شهدت بريطانيا خلال عام 2022 حدث نادر في تاريخ حكومتها، تمثل في تولي ثلاث شخصيات منصب رئيس الحكومة في بلد تتباهى أحزابه بالاستقرار السياسي والحزبي والبرلماني، وبعد أن قدم بوريس جونسون استقالته، ثم لحقته ليز تراس، وصل ريشي سوناك إلى مقعد رئيس الحكومة، ليصبح خامس مسؤول على التوالي من حزب المحافظين يشكل الوزارة، وأول شخص غير مسيحي، وأول هندوسي، وأول بريطاني من أصول هندية، وأول شخص من أصول غير أوروبية، وأكثر الساسة ثراءً في تاريخ بريطانيا، يتولى مهمة تشكيل الحكومة البريطانية.
وتحظى بريطانيا بأحد أكبر مجالس الوزراء حول العالم إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، إذ تضم كل وزارة مجلس وزراء مصغر برئاسة الوزير نفسه، لديهم تكليفات فرعية أو حتى مجرد وزراء دولة، وللمرة الأولى كان مطلوبًا من رئيس حزب المحافظين أن يشكل حكومة ائتلافية ليس مع أحزاب أخرى، بل ائتلاف بين أجنحة حزب المحافظين الذي تضخمت أجنحته، جراء طول مدة البقاء في الحكم ومقاعد الأغلبية في البرلمان البريطاني، حيث حصد المحافظين تلك الأغلبية في انتخابات عام 2010 وترسخت في انتخابات 2015، ورغم الذهاب لانتخابات مبكرة عامي 2017 و2019 ولكن المحافظين حافظوا على هذه الأغلبية المستمرة منذ 12 عامًا.
وفي إطار جمع أقطاب المحافظون، حافظ سوناك على مجموعة من مراكز القوى داخل الحكومة والحزب تتمثل في جيرمي هانت وزيرًا للخزانة، وبيني موردونت رئيسة لمجلس العموم واستدعى دومنيك راب نائبًا لرئيس الوزراء و وزير للعدل، إضافة إلى مايكل جوف وزيرًا للإسكان. وقلص دور ناظم الزهاوي في مجلس الوزراء إلى منصب وزير دولة، علمًا بأن الزهاوي كان قد خلف سوناك يومًا ما على رأس وزارة الخزانة في حكومة بوريس جونسون.
كما قلص سوناك دور تيريز كوفي حليفة تراس الأولى، وكانت تراس قد عينتها نائبة لرئيس الوزراء ووزيرة للصحة، ولكن سوناك قرر تعيينها وزيرة للبيئة والطعام دون أن تستمر في منصب نائب رئيس الوزراء.
ولم يكن بيد سوناك في الأساس البت في مسألة استمرار وزير الدفاع بن والاس من عدمه، فقد أصبحت تلك الوزارة هي الأكثر شعبية في بريطانيا منذ بدء الحرب الأوكرانية، وقيام الوزارة بتقديم بيانات شبه يومية عن أرض المعركة وتفاصيل الخسائر والتسليح الروسي، مما ذكر البريطانيون بأمجاد الإمبراطورية العسكرية التي لديها اليد الطولى حول العالم، ليصبح بن والاس هو الوزير الوحيد الذي استمر في منصبه خلال الحقب الثلاث، جونسون وتراس وسوناك، وذلك منذ توليه هذا المنصب في 24 يوليو 2019، فلم يعمل مع جونسون أو تراس وزير للدفاع غيره.
وكان مفاجئًا أن سوناك حافظ على جيمس كليفرلي وزير للخارجية من حكومة ليز تراس، وقد عمل سابقًا وزير دولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشمال أمريكا، ما ينبئ بأن سياسة بريطانيا في الفترة المقبلة تشهد تحولات خلف الستار في التعامل مع الشرق الأوسط، مما استلزم تصعيد وزير الشرق الأوسط إلى منصب وزير الخارجية بغض النظر عن الجالس على مقعد رئيس الوزراء.
وتعرض سوناك إلى وابل من الانتقادات على ضوء إعادته وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان إلى المنصب ذاته، علمًا بأنها استقالت عقب خمسة أسابيع فحسب من شغلها هذا المنصب في حكومة ليز تراس بعد أن أرسلت وثيقة رسمية من بريدها الإلكتروني الشخصي في انتهاك تقني لقواعد الحكومة.
وتساؤل المغردين عبر تويتر عن أسباب عودة الوزيرة إلى منصب وزير الداخلية، بعد أن استقالت في 19 أكتوبر 2022 واستبدلها تراس بجرانت شابس، خاصة أن الاستقالة كانت بسبب انتهاك أمني لا يمكن أن يصدر من وزيرة للداخلية والأمن الداخلي! وربط البعض بين أصولها الهندية وأصول سوناك في أن يكون منحازًا بشكل عرقي للبريطانيين من أصول هندية.
حاول سوناك أن يعضض فكرة الاستقرار الوزاري والحزبي بعدم إجراء تعديل كبير، خاصة أن بريطانيا شهدت في الأسبوع الأخير من حكومة جونسون استقالة 50 وزيرًا على ثلاث دفعات، ولكن المبالغة في هذا الإجراء جعل بعض البريطانيين يتساءلون عن فلسفة التغيير من تراس إلى سوناك طالما أن التغير الحقيقي الوحيد بالفعل قد تمثل في رأس الحكومة فحسب وكأن ريشى سوناك يرأس حكومة ليز تراس!
ولم تغب قضية الملف الضريبي لعقيلة سوناك عن انتقادات تشكيل الحكومة، وأن الأخير هو رجل جولدن ساكس بنك، والمقصود هي مؤسسة جولدن ساكس
الأمريكية The Goldman Sachs Group, Inc. والتي تتحكم في اقتصاديات عابرة للحدود والقارات، وأن بريطانيا استبدلت حكومة ليز تراس النيوليبرالية بحكومة ريشي سوناك الرأسمالية، وأن هذه الحكومة تعتبر أول وزارة تزاوج المال بالسلطة “البلوتوقراطية” في تاريخ مجلس الوزراء البريطاني.
وللمفارقة فإن بعض الأصوات الصحفية والمؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ناقشت فكرة عدم نجاح ريشي سوناك، وأن بريطانيا على موعد قريب مع استقالة خامس رئيس حكومة من حزب المحافظين على التوالي ومن ثم الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة قبل موعدها المقرر في يناير 2025.
ويرجع البعض هذا الاحتمال إلى الكيفية التي شكل بها ريشي سوناك وزارته، حيث إنه أحرق كافة الأوراق المتبقية لحزب المحافظين، إذ إن الشعب البريطاني قد مل الوجوه التي سبق وظهرت مع جونسون وتراس في حكومات سابقة حتى لو كانت مراكز قوى داخل حزب المحافظين، وبالتالي فلا يوجد “بديل شعبي” حقيقي لسوناك. وعلى ما يبدو أن حزب المحافظين عقب 12 عامًا في السلطة قد استنفد كل أوراقه الحزبية والبرلمانية والشعبية، وأن خمس وزارات كافية للحزب من أجل بدء العد التنازلي للعودة إلى الظل.
.
رابط المصدر: