توصّل رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلَّف، بنيامين نتنياهو، في الأول من شهر ديسمبر الجاري إلى اتفاق مع حزب “الصهيونية الدينية” اليميني للانضمام إلى ائتلاف حكومي يضم عددًا محدودًا آخر من التكتلات اليمينية في إسرائيل مثل “يهدوت هتوراة”؛ وذلك من أجل تشكيل حكومة ائتلافية جديدة بعد فوز اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو بـ 62 مقعدًا في الكنيست من بين 120.
لقيت هذه التطورات صدى في العاصمة الإيرانية طهران، حيث ذهبت المنافذ الإعلامية الموالية لرجال الدين هناك إلى وصف هذه الحكومة بـ “اليمينية المتطرفة” وبعضها الآخر قد وصفها بـ “الأكثر تطرفًا” مقارنة بالحكومات الإسرائيلية السابقة.
وتجيء حكومة نتنياهو، المتوقع الانتهاء من تشكيلها في غضون أيام، في ظل تنامي التوترات مع إيران بشكل أكبر مما كانت عليه خلال الحكومات السابقة، باستثناء السنوات الأخيرة في عهد حكومة نتنياهو السالفة (2009-2021). حيث تصاعدت الأزمات بين إيران وإسرائيل مؤخرًا؛ مع تعثر المفاوضات النووية الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، ومواصلة إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم في الوقت نفسه وبنسب عالية وصلت إلى 60%، وتعزيز الطرفين أيضًا للحرب الاستخباراتية بينهما سواء على أرض الواقع أو في الفضاء الإلكتروني.
وقد ألقت هذه التحولات المتفاقمة المُشار إليها بظلالها أيضًا على تحركات الطرفين إقليميًا، إلى جانب وجود صدامات متواترة ومتزامنة بينهما في الإقليم، بعضها مباشر والآخر غير مباشر داخل سوريا والأراضي اللبنانية.
وفي ضوء ذلك، يطرح إعلانُ تحالف نتنياهو مع الأحزاب اليمينية في إسرائيل، ومن بينها حزب “الصهيونية الدينية”، تساؤلًا بشأن مستقبل الصراع الإيراني الإسرائيلي، مع اكتمال تشكيل حكومة رئيس الوزراء المكلَّف بنيامين نتنياهو خلال أيام.
الملف النووي وأنشطة تخصيب اليورانيوم في إيران
لا شك أن نتنياهو دائمًا ما يصف إيران بالتهديد الوجودي، ويعدها شغله الشاغل خارجيًا. ولعل أبرز ما يشغل نتنياهو عند الحديث بشأن إيران هو برنامجها النووي وأنشطة تخصيب اليورانيوم التي تجري هناك، وهو ما دفع حكومة نتنياهو السابقة إلى القيام بعملية استخباراتية معقدة للغاية عام 2018 للحصول على الآلاف من الوثائق المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، وذلك في قرية “تورقوزآباد” بضواحي العاصمة طهران.
ولم تُبرز أية حكومة إسرائيلية اهتمامًا بالمشروع النووي الإيراني مثل حكومات نتنياهو. لذا، فإنه من المتوقع أن يعود البرنامج النووي الإيراني إلى صدارة المشهد في إسرائيل خلال حكومة بنيامين نتنياهو المرتقبة. وعند تناول مستقبل التعاطي الإسرائيلي مع ذلك البرنامج، سيقودنا الحديثُ إلى سيناريوهين اثنين:
السيناريو الأول: توصل إيران إلى اتفاق نووي مع القوى الكبرى
على الرغم من الخلافات المتنامية بين إيران والدول الغربية خلال الأشهر الماضية وتوقف المحادثات النووية منذ أغسطس 2022، فإنه يُحتمل التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والقوى الكبرى خلال الأشهر المقبلة؛ ذلك لأن تداعيات عدم إبرام مثل هذا الاتفاق ستكون وخيمة على إيران، وهو ما ستحاول حكومة ذلك البلد تجنبه.
وإذا كانت إسرائيل ونتنياهو شخصيًا من معارضي التوصل إلى اتفاق نووي بين طهران والقوى الكبرى، إلا أن اتفاقًا يضمن عدم توصل إيران إلى سلاح نووي في المدى المنظور وإبطاء أنشطتها النووية سيكون خيارًا غير سيئ لإسرائيل. ومع ذلك، فإن مواصلة إيران عمليات تخصيب اليورانيوم بعد التوصل إلى اتفاق نووي في المستقبل وبموجبه أيضًا على غرار اتفاق 2015 الذي أقر لطهران بمستوى تخصيب 3.67% لن يعني ارتكان إسرائيل إليه أو حذف الملف النووي من قائمة الاهتمامات الإسرائيلية في عهد نتنياهو؛ فالأخير يشكك بشكل متواصل، سواء في ظل اتفاق نووي أو في عدمه، في إمكانية إيقاف إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم غير المصرح بها، وهو ما سيُبقي هذه الأنشطة النووية في دائرة ضوء حكومة نتنياهو القادمة.
أي أن اتفاقًا نوويًا لن يُزيل مخاوف حكومة نتنياهو اليمينية بشأن إمكانية توصل إيران إلى سلاح نووي، ما سيدفعها إلى تشديد الرقابة “الاستخباراتية” على البرنامج النووي الإيراني سواء في أرض الميدان داخل إيران أو عن طريق الفضاء الإلكتروني من حيث شن هجمات سيبرانية توقف أية أنشطة “تزيد من قلق إسرائيل”. ولعل تكرار عملية مماثلة لعملية إسرائيل عام 2018 داخل إيران لا يبدو أمرًا مستحيلًا.
السيناريو الثاني: عدم التوصل إلى اتفاق نووي
ينبثق عن هذا السيناريو في الواقع سيناريوهان فرعيان محتملان، هما إطالة فترة التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والقوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أو عدم التوصل نهائيًا إلى اتفاق نووي.
أما السيناريو الأول الفرعي (إطالة فترة التوصل إلى اتفاق نووي)، فإنه سيعني على الأغلب تشديد الرقابة الإسرائيلية على المشروع النووي الإيراني، إلى جانب محاولة تعطيله بشكل جدي لحين التوصل إلى اتفاق نووي، وذلك بشكل لا تتمكن معه إيران من تطوير هذا البرنامج أو إيصاله إلى نقطة اللا عودة، خاصة في ظل تخصيبها لكميات كبيرة من اليورانيوم بنسبة 60%.
ولا يُستبعَد تحت مظلة هذا السيناريو أن تقوم إسرائيل بشن هجمات محدودة غير مباشرة ضد مواقع نووية في إيران، خاصة في ظل العثور قبل أشهر على آثار مواد نووية مشعة في ثلاثة مواقع غير معلن عنها من قِبل طهران للمفتشين الدوليين. وقد يجري ذلك عن طريق الفضاء السيبراني أيضًا بالفيروسات المعنية، أو من خلال إشعال حرائق في مواقع بعينها تحذف كثيرًا من القدرات النووية التي تم التوصل إليها، ولكن من دون إحداث تسربات إشعاعية لن تكون إسرائيل بمنأى عن أضرارها.
وعلى الرغم من أنه يُعد الأقل احتمالًا، إلا أن السيناريو الثاني (عدم التوصل نهائيًا إلى اتفاق نووي) سيقود، تحت أكثر التوقعات تفاؤلًا، إلى هجمات مباشرة تستهدف مواقع نووية بعينها في إيران تؤدي على الأقل إلى عودته إلى حالته التي كان عليها قبل عقدين من الزمان. هذا إن لم تقضِ عليه بشكل كامل.
وإذا أصبح هذا هو الحل لمواجهة الأنشطة النووية الإيرانية، فإن عمليات كهذه لا يُتوقع أن تقوم بها إسرائيل وحدها، بل بالتنسيق مع حلفاء بارزين على رأسهم الولايات المتحدة وبترتيبات وتحضيرات مسبقة. ولا يُستبعد كذلك مشاركة دول أوروبية في هذه الهجمات مدفوعة بمخاطر هذه الأنشطة النووية عليها من جانب وانخراط إيران في الحرب الروسية الأوكرانية من جانب آخر، علاوة على ما يعنيه وصول الطائرات المسيرة الإيرانية في الآونة الأخيرة إلى سماء أوروبا من تهديدات متفاقمة للقارة الخضراء. لذا، فإنه وإن لم ترجح أوروبا الدخول في عمل عسكري ضد إيران خلال العقود الماضية، فإن ذلك الموقف قد يتبدل إذا ما برزت الحاجة إلى القيام بذلك بسبب التطورات الأخيرة المذكورة.
الصراع العسكري في الشرق الأوسط
تؤمن التكتلات السياسية في حكومة نتنياهو المرتقب تشكيلُها بالمواجهة مع إيران، وتشدد على أنها العدو الأول والوجودي لإسرائيل. لذا، فإنها لن تسمح لطهران بمد نفوذها في الدول المجاورة لها خلال السنوات المقبلة. ففي الوقت الذي لم تكن فيه حكومتا نفتالي بينيت ويائير لابيد مستقرتين إلى الحد الذي يجعل معه ضرب النفوذ الإيراني في الشام (سوريا ولبنان) الهدف الأول لهما، فإن حكومة نتنياهو الائتلافية قد يكون لديها من القوة والاستقرار ما يجعلها تضع ملف “إيران في سوريا” على رأس أولويات أجندتها الإقليمية.
ومن ناحية أخرى، قد تدفع التطورات الدولية غير المباشرة، ولكن ذات الصلة، إلى تصاعد التوترات العسكرية بين إيران وإسرائيل في منطقة الشام خلال عهد حكومة بنيامين نتنياهو. ويتمحور ذلك بشكل رئيس حول مدى تعقد واتساع دائرة الحرب الروسية الأوكرانية في أوروبا؛ فانشغال موسكو في هذه الحرب يعني على الأغلب تنامي النفوذ الإيراني في سوريا، خاصة في الجنوب، ما سيؤدي حتمًا إلى تنامي المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل في سوريا، وبالتالي في لبنان حيث يتمركز “حزب الله” الموالي لطهران.
ومن ناحية أخرى، فإن انخراط إيران في هذه الأزمة الأوروبية قد يُلقي بظلاله على الأوضاع في سوريا؛ إذ إن تزايد المشاركة الإيرانية في الحرب لصالح روسيا سوف يدفع إسرائيل الحليفة لأوكرانيا إلى التدخل حتى ولو بشكل غير مباشر لكبح إيران هناك، ما سيلقي بتبعاته على مواجهاتهما في سوريا.
أما فيما يتعلق بالاتفاق النووي، فإن التوصل إليه في عهد حكومة نتنياهو قد يرفع من حدة التوترات الإيرانية الإسرائيلية في الشام؛ بعد حدوث انفراجة اقتصادية (ممكنة) في إيران وحصول الأخيرة على مليارات الدولارات المجمّدة في الخارج، ما سيمكنها بشكل غير مباشر من تمويل أنشطتها العسكرية في سوريا ولبنان، وهو ما سيرفع معه من حدة المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل هناك.
عوامل مستقبلية حاكمة: ترامب والاحتجاجات في إيران
من المرجح أن تحكم حدةَ الاضطرابات والمواجهة بين إيران وإسرائيل في ظل حكومة نتنياهو عدةُ عوامل من بينها مدى تردي واستمرار الأوضاع المحلية القائمة حاليًا في إيران منذ أشهر، وإمكانية عودة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى سدة الحكم بعد إعلانه نيته الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة لعام 2024.
وعلى هذا النحو، سيجعل استمرارُ الأوضاع الحالية في إيران إلى أشهر مقبلة الموقفَ الإيراني خارجيًا ضعيفًا وغير قادر على تطوير المواجهة مع إسرائيل خلال عام على الأقل من حكومة نتنياهو/ وعلى عدة أصعدة من بينها ما يجري داخل سوريا ولبنان، وسيدفع طهران دفعًا نحو سرعة إنجاز الاتفاق النووي في العاصمة فيينا.
أما عودة الرئيس السابق ترامب إلى الحكم في ظل تولي نتنياهو رئاسة الوزراء في إسرائيل، فإنها قد تقود إلى تطور المواجهة بين إيران وحكومة نتنياهو؛ خاصة إذا قرر دونالد ترامب الخروج مرة أخرى من الاتفاق النووي مثل عام 2018، وهو ما يُعتقد على الأرجح أنه سيقود إلى ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني؛ لأنه سيلوح في الأفق لإسرائيل والولايات المتحدة، في ذلك الوقت، مسارُ تطوير البرنامج والأنشطة النووية الإيرانية خلال السنوات التي تلت خروج ترامب من الاتفاق النووي في العام المُشار إليه، ما قد يدفعهما إلى استباق تكرار ذلك السيناريو.
.
رابط المصدر: