عقب اندلاع التوترات بين روسيا وأوكرانيا، وبعد قيام القوات الروسية بغزو الأراضي الأوكرانية، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بسرعة لمعاقبة روسيا بعد أن أمر الرئيس “فلاديمير بوتين” بإرسال قواته إلى أوكرانيا، وهي الخطوة التي وصفها الغرب بأنها ترقى إلى “بداية الغزو الروسي”. وفي هذا السياق، تعهدت الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها الغربيون بفرض عقوبات “قوية وخطيرة” على روسيا.
وشملت هذه العقوبات حظر السندات الروسية في عدد من البلدان الأوروبية، وتجميد أصول عدد من الأفراد والمسؤولين الروس، بينما أعلنت ألمانيا تعليق العمل بخط الغاز “نورد ستريم 2” وهو خط أنابيب غاز يمر عبر بحر البلطيق ويربط بين روسيا وألمانيا، ورغم أن هذا الخط شبه مكتمل لكن لم يتم بدء تشغيله بعد.
على صعيد أخر، طالبت بريطانيا بعزل روسيا من نظام “سويفت – SWIFT” للمدفوعات العالمية بين البنوك. وهو الأمر الذي طالبت به أوكرانيا أيضًا؛ ما دفع الولايات المتحدة الامريكية وبعض دول أوروبا إلى التلويح باستخدام هذا السلاح الاقتصادي؛ سعيًا إلى كبح جِماح الدب الروسي، وتخويفًا بفقد مليارات من الدولارات من عوائد تصدير الغاز والهيدروكربونات، القائم عليها اقتصاد “موسكو”.
والسؤال الآن هو ما إذا كانت هذه الإجراءات ستفعل أي شيء لإلحاق الضرر – أو ردع – الزعيم الروسي، الذي دفع أوروبا إلى حافة صراع جديد مدمر، هذا ما سنحاول التطرق إليه في السطور التالية؛ في محاولة الإجابة على السؤال الرئيسي الذي يتمثل حول: كيفية تعامل موسكو مع العقوبات الغربية؟
ماذا لو تم بالفعل إقصاء “موسكو” من هذا النظام المالي؟
في البداية سنتطرق لماهية نظام “سويفت – SWIFT”، هذا النظام هو اختصار لـ “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك”؛ والتي تُعد نظامًا لتبادل المعلومات المالية، ومقرها بلجيكا، وأسَّستها البنوك الرائدة في العالم عام 1973، لتصبح هذه الجمعية وسيطًا معنيًا باستبدال خدمة الرسائل الاّلية لكتابة وإرسال أوامر الدفع بين البنوك المختلفة في جميع انحاء العالم.
ويقوم الآن نظام “SWIFT” بربط أكثر من 11 ألف مؤسسة في أكثر من 200 دولة حول العالم. ولا يحتفظ نظام “SWIFT” بالأموال أو يقوم بتحويلها، وإنما يقوم فقط بإبلاغ البنوك بالمبادلات المالية الواردة إليها؛ حيث قام في العام الماضي 2021 فقط بنقل نحو 42 مليون رسالة يوميًا.
لكن وعلى الرغم من بعض الأصوات المُطالبة بتطبيق هذه العقوبة على روسيا ردًا على نشاطها الأخير في أوكرانيا، خرجت بعض الأصوات المترددة في اللجوء إلى عقوبة “SWIFT” لردع روسيا، ومنها “برلين”، التي قالت إنها خطوة صعبة فنيًا وستؤثر بشكل كبير على المعاملات التجارية بالنسبة لألمانيا والشركات الألمانية في روسيا، بجانب أن لدى إيطاليا وفرنسا تحفظات مُماثلة حول الشأن نفسه.
من جانبها صرِّحت مفوضية الخدمات المالية بالاتحاد الأوروبي بأن الاتحاد قد لا يُقرر عزل روسيا عن نظام “SWIFT” للمدفوعات العالمية بين البنوك، لكن الإجراء لم يُلغ كعقوبة محتملة ما زالت مطروحة على الطاولة. وفي الأخر قررت الدول الغربية مساء 26 فبراير عزل بعض البنوك الروسية من “سويفت”
وإقصاء موسكو من نظام “سويفت” يُعني وضع البنوك الروسية في عزلة دولية، إلا أنه لا يزال بإمكان النظام المصرفي الروسي تسيير أعماله على المستوى المحلي باستخدام النظام الروسي الداخلي بـ “الروبل” الروسية. ويُذكر أن سلاح “SWIFT” تم إشهاره في وجه روسيا من قبل عام 2014؛ عندما قامت روسيا بضم “شبه جزيرة القرم”، إلا أن “موسكو” حينها قدّرت أن التأثير لا يتعدى حاجز 5% من إجمالي الناتج المحلي الروسي.
تاريخ العقوبات الغربية
في عام 2014، وردًا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتورطها في الصراع في منطقة دونباس “شرق أوكرانيا”، عاقبت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والعديد من الحكومات الغربية العديد من السياسيين والشخصيات الإعلامية والقادة العسكريين والنُخب المقربة من الرئيس “فلاديمير بوتين” فضلًا عن الشركات المملوكة للدولة الروسية. وردًا على ذلك، فرض الكرملين عقوبات مضادة حظرت استيراد معظم الأطعمة الغربية إلى روسيا.
وعلى صعيد آخر، ترى بعض النخب الروسية أن العقوبات الغربية تجعل روسيا أقوى، ويعتقدون أن العقوبات تضر الغرب أكثر مما تُلحق الضرر بروسيا. على سبيل المثال، فقد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا والنرويج وكندا ما يصل إلى 8.6 مليار دولار سنويًا بسبب حرب العقوبات. وبحلول عام 2019، خسر الاتحاد الأوروبي وحده 240 مليار دولار من حرب العقوبات، أي ما يقرب من خمسة أضعاف خسارة روسيا.
أحيانًا تُجبر العقوبات روسيا على الاستثمار بكثافة في الإنتاج المحلي، كما تمنح العقوبات الغربية الكرملين فرصة لعزل نفسه عن الأسواق العالمية في المناطق الاقتصادية الهامة استراتيجيًا ورعاية المنتجين الروس. وكذا، أصبح استبدال الاستيراد من الخارج الهدف المعلن للنظام الروسي، ورغم عدم فاعلية هذه السياسة اقتصاديًا إلا أنها ضرورية لبقاء نظام الرئيس “بوتين”، حيث تسمح للنظام بإنشاء نخب اقتصادية تدين للكرملين بالفضل، ويعتمد ثراؤها على قرارات بوتين.
وعلى الصعيد الدولي، تقلل العقوبات في النهاية من اعتماد روسيا على الغرب. وتزيد العقوبات المضادة وسياسات إحلال الواردات من قبضة بوتين على السلطة. إذ يصبح المسؤولون والنخب الخاضعون للعقوبات أكثر ولاءً للنظام واعتمادً عليه. وهكذا، وبدلاً من الخوف من العقوبات، يرحب بها النظام الروسي. ويعتقد أن روسيا لديها القدرة الفكرية والصناعية على فصل نفسها عن الاعتماد على التكنولوجيا الغربية. فضلًا عن أن العقوبات الإضافية على واردات التكنولوجيا ستمنح الكرملين الحافز والفرصة للاستثمار المكثف في الإنتاج المحلي واتخاذ تدابير تحمي المنتجين الروس من المنافسة.
خطة روسيا للرد على العقوبات الغربية
تتعايش روسيا منذ زمن بعيد مع العقوبات الغربية، ويبدو أن الرئيس “بوتين” قد استعد جيدًا قبل قرار الغزو الروسي لأوكرانيا لما قد تقوم به الدول الغربية وواشنطن من عقوبات على موسكو، وبدا أن الرئيس “بوتين” قد تعلم الدرس جيدًا في 2014 عندما تحركت القوات الروسية في شبه جزيرة القرم، وضمت جزءًا من أوكرانيا، أثار ذلك فرض حِزمة من العقوبات الدولية. وهنا تعلمت موسكو الدرس جيدًا، ومنذ ذلك الحين، عملت على الاستعداد بشكل جيد لأي عقوبات قد يفرضها الغرب في المُستقبل، وسعت إلى لابتعاد عن الاعتماد على الدولار، ويراهن بوتين على أنه يستطيع تحمل العقوبات لفترة أطول مما يفترضه الغرب.
وفي ظل هذه الأزمة يبدو أن تأثير العقوبات الغربية والأمريكية سيكون ضئيلًا على موسكو، التي استعدت جيدًا لهذا الأمر من خلال عدد من الأمور من بينها:
الدعم الصيني لروسيا: في ظل الأزمة الراهنة بين أوكرانيا وروسيا، أكدت الصين الإبقاء على التجارة بصورة طبيعية مع كل من “موسكو” و “كييف”، رغم تشديد العقوبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وكذلك من قِبل اقتصادات آسيوية على غرار اليابان وتايوان.
جدير بالذكر أن العلاقات الثنائية بين “موسكو” و “بكين” تعززت بشكل أكبر عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، فقد اتفق الرئيسان “بوتين” و “شي جين بينغ” على مرحلة جديدة في الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما، ووقع البلدان اتفاقيات في عِدة مجالات، مثل: الطاقة والكهرباء والطيران والاتصالات السلكية واللاسلكية ومجالات أخرى.
وخلال الاجتماع الذي جمع الرئيسين الروسي والصيني في بداية شهر فبراير الجاري في “بكين”، على هامش افتتاح دورة الألعاب الشتوية، قال الرئيس الصيني، “يتعين على البلدين رفع حجم التجارة الثنائية لتصل إلى 250 مليار دولار بدلًا من 140 مليار دولار التي سجلتها خلال سنة 2021.
ووقع الزعيمان كذلك مجموعة صفقات لتدعيم الإمدادات الروسية إلى الصين من الغاز والنفط، بجانب القمح. ووقعت شركة “غازبروم”، ثاني صفقة غاز طويلة الأمد مع “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” لشحن 10 مليارات متر مكعب سنويًا على مدى 25 سنة عبر خط أنابيب حديث يمتد من منطقة الشرق الأقصى إلى روسيا. وتوصلت شركة “روسنفت” الروسية إلى اتفاقية لشحن 100 مليون طن من النفط الخام إلى “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” عبر كازاخستان خلال 10 أعوام.
الحد من الاعتماد على الدولار: تبذل روسيا جهودًا من أجل الحد من دور الدولار في اقتصادها وتجارتها منذ توقيع العقوبات عليها عقب ضمها لشبه جزيرة القرم، فيما تراجعت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا التي تبلغ 640 مليار دولار لتصل إلى 16% في سنة 2021، بدلاً من 46% في سنة 2017. وارتفعت حصة “اليوان” في الاحتياطيات الروسية إلى 13% بدلًا من نسبة بلغت أقل من 3%، بينما زادت حصة “اليورو” إلى نسبة 32% عوضًا عن 22%. الأمر الذي يُسهم قدر الإمكان في حماية روسيا من العقوبات الغربية.
زيادة الاحتياطيات الدولية الروسية: بحلول شهر يناير من هذا العام، بلغت الاحتياطيات الروسية الحكومية، من العملات الأجنبية والذهب مستويات قياسية، حيث زادت قيمتها عن 630 مليار دولار (464 مليار جنيه إسترليني). وتُعد رابع أعلى كمية من الاحتياطيات النقدية في العالم، ويمكن استخدمها للمساعدة في دعم العملة الروسية “الروبل” لبعض الوقت.
التغير في هيكل الاقتصاد الروسي: سعت روسيا منذ فترة وجيزة إلى إحداث تغييرات في هيكل اقتصادها؛ إذ قللت من اعتمادها على القروض والاستثمارات الأجنبية، وسعت بنشاط إلى الحصول على فرص تجارية جديدة بعيدًا عن الأسواق الغربية.
تعليق التعاون في مجال الفضاء: ردًا على العقوبات الغربية على موسكو؛ أعلنت وكالة الفضاء الروسية “روسكوسموس” تعليق التعاون مع أوروبا في عمليات الإطلاق الفضائية من قاعدة “كورو” الفضائية في “جويانا” الفرنسية، وتعمل على سحب فريقها الفني.
وعلى الرغم من إعلان الغرب أن هذه العقوبات التي قام بفرضها عقب التدخل الروسي في أوكرانيا ما هي إلا خطوة أولى من عِدة خطوات مُحتملة ضد روسيا. لكن يبدو أن روسيا قد استعدت جيدًا لتلك الخطوة مُبكرًا.
هل تصمد روسيا أمام العقوبات الغربية؟
حتى الآن لا تتسبب الإجراءات التي طبقها الغرب في مشاكل خطيرة للاقتصاد الروسي، ويبدو أن تأثير العقوبات مازال ضئيلًا، وهي وجهة نظر تفرضها حقيقة أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد امتنعوا عن استخدام تدابير أقوى بكثير في الوقت الحالي.
لكن عل الصعيد المُقابل، تتمتع روسيا بقدرة ومرونة كبيرة لتحمل العقوبات الأمريكية والغربية، فتنوع الاقتصاد الروسي وعدم تطلعه الكبير إلى الخارج قد يُسهم في التخفيف من حِدة العقوبات. ويبدو من الصعب أن تقوم روسيا بمراجعة سياستها الخارجية تحت تهديد القيود والعقوبات الغربية.
لكن قد يتعين على روسيا الاستعداد لأي خطوات قد يتخذها الغرب بشأن عزلها عن نظام “SWIFT”، الأمر الذي يُمكن وصفه بأنه “خيار نووي” في حزم العقوبات، والذي من شأنه حرمان روسيا من 40% من عائداتها من صادرات الطاقة، وستكون له تداعيات طويلة المدى. لكن سيكون من الصعب أن تتخلى أوروبا عن اعتمادها المفرط على الغاز الطبيعي الروسي، بالنظر إلى النقص العالمي المستمر. كما إن هذه القدرة تعتمد أيضًا على مدى قدرة الولايات المتحدة على استبدال صادرات الغاز الطبيعي الروسية.
في الأخير يُمكن القول إن العقوبات الغربية والأمريكية ستجلب معاناة اقتصادية لروسيا. لكن الأمل ضئيل في أن يتمكن الغرب وواشنطن من تغيير مسار الأحداث على أرض الواقع في أوكرانيا من خلال هذه العقوبات.
.
رابط المصدر: