً، ضخت الصين استثمارات كبيرة لتعزيز صناعة الرقائق المحلية، بلغت بين عامي 2021 و2022 فقط نحو 290.8 مليار دولار. إلى جانب ذلك حظرت الصين في نوفمبر الماضي استخدام رقائق الذكاء الاصطناعي الأجنبية في مراكز البيانات الممولة حكومياً، في تسريع واضح لجهود إحلال بدائل محلية الصنع محل التكنولوجيا الأمريكية. ويبلغ سوق مراكز البيانات الحكومية في الصين حالياً نحو 100 مليار دولار. وبموجب القرار، سيكون على أي مشروع لم يكتمل بنسبة 30% إلغاء طلبات شراء الرقائق المستوردة أو إزالتها. وستتم مراجعة المشاريع المستقبلية كل حالة على حدة. وخفَّض الضغط الحكومي، المستمر قبل هذا القرار، مبيعات الشركات الأمريكية من الرقائق. وقال مدير “إنفيديا” جينسن هوانغ إن الحكومة “لا تريد إنفيديا في الصين”، وإن مبيعاتها في السوق “وصلت إلى الصفر”، وإنه لذلك في خضم نقاشات للسماح بتصدير رقائق Blackwell إلى الصين.
وطورت شركة هواوي رقائق Ascend 910C حتى يعادل أداؤها نحو 70% من أداء رقائق إنفيديا H100، لكنها لا تزال بعيدة عن الاقتراب من مضاهاة قدرات رقائق H200 التي تستطيع توفير قدرة حاسوبية قد تبلغ ضعف قدرة رقائق H100. وعند تدريب واستنتاج النماذج الكبيرة، يكون أداء H200 أعلى بست مرات تقريباً من أداء H20 المخصص سابقاً للسوق الصيني، وهو ما يسهم في سد فجوة الأداء بين H20 وBlackwell (أحدث وأعلى إصدارات إنفيديا) بالنسبة للصين.
ثانياً، انتهجت بيجين سياسة قائمة على تعويض أوجه القصور في الأجهزة والمعدات المتطورة من خلال التحوُّل التكنولوجي والابتكار. وبشكل رئيس يجري ذلك عبر ضغط أعداد كبيرة من المُعالجات لزيادة قدرة الرقائق الأقل تطوراً وطرحها بأسعار مخفضة مقارنةً بالمنتجات الأمريكية. وعلى سبيل المثال، يَستخدم مُعالج Ascend 910C تقنيةَ تغليف الرقائق الدقيقة التي تصنعها شركة SMIC الصينية بمعدل 7 نانومتر، ويحتوي على 53 مليار معالج.
ويجب الأخذ في الاعتبار هنا أنه على مدى العامين الماضيين، كان بإمكان غالبية شركات الذكاء الاصطناعي الصينية استخدام نسخة مخفضة من رقائق H200 أو رقائق مصنعة محلياً فقط. وفي الوقت نفسه، كانت الشركات المصنعة للنماذج الكبيرة تستخدم بالفعل مجموعات رقائق أصلية ومتطورة للتدريب على نطاق واسع. لذلك، عندما سمحت إدارة ترمب لإنفيديا بتصدير رقائق H200، لم يكن رد فعل السوق الصيني قوياً، لأن الشركات الصينية الكبرى كانت تستخدم بالفعل أحدث قدرات الحوسبة من خلال مزودي خدمات الحوسبة السحابية. ويتم ذلك عبر دينامية تسمح لشركة إنفيديا (والشركتين الأمريكيتين “إيه إم دي” و”إنتل”) بيع رقائق الذكاء الاصطناعي عالية الجودة حصرياً لعدد قليل من مزودي خدمات الحوسبة السحابية المعتمدين في الصين عبر قنوات خاصة، والذين يقومون بدورهم بتأجير خدماتهم السحابية، وهو ما يسمح لهم بالالتفاف على بند حظر “المبيعات المباشرة للشركات الصينية”. ولفكّ احتكار إنفيديا في مجال البرمجة والمنصات، جعلت هواوي برنامج CANN الخاص بها مفتوح المصدر، وهو ما لعب دوراً في تقويض برنامج CUDA نسبياً.
ثالثاً، وظَّفت الصين أدواتها التشريعية والتنظيمية المضادة. ففي مايو 2025، فعَّلت وزارة التجارة الصينية قانون مكافحة العقوبات الأجنبية لإدراج سبع شركات أمريكية على “قائمة الكيانات غير الموثوقة”، وهو ما مثَّل إجراءً مقوضاً لتطبيق ضوابط التصدير الأمريكية خارج حدودها.
رابعاً، وظّفت بيجين هيمنتها على سلاسل توريد المعادن النادرة والحرجة كأداة تفاوض أجبرت الولايات المتحدة على تقديم تنازلات خلال قمة الرئيسَين ترمب وشي في كوريا الجنوبية في سبتمبر الماضي. ففي أبريل وأكتوبر، فرضت الصين قيوداً على تصدير المعادن الحيوية والنادرة متوسطة وثقيلة الوزن، في استهداف مباشر للاستخدامات العسكرية والمدنية في الولايات المتحدة.
خامساً، زادت الحكومة الصينية مستوى دعمها من خلال تقديم حوافز مالية وضريبية لشركات التكنولوجية الصينية. ورفعت وزارة المالية أيضاً مستوى الخصم الإضافي لنفقات البحث والتطوير لشركات التكنولوجيا الصغيرة والمتوسطة إلى 200%، أي ضعف النسبة المطبقة على الشركات التقليدية، مما يخفض بشكل كبير العبءَ الضريبي المفروض عليها.
سادساً، تركز الصين على وضع المعايير التقنية لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت نفسه تعزيز التبادل والتعاون الدوليين، سعياً لتعميم نموذج الحوكمة الصينية عالمياً في المستقبل وتقويض نفوذ الولايات المتحدة. ففي سبتمبر 2024، أصدرت الحكومة الصينية “خطة بناء القدرات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي” كخطوة أولية للوصول لهذا الهدف.
وترفض الصين “الأحادية والحمائية“، و”إقامة أسوار عالية حول ساحة صغيرة” و”الحواجز التكنولوجية المفروضة اصطناعياً”، في إشارة إلى القيود على صادرات التكنولوجيا الأمريكية. وينعكس البُعد العالمي أيضاً في “خطة العمل العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي” الصينية التي صدرت بعد ثلاثة أيام من صدور “خطة الذكاء الاصطناعي” الأمريكية في يوليو 2025. وتُحدد الخطة الصينية الأمم المتحدة كساحة مركزية للحوكمة، وتربط القواعد بـ”سد الفجوة الرقمية” وبناء نظام “شامل وعادل”، في تباين مع استراتيجية الولايات المتحدة القائمة على نشر وزيادة اعتماد الدول الأخرى على التكنولوجيا الأمريكية.
التوقعات المستقبلية
يشير مشهد التنافس بين الصين والولايات المتحدة إلى مستقبل قائم على التشظي والتفكك والدفع الغربي نحو “إدمان” السوق الصيني للتكنولوجيا الأمريكية. وتملك الصين نفوذاً استراتيجياً على المكونين العلوي والوسيط من سلاسل التوريد، المتمثلين في تعدين واستخراج المعادن النادرة والحرجة وعملية المعالجة الضرورية لصناعة الرقائق. وفي المقابل، تهيمن الولايات المتحدة على عمليات هندسة الرقائق، وبرمجيات تصميم الدوائر الإلكترونية، ومعدات التصنيع، والرقائق المتطورة، والملكية الفكرية؛ وكلٌّ من هذه القدرات يرتبط بمجال لا تزال الصين تعتمد فيه على السوق الأمريكي. إضافة إلى ذلك، تعتمد واشنطن على قدراتها المالية وشبكات التحالفات الدبلوماسية التي تمكّنها من بناء التكتلات التكنولوجية الضاغطة على الصين، وتحاول الصين تقليل آثار ذلك من خلال تحويل سوقها الضخم وقدراتها الصناعية الهائلة إلى أدوات نفوذ.
في المدى القريب، يُتوقع توسيع شركات الرقائق والذكاء الاصطناعي الأمريكية عمليات “التأجير السحابي” في الصين كقناة خلفية تُمكِّنها من زيادة حصصها السوقية، بالتزامن مع ضغوط الحكومة الصينية على الشركات الحكومية لتجنب شراء الرقائق الأجنبية (ليس واضحاً بعد ما إذا كان القرار يشمل رقائق H200).
وفيما يتعلق بتصدير رقائق H200، قد تلجأ الحكومة الصينية إلى تخفيف القيود على الشركات المحلية الساعية لشرائها، ذلك أن بيجين قد تحقق عدة مكاسب، أهمها سد الفجوة في التكنولوجيا المتقدمة إلى حين تمكُّن الشركات الصينية من الوصول إلى تصنيع تقنيات مشابهة، ولا يُرجَّح أن يتحقق ذلك قبل نهاية عام 2027. وقد تستغل الصين الموافقة الأمريكية على التصدير للحفاظ على جسر ممتد مع واشنطن، وهو ما يسهم في استقرار العلاقات على المديين القريب والمتوسط. ويسهم الانفتاح الأمريكي المستجد أيضاً في تحسين العلاقات مع الدول الأخرى المعتمدة على التكنولوجيا الأمريكية.
وستعتمد سلاسل توريد الرقائق، في المدى القريب، على استقرار العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وصمود التفاهمات التجارية التي توصل إليها الزعيمان، والتي قد تحافظ على خفض التصعيد. لكنْ إذا حدث تغيرٌّ باتجاه انهيار الهدنة، فقد تلجأ الصين إلى عدة خياراتٍ، أهمها العودة إلى إبطاء إجراءات إصدار تراخيص المعادن الحرجة والنادرة، أو مطالبة الشركات الأجنبية بتقديم أدلة إضافية حول الاستخدام النهائي. ويمكن لبيجين أيضاً إضافة المزيد من المعادن على قائمة الصادرات التي تحتاج إلى تراخيص، أو تنتقل من فرض قيود على الصادرات إلى حظرها لبعض المعادن بشكل كامل. إضافة إلى تبني خيار آخر متمثل في التحوُّل من القيود العامة إلى القيود التي تستهدف قطاعات محددة في الولايات المتحدة، أبرزها الدفاع وصناعة السيارات وتكنولوجيا الطاقة النظيفة. لكنْ، إلى الآن، من غير المرجح لجوء بيجين إلى هذه الإجراءات، لتداعياتها السلبية المباشرة على مصالحها، كتقويض هوامش الربح ووصول شركاتها للأسواق الغربية، والتداعيات السلبية على علاقاتها بدول الجنوب العالمي والدول المحايدة التي قد تتضرر سلاسل توريدها من المعادن النادرة بشكل كبير.
وبرغم ذلك، ينبغي ألا يُؤخذ خفض التصعيد الحالي باعتباره حقيقةً طويلة المدة أيضاً، استناداً إلى التقلبات في السياسات التكنولوجية والتجارية الأمريكية مع تغيُّر الإدارات، والتقلبات في سياساتها تجاه حلفائها. ويخلق ذلك فرصاً ومخاطر على شركاء الولايات المتحدة، ويدفعهم إلى إعادة النظر في خياراتهم إزاء العلاقات التكنولوجية بالصين.
التحديات والفرص أمام دول الخليج
تُنتِج السياسة الأمريكية الجديدة تحديات أمام الدول الخليجية الساعية للتحوُّل إلى لاعب عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. أهم هذه التحديات:
أولاً، يظل سيناريو انهيار الهدنة التجارية الصينية-الأمريكية قائماً. وإذا أعادت الصين والولايات المتحدة تطبيق النظامين السابقين للقيود، فقد يعرقل ذلك وتيرة بناء البنية التحتية التكنولوجية ويقوض سلاسل التوريد التي تعتمد عليها دول المنطقة، إلى جانب إبطاء عملية توطين الصناعات المتقدمة.
ثانياً، إذا أثبت نظام “التأجير الجمركي” الجديد الذي تطبقه إدارة ترمب نجاحاً، فقد يُجرى تعميمه على الشركات الأجنبية، بما في ذلك الشركات الخليجية. أي أن تصبح الشركات الأجنبية خاضعة لقاعدة “الرسوم مقابل التراخيص” للرقائق والبرمجيات الأمريكية التي قد يُجرى تصديرها إلى أطراف ثالثة.
ثالثاً، تُمثل التقلبات في السياسات الأمريكية تحديات طويلة المدى أمام المخطط الإستراتيجي الخليجي نتيجة التعقيدات في النظم التشريعية والتنظيمية، وارتفاع مستوى الضبابية وعدم اليقين، خصوصاً في عملية توجيه الاستثمارات والشراكات، وكثرة الأطراف التي تملك نفوذاً على صناعة السياسات التكنولوجية في واشنطن.
لكن وسط هذه التحديات قد تنتج فرص يمكن لدول الخليج الاستفادة منها، من أبرزها:
- المزيد من المرونة الناتجة عن تخلِّي الإدارة الأمريكية عن قاعدة “انتشار الذكاء الاصطناعي” وبعض القيود الأخرى على الصادرات التي قد تفتح المجال أمام تعميق التعاون الخليجي مع الشركات الصينية، بما لا يتخطى مستوى التكنولوجيا المحظورة. بمعنى آخر، قد تشكل دول الخليج جسراً لتصدير الرقائق المتطورة، مثل H200، إلى شركات رقائق أو حوسبة سحابية صينية (وفي دول أخرى) مادامت الولايات المتحدة تسنح للشركات الأمريكية بتصديرها أيضاً.
- خلق مساحة مناورة سياسية تُمكِّن دول الخليج الراغبة من الانضمام إلى التكتلات الطامحة لتأمين التكنولوجيا والابتكار وجعل سلاسل التوريد أقل تركيزاً وأكثر مرونة، مثل تحالف “باكس سيليسا” حول الرقائق والذكاء الاصطناعي الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة في 12 ديسمبر.
- على المدى الطويل، قد تزيد التقلبات في السياسات والتحالفات الأمريكية من القيمة الاستراتيجية لمراكز البيانات وقدرات الحوسبة الخليجية باعتبارها بنية تحتية وسيطة، إذ إنها تقع في دول محايدة ومستقرة وتخدم عملاء عالميين، بما في ذلك الشركات الصينية، في ظل قيود الترخيص.
- رابعاً، زيادة نفوذ عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، ورؤساء هذه الشركات، يمثل فرصة في المساهمة في التأثير على السياسات الأمريكية في ظل شبكة العلاقات الشخصية العميقة التي بناها المسؤولون الحكوميون ورؤساء الصناديق السيادية ومديرو الشركات مع نظرائهم في الولايات المتحدة.
استنتاجات
انتقلت إدارة ترمب، إزاء تنافسها التكنولوجي مع الصين، من المقاربة المرتكزة على حماية الأمن القومي إلى المعاملاتية التجارية، منتهجةً بذلك نفس نموذج الصين في تحويل القيود إلى أدوات نفوذ تكتيكية يمكن توظيفها كأوراق ضغط في أي مفاوضات. وبرغم ذلك، فإن التقلبات في النهج الأمريكي سمح بإعادة الاستقرار النسبي للعلاقات الثنائية للمرة الأولى منذ فرض إدارة ترمب رسوم “يوم التحرير” في أبريل الماضي. يُنتج ذلك تحديات بالنسبة لشركاء واشنطن الخليجيين الطامحين للقيام بدور كبير في النظام التكنولوجي العالمي، لكنه يمنحهم فرصاً أيضاً، أبرزها القدرة على التحوُّط، والتأثير على السياسات الأمريكية، ومعاملات تفضيلية تُسرِّع من خطط الانفتاح التكنولوجي.