كيف ستُعيد الطباعة الثلاثية الأبعاد تشكيل مستقبلنا؟

في عالم تعيد فيه التكنولوجيا رسم ملامح حياتنا بطرقٍ غير مسبوقة، تبرز الطباعة الثلاثية الأبعاد كأداة تتجاوز حدود الابتكار لتسائل مفاهيمنا الأساس حول الإنتاج والاستهلاك. هل يمكننا تخيّل مستقبلٍ حيث تصبح الأفكار مواد ملموسة بضغطة زر؟ وحيث تندمج حدود الخيال بالواقع في عملية إبداعية خالصة؟

الطباعة الثلاثية الأبعاد ليست مجرد تقنية تُضاف إلى أدوات العصر الحديث، بل انعكاس لفلسفة جديدة تقوم على تمكين الإنسان من إعادة تشكيل عالمه وفق رؤيته الخاصة، ودعوة الى إعادة النظر في العلاقة بين المبتكر والمادة، الحاجة والإنتاج، وبين الفكرة وتحقيقها.

في ضوء هذه الإمكانات الهائلة، يبقى السؤال الفلسفي الأعمق: كيف سيُعيد هذا التطور صياغة علاقتنا بالعالم؟ وهل يمكن أن تصبح الطباعة الثلاثية الأبعاد جسراً نحو مستقبلٍ أكثر إنسانية واستدامة، أم أنها ستفتح بابًا لتحديات أخلاقية واقتصادية غير مسبوقة؟

بدأت رحلة الطباعة الثلاثية الأبعاد في عام 1980 عندما تقدم هيديو كوداما بطلب للحصول على براءة اختراع لنظام يُستخدم في النماذج الأولية السريعة، يعتمد على تصلب البوليمرات – وهي سلاسل جزيئية مترابطة – تحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية.

ورغم أن هذه الفكرة لم تطبق تجاريا آنذاك، إلا أنها شكلت نقطة الانطلاق لتقنية حديثة. وفي عام 1983، ابتكر تشارلز هال جهاز الطباعة الحجرية المجسمة –وهي تقنية لتصليب مادة راتنجية سائلة حساسة للضوء وتحويلها إلى أشكال صلبة ثلاثية الأبعاد باستخدام الأشعة فوق البنفسجية- وحصل على براءة اختراعه في عام 1986، مما مكّنه من تأسيس شركة “ثري دي سيستمز”، التي ساهمت بشكل فعال في نشر التقنية تجارياً.

وفي عام 1987، قدم كارل ديكارد تقنية التلبيد الانتقائي بالليزر – استخدام الليزر لتصليب أو تلبيد مسحوق المواد مثل البلاستيك، المعادن، أو السيراميك وتحويله إلى جسم صلب ثلاثي الأبعاد، وذلك من خلال بناء الطبقات واحدة فوق الأخرى- وحصل على براءة اختراعها عام 1989.

بينما أسس سكوت كرامب تقنية نمذجة الترسيب المنصهر – استخدام خيوط بلاستيكية منصهرة يتم ترسيبها طبقة فوق طبقة لإنشاء مجسمات ثلاثية الأبعاد – ليؤسس بعدها شركة “ستراتاسيس”.

 

يمكن للطباعة الثلاثية الأبعاد أن تصبح جسراً نحو مستقبل أكثر إنسانية واستدامة من خلال تمكين البشرية من تحقيق تغييرات جذرية في الطريقة التي نصمم بها عالمنا

 

 

لم تتوقف الابتكارات عند هذا الحد، فقد طورت شركة “سيلينك” عام 2015 أحباراً بيولوجية لتمكين طباعة أنسجة بشرية، مما وسّع إمكانات الطباعة الثلاثية الأبعاد وفتح آفاقاً جديدة لاستخداماتها المستقبلية.

كيف تعمل؟

تعتمد الطباعة الثلاثية الأبعاد على تقنية التصنيع بالإضافة، حيث يتم بناء الأجسام تدريجياً طبقة تلو الأخرى باستخدام مواد متنوعة. تبدأ العملية بتصميم ثلاثي الأبعاد يتم إنشاؤه عبر برامج التصميم بمساعدة الحاسوب (CAD)، ومن ثم يُقسّم هذا التصميم طبقات رقيقة عبر برامج متخصصة.

 

شاترستوك شاترستوك

رجل أعمال على خلفية ضبابية يستخدم صورة ثلاثية الأبعاد 

بعد ذلك، تتولى الطابعة بناء الجسم طبقة تلو الأخرى باستخدام مواد مثل البلاستيك، المعادن، والمواد الحيوية، وفقاً لمتطلبات المنتج النهائي. وتتميز هذه التقنية بالدقة والمرونة العالية، مما يسمح بإنتاج تصاميم معقدة يصعب تحقيقها باستخدام الطرق التقليدية.

في مجال التصنيع، أحدثت الطباعة الثلاثية الأبعاد قفزة نوعية، حيث استطاعت شركات مثل “بوينغ” و”إيرباص” توظيف هذه التقنية لإنتاج مكونات متقدمة تتميز بخفة الوزن وانخفاض التكلفة، مما يساهم في تحسين أداء الطائرات وتقليل التكاليف التشغيلية.

ويشير العديد من الدراسات إلى أن الطباعة الثلاثية الأبعاد قد تخفض تكاليف الإنتاج بنسبة تصل إلى 70%. كما استفادت شركات السيارات، مثل “فورد” و”بي إم دبليو”، من هذه التقنية في تصنيع النماذج الأولية وقطع الغيار المخصصة، مما ساهم في تسريع عمليات التطوير وتقليل النفقات، حيث أصبح بإمكان المصممين اختبار وتجربة مكونات جديدة بسرعة أكبر وبكفاءة عالية.

ساهمت الطباعة الثلاثية الأبعاد في تسريع وتيرة تطوير المنتجات بشكل غير مسبوق، بحيث أصبح في إمكان الشركات إنتاج نماذج أولية خلال ساعات بدلاً من أسابيع. هذا التطور يتيح تحسين التصاميم واختبارها بسرعة، مما يقلل الوقت اللازم لوصول المنتج إلى السوق. وتوفر هذه السرعة ميزة تنافسية كبيرة، حيث تُمكن الشركات من التكيف بسرعة مع متغيرات السوق وتقديم منتجات أكثر تطوراً بمرونة واستجابة سريعة لمتطلبات العملاء.

مستقبل أكثر إنسانية

يمكن للطباعة الثلاثية الأبعاد أن تصبح جسراً نحو مستقبل أكثر إنسانية واستدامة من خلال تمكين البشرية من تحقيق تغييرات جذرية في الطريقة التي نصمم بها عالمنا ونعيش فيه، فهي تتيح تصنيع المنتجات محلياً وبتكلفة منخفضة.

وهذا يعني أن المجتمعات النائية أو الفقيرة يمكنها الوصول إلى أدوات، وأجزاء، وحتى مبانٍ، كانت في الماضي تتطلب استيرادها بتكاليف باهظة، فقط تخيل القدرة على طباعة أطراف صناعية مخصصة للأطفال في القرى النائية، أو توفير منازل بسيطة بسرعة للمشردين.

 

أحدثت التكنولوجيا الثلاثية الأبعاد نقلة نوعية في القطاع الصحي، وخصوصاً في مجالات الأطراف الاصطناعية والتخطيط الجراحي

 

ربيع نعيم، مؤسس شركة متخصصة في طباعة الأطراف الاصطناعية في الأردن

فقد أحدثت الطباعة الثلاثية الأبعاد نقلة نوعية في تصنيع الأطراف الصناعية المخصصة، حيث تتيح هذه التقنية إنتاج أطراف بتكلفة منخفضة وبدرجة تخصيص عالية تناسب احتياجات كل مريض على حدة. فمثلاً، يمكن للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة الحصول على أطراف صناعية قابلة للتعديل مع نموهم، مما يجعلها حلاً اقتصادياً وفعّالاً.

يشهد القطاع الطبي استفادة متزايدة من تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، مع توسع تطبيقاتها لتشمل مجالات متعددة. على سبيل المثل، بات في إمكان الجراحين استخدام نماذج تشريحية دقيقة مطبوعة ثلاثية الأبعاد تساعدهم في التخطيط الدقيق للعمليات الجراحية المعقدة، مما يقلل احتمالات الأخطاء ويزيد فرص نجاح العمليات، خاصة في جراحات القلب والأعصاب التي تتطلب دقة فائقة.

علاوة على ذلك، ساهمت الطباعة الثلاثية الأبعاد في تسهيل إنتاج الأنسجة والهياكل الخليوية لأغراض البحث العلمي، مما يمكّن العلماء من دراسة الأمراض واختبار العلاجات بطرق أسرع وأكثر أماناً. ويعتبر هذا المجال من الأبحاث الواعدة التي قد تفتح الباب لاكتشافات جديدة، مثل تطوير أنسجة جلدية أو عظمية للمرضى المحتاجين لإعادة بناء أجزاء من أجسادهم.

 

شاترستوك شاترستوك

طابعة ثلاثية الأبعاد ترفع كائنا مطبوعا ثلاثي الأبعاد باستخدام راتنج الأشعة فوق البنفسجية الشفاف 

لا تقتصر فوائد هذا التقدم على تحسين جودة حياة المرضى وتيسير سبل العلاج، بل تشمل أيضاً تقليل التكاليف الزمنية والمادية المرتبطة بالعلاج والتعافي، مما يجعل الرعاية الصحية أكثر كفاءة وسهولة في الوصول الى شرائح واسعة من المجتمع.

وعن تأثير هذه التقنية في القطاع الصحي، يقول الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة متخصصة في الأطراف الاصطناعية في الأردن ربيع نعيم في تصريح خاص لـ”المجلة”،إن التكنولوجيا الثلاثية الأبعاد أحدثت نقلة نوعية في القطاع الصحي، وخصوصاً في مجالات الأطراف الاصطناعية والتخطيط الجراحي. وأوضح نعيم أن النمذجة السريعة كانت أحد المجالات التي شهدت تحولاً جذرياً بفضل هذه التكنولوجيا.

في السابق، كانت عمليات تطوير النماذج الأولية تستغرق وقتاً طويلاً وتستهلك جهداً كبيراً وتكاليف مرتفعة، ولكن مع الطباعة الثلاثية الأبعاد، أصبح في الإمكان الوصول إلى نماذج أولية أكثر إبداعاً ودقة وسرعة، سواء في التخطيط الجراحي أو في تصميم تعويضات الوجه والفكين.

وأشار نعيم إلى أن الأطراف الاصطناعية الثلاثية الأبعاد تمثل إنجازاً بارزاً في القطاع الصحي، حيث يمكن للأختصاصيين استخدام تقنية المسح الثلاثي الأبعاد لالتقاط صور دقيقة للبتر الخاص بالمريض. تُستخدم هذه الصور لتصميم الأطراف الاصطناعية باستخدام برامج حاسوبية متخصصة، وأضاف أن هذه التكنولوجيا لا تتيح فقط تصميم الأطراف بدقة عالية، بل تُمكن من تصنيعها خلال ساعات معدودة، مما يجعلها حلاً مبتكراً وفعّالاً لتلبية احتياجات المرضى حتى في أماكن بعيدة أو ظروف معقدة.

 

الطباعة الثلاثية الأبعاد هي أداة، ويمكن استخدام الأداة بطرق عديدة سواءً بشكل بنّاء أو مدمر

 

البروفسور تيموثي غوتوفسكي أستاذ الهندسة الميكانيكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

والآن يستطيع الجراحون إجراء محاكاة دقيقة للعملية الجراحية باستخدام التصوير المقطعي والطباعة الثلاثية الأبعاد، إذ تتيح لهم هذه الأدوات تصميم حلول مخصصة لعلاج كسور الجمجمة والعظام بما يتناسب مع الحالة الصحية لكل مريض، مما يقلل احتمالات الخطأ ويعزز نجاح العمليات الجراحية.

واختتم الدكتور نعيم تصريحه بالتأكيد أن التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد لا تساهم فقط في تحسين جودة الرعاية الصحية، بل تمثل مستقبلاً واعداً لهذا القطاع، عبر توفير حلول شخصية وفعالة تقلل التكاليف وتساهم في رفع كفاءة العلاج للمرضى حول العالم.

الاستدامة والبناء الأخضر

تهدر تقنيات التصنيع التقليدي الكثير من المواد، لكن الطباعة الثلاثية الأبعاد تستخدم فقط الكمية اللازمة، مما يقلل النفايات. كما يمكن استخدام مواد معاد تدويرها أو مستدامة في عملية الطباعة، مما يجعل الإنتاج أكثر صداقة للبيئة.

في مجال البناء، قد تساهم الطباعة الثلاثية الأبعاد في تعزيز مفهوم البناء المستدام من خلال تقليل النفايات الإنشائية وزيادة كفاءة استخدام المواد. تتيح هذه التقنية إعادة تدوير مخلفات البناء ودمج مواد صديقة للبيئة ضمن عملية الطباعة، مما يساهم بشكل فعّال في تحقيق أهداف الاستدامة البيئية. من الأمثلة البارزة على ذلك، مشروع إنشاء المباني المطبوعة بالكامل بتقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد في مدينة دبي، الذي يُعد نموذجاً رائداً يجمع بين الابتكار والاستدامة، ويسلط الضوء على إمكانات هذه التقنية في تطوير قطاع البناء وتحقيق التوازن بين التقدم البيئي والتقني.

على جانب آخر، يرى بعض المتخصصين أن الطباعة الثلاثية الأبعاد كأداة، لا تضمن الاستدامة بشكل قاطع، حيث يعتمد تأثيرها على طريقة استخدامها ضمن منظومة أوسع من سلوكيات المجتمع واحتياجاته. ففي تصريح خاص لمجلة “المجلة”، يقول أستاذ الهندسة الميكانيكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا البروفسور تيموثي جي غوتوفسكي: “لن آخذ أي ادعاءات حول تأثير الطباعة الثلاثية الأبعاد على الاستدامة بجدية. خلاصة القول، الطباعة الثلاثية الأبعاد هي أداة، ويمكن استخدام الأداة بطرق عديدة سواءً بشكل بنّاء أو مدمر”.

 

شاترستوك شاترستوك

تكنولوجيات الحاضر قادرة على تغيير المستقبل 

بشكل عام، تعتبر الاستدامة خاصية للمجتمع وليس لتقنية معينة، على حد غوتوفسكي الذي يؤكد أن المشكلة الأساس هي أن شهية البشر تبدو بلا حدود، وقد صُممت الطباعة الثلاثية الأبعاد أساساً لتلبية تلك الشهية.

تعتبر الطباعة الثلاثية الأبعاد ثورة تقنية حقيقية في عالم التصنيع، إذ أثبتت قدرتها على إحداث تغيير جذري في العديد من الصناعات، بدءاً من الطيران وصولاً إلى الطب والبناء. ومع استمرار التطور التكنولوجي وتجاوز التحديات الحالية، يُتوقع أن تصبح هذه التقنية ركيزة أساسية في مستقبل التصنيع والإنتاج.

لكن الاعتماد المتزايد على الطباعة الثلاثية الأبعاد يثير مخاوف في شأن مستقبل العمالة، حيث يمكن للأتمتة أن تؤدي إلى فقدان عدد كبير من الوظائف التقليدية، خاصة في قطاعات التصنيع والبناء. كما أن العمالة غير الماهرة ستجد صعوبة في التكيف مع الطلب الجديد على المهارات التقنية المتقدمة.

من جانب آخر، قد تؤدي هذه التقنية إلى تركيز الثروة والسلطة الاقتصادية في أيدي الشركات الكبرى أو الأفراد الذين يمتلكون التكنولوجيا والمواد الخام، مما يعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

كما أن استخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد على نطاق واسع يمكن أن يُحدث اضطرابًا في سلاسل التوريد العالمية. فبفضل القدرة على التصنيع المحلي، قد تقل الحاجة إلى الاستيراد والتصدير، مما يؤثر سلبًا على الدول التي تعتمد على التجارة الدولية في اقتصاداتها.

بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من تراجع أسعار الطابعات نفسها، لا تزال المواد المستخدمة في الطباعة، مثل الراتنجات والمعادن المتقدمة، مرتفعة التكلفة، مما يحد من استفادة الجميع من هذه التكنولوجيا بالتساوي.

وتشكل التحديات الراهنة عقبات مؤقتة أمام النمو المتسارع لهذه التقنية، التي ستصبح بلا شك جزءاً لا يتجزأ من الابتكار البشري في العقود المقبلة، فاتحةً المجال أمام إمكانات جديدة لا تزال في طور الاستكشاف، ومن المؤكد أن تأثيرها سيستمر في تشكيل مستقبل الصناعة بطرق غير مسبوقة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M