تاريخ هذا النوع من التطور فوضوي. فليس من السهل دائما بالنسبة للمتطرفين أن يعيدوا تشكيل أنفسهم، ولكن من الممكن أيضا في بعض الأحيان أن يتغيروا بالقدر الكافي. وعلى نحو منفصل، في حين أن تركيا ربما أشعلت شرارة هجمات “هيئة تحرير الشام”، فإن سرعة انهيار الأسد ربما لم تكن متوقعة…
إن التقدم المفاجئ الذي أحرزته المعارضة السورية المسلحة في غضون 10 أيام هو النتيجة غير المقصودة لصراعين آخرين، أحدهما قريب والآخر بعيد. وهو ما يترك العديد من حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين مع قوة جديدة وغير معروفة إلى حد كبير يقودها الإسلاميون، الذين أطلقوا هجومهم ضد النظام في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
لقد شهدت سوريا الكثير من الأحداث العاصفة على مدى السنوات الماضية. فمنذ غزو العراق، سعت الولايات المتحدة إلى إيجاد سياسة خاصة بسوريا قادرة على تلبية الاحتياجات المختلفة إلى حد كبير لحلفائها إسرائيل والأردن وتركيا، وشركائها أحيانًا العراق ولبنان.
كانت سوريا دائما بمثابة منطقة محورية في الشرق الوسط: فهي تربط نفط العراق بالبحر الأبيض المتوسط، والشيعة في العراق وإيران بلبنان، والجزء الجنوبي من حلف شمال الأطلسي في تركيا بصحاري الأردن. وقد وضعها جورج دبليو بوش في محور الشر؛ ولم يكن باراك أوباما راغبًا في المساس بها كثيرًا خشية أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التفكك؛ أما دونالد ترامب فقد قصفها مرة واحدة، وبسرعة كبيرة.
كانت سوريا في قبضة دكتاتورية وحشية مروعة لعقود من الزمن. حماة وحمص ودمشق كلها عادت إلى عناوين الأخبار بين عشية وضحاها بسبب سيطرة فصائل المعارضة عليها والسقوط السريع لنظام بشار الأسد، ولكنها كانت موطنًا أيضًا لأفظع أجزاء من تاريخ سوريا. على التوالي، مذبحة عام 1982 التي راح ضحيتها 20 ألف شخص في حماة، أو حصار حمص ثم تجويعها عام 2012، أو استخدام غاز السارين في الغوطة بالقرب من دمشق ضد الأطفال في الأقبية عام 2013. ثم كان هناك تنظيم “داعش” من عام 2014 إلى عام 2017.
بدا الأمر وكأنه لم يعد هناك ما يمكن أن تتعرض له سوريا أكثر من ذلك تحت سلطة نظام دكتاتوري، إلى أن جلبت لها الأيام العشرة الماضية التحرير، حتى الآن بتكلفة غير معروفة، مع تحذيرات واسعة النطاق.
الواقع أن المصير المتغير بسرعة لنظام بشار الأسد لم يُصنع في سوريا حقًا، بل في جنوب بيروت ودونيتسك. وفي غياب دعم القوات الجوية الروسية وحزب الله، سقط الأسد أخيرًا عندما دفعته المعارضة.
المواجهات بين إسرائيل وحزب الله على مدار أكثر من عام والتي تصاعدت إلى حرب مشتعلة على مدار شهرين لم تكن تهتم كثيرًا بمصير الأسد على الأرجح. ولكن ربما كانت هي من حددته. وعلى نحو مماثل، ربما لم يأخذ الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل 34 شهرًا، في الحسبان عدد الطائرات أو القوات القليلة التي قد تتركها روسيا لدعم حلفائها في الشرق الأوسط. ولكن حرب الاستنزاف جعلت روسيا “غير قادرة” على مساعدة الأسد، حتى أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب أشار إلى ذلك، السبت. والواقع أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدا ضعيفًا، حين قال: “ما هي التوقعات؟ لا أستطيع التخمين. نحن لسنا في مجال التخمين”. وهذه ليست كلمات حليف ثابت وقادر، بل هي كلمات قوة ترى أوراقها تتساقط.
أما إيران فقد أصبحت عاجزة تماما خلال الأشهر الستة الماضية، حيث تطورت مواجهتها مع إسرائيل، والتي عادة ما تكون في الخفاء أو يمكن إنكارها، إلى هجمات صاروخية بعيدة المدى عالية المخاطر. كما أصيب ذراعها الرئيسي، حزب الله، بالشلل بسبب هجوم على التسلسل الهرمي لقادته، وأسابيع من الضربات الجوية الشرسة على عناصره. ولم تفعل تعهدات طهران بالدعم الكثير حتى الآن ولكنها أسفرت عن بيان مشترك مع سوريا والعراق حول “الحاجة إلى عمل جماعي لمواجهة” المتمردين.
يبدو أن الشرق الأوسط يتغير الآن بعد الأفكار التي كانت تعتبر من المسلمات ــ مثل القوة الإيرانية الشاملة، والصلابة الروسية كحليف ــ وهي نظريات تنهار مع مواجهتها لحقائق الجديدة. فقد ساد الأسد وسط دولة غارقة في الدماء، ليس من خلال المكر أو الشجاعة، بل لأن إيران قتلت من أجله، وموسكو قصفت من أجله. وبعد أن أصبح هذان الحليفان منهكين إلى حد كبير في أماكن أخرى، اختفى الدعم الذي أبقى الأسد وأقليته العلوية الحاكمة على رأس السلطة.
عندما تبدو القوى الإقليمية الراسخة عاجزة فجأة عن التصرف، فغالبًا ما تكون هناك لحظة محفوفة بالمخاطر. ولكن هذه اللحظة هي التي استغلتها تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي تعاملت مع أكبر قدر من التداعيات الناجمة عن الاضطرابات في سوريا.
لقد اضطرت أنقرة إلى ممارسة لعبة طويلة الأمد بشأن سوريا، واستقبلت أكثر من 3 ملايين لاجئ منذ عام 2012. وكان عليها أن ترى المسلحين الأكراد -قوات سوريا الديمقراطية التي دربتها الولايات المتحدة وجهزتها وساعدتها في محاربة داعش- يطورون معقلًا على طول حدودها. ومن منظور أنقرة، لم تختف مشكلة سوريا أبدًا على الرغم من تلاشي الاهتمام بها؛ وسوف تحتاج ذات يوم إلى تغيير الفوضى الدائمة لصالحها.
إن الهجوم الشامل الذي شنته “هيئة تحرير الشام” ــ بزخمها ومعداتها واستراتيجيتها الشاملة، وبتعهداتها للجماعات العرقية المختلفة والمذعورة في سوريا عن أن مجتمعها الجديد سوف ينظر إليهم جميعا بلا تفرقة ــ يكشف عن يد متطورة وراء ذلك الهجوم.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صرح الجمعة الماضية بأنه حاول التفاوض على مستقبل سوريا مع الأسد، وفشل، وتمنى نجاح هجوم فصائل المعارضة المسلحة، حتى العاصمة السورية دمشق. لم تكن هذه رسالة خفية. لكنها لا تحتاج إلى أن تكون كذلك في وقت التغيير المزلزل الذي ربما انتظره أردوغان طويلًا.
ولكن من غير الواضح على وجه التحديد من الذي مكنته تركيا من ذلك؟ باختصار، بدأت المستويات العليا من “هيئة تحرير الشام” في تنظيم القاعدة، ووجدت أن تنظيم “داعش” متطرف للغاية، وهي تحاول الآن الإيحاء بأنها نضجت. ومن أيرلندا إلى أفغانستان، فإن تاريخ هذا النوع من التطور فوضوي. فليس من السهل دائما بالنسبة للمتطرفين أن يعيدوا تشكيل أنفسهم، ولكن من الممكن أيضا في بعض الأحيان أن يتغيروا بالقدر الكافي. وعلى نحو منفصل، في حين أن تركيا ربما أشعلت شرارة هجمات “هيئة تحرير الشام”، فإن سرعة انهيار الأسد ربما لم تكن متوقعة.
لقد ترك التأثير غير المعروف للتغيير السريع الهائل سوريا غارقة في سياسات غير مدروسة، وتقاعس الولايات المتحدة من قبل كان له دوره. في عام 2013، قال الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما إنه سيرد عسكريا إذا استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية، لكنه لم يفرض هذا “الخط الأحمر” عندما نشر الأسد غاز السارين في الغوطة في عام 2013. برر مسؤولوه جزئيا تراجعه بالقول إن المزيد من الضرر لنظام الأسد الضعيف بالفعل قد يسمح للمتمردين الجهاديين بشكل متزايد بالتقدم بسرعة كبيرة، وقد يسيطرون على دمشق في غضون أشهر. من الممكن أنهم كانوا على حق في ذلك الوقت؛ ولكن من المرجح أن فشل أوباما في التصرف شجع روسيا وإيران لسنوات.
لا نعرف الكثير عما يحدث الآن في سوريا أو ما يعنيه ذلك. قد تثبت “هيئة تحرير الشام” أنها حاكم أفضل للخليط العرقي السوري مقارنة بالأسد، وهو ما لن يكون صعبًا. قد يختفي الأسد في المنفى في صف من المنازل الريفية الفخمة في موسكو، مع انهيار استبداده. قد تلعق روسيا جراحها الجيوسياسية وتركز على النزيف الكارثي المتمثل في غزوها لأوكرانيا. قد تتوقف إيران للتفكير، وتستعد بدلًا من ذلك لتسونامي العدوان المحتمل الذي قد يأتي مع البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب.
لقد كان أوباما يتحدث أمام جمهور غربي منهك من العراق وأفغانستان، ومنشغل بالإرهاب. وكان ذلك بمثابة شكل من أشكال الانعزالية التي أنهكتها الحرب، حيث كانت الولايات المتحدة المجهدة مترددة في التحريض على المزيد من التغيير الذي لم يعد بوسعها السيطرة عليه. وانتهى الأمر بأوباما إلى تمويل وتسليح المعارضة السورية بشكل ضعيف للغاية حتى تعرضت للذبح ــ وعندما انضم متطرفو المعارضة السورية إلى المتطرفين من التمرد العراقي الطويل الأمد ضد الاحتلال الأمريكي ــ تحولوا إلى تكوين تنظيم “داعش”. وكانت هذه أسوأ نتيجة ممكنة تقريبا. فقد لعب الغرب أوراقه بشكل ضعيف للغاية، فحصل على رعب الحرب التي استمرت 4 سنوات ضد خلافة تنظيم “داعش”.
قد يثبت ما حدث أن هذا التغيير السريع والصارم كانت سوريا في احتياج إليه لتحقيق الاستقرار. لقد كانت الأعوام الـ13 الماضية في سوريا وحشية جدًا وتستحق الاستقرار الآن. ولكنها أثبتت أيضًا مدى صعوبة تحقيق السلام، ومدى عمق المعاناة التي قد تخلفها.