مصطفى ملا هذال
ليس فقط من يختلس الأموال العامة يسمى مختلسا، فهنالك من يمارس الاختلاس من نوع آخر، ولم يتم تشخيصه من قبل الحكومة او المواطنين على حد سواء، فالموظف الذي لا يبذل جهده لإنجاز الواجب المناط اليه، يعتبر مختلسا للوقت من الطراز الأول ويجب محاسبته وايقافه عن الاستمرار بهذا النهج الخاطئ.
عندما يقودك الحظ لإنجاز معاملة ما في إحدى دوائر الدولة، يتوجب عليك الاستيقاظ مبكرا، وربما تحتاج للخروج من البيت عند الساعة السادسة او أكثر بقليل لتحصل على مكان في مقدمة الطابور الذي يتلوى وكأنه افعى تحت اشعة الشمس الحارقة في الصيف العراقي المعروف عنه بالحرارة والجفاف.
وانت تقف في الطابور المتزايد تتبادل أطراف الحديث مع من حولك، وقد تدخل في رهان مع الأشخاص القريبين عليك، اذ يتعلق هذا الجدال بالوقت الذي سيأتي فيه الموظف المنقذ من حرارة الشمس التي لا ترحم صغير او كبير امرأة او رجل، فأجمل صفة تتحلى بها الشمس هو سقوطها على رؤوس الواقفين بالتساوي، وهنا فقط تتحقق العدالة المطلقة.
وبعد الحديث المطول بين المنتظرين، تخبرهم نسمات الهواء العليلة والحاملة لرائحة تشي بغلاء زجاجة العطر التي يقتنيها الشخص المجهول لغاية الآن، تخبرهم بوصول الموظف المهندم والذي يحمل حقيبة تزيد من وقاره وتبعث على انه محترم لذاته فقط ولا يحترم القانون ولا المواطنين، ويبدأ عدم الاحترام من تعديه على الوقت المخصص لخدمة الافراد وقضاء حواجهم المتعددة.
وبعد دخول الموظف الى غرفته المكيفة والتي تحتوي على جميع مستلزمات الراحة، يخرج الهاتف النقال من جيبه، يتصفح قليلا بينما يصل زميله الذي سيجلب معه وجبة الإفطار، وتمر هذه الدقائق وكأنها ساعات على المنتظرين لفتح الشباك لتبدأ بعدها رحلة تعقب الأوراق القليلة التي ستطوف جميع أروقة الدائرة وربما يتطلب الامر الى تكرار هذه العملية في اليوم التالي.
وضع الموظف الذي شرحنا حالته، ليس من نسج الخيال وانما هي قصة من آلاف القصص المأساوية التي يعيشها المواطنين في دوائر الدولة المختلفة، فهذه المشكلة تعتبر من المشكلات المستعصية في المؤسسات الحكومية، فلا يمكن ان يأتي الموظف في الوقت المحدد وان جاء في موعد الدوام، يلجأ الى خلق المبررات والانشغالات لفوات ما يقارب ربع الوقت المخصص للعمل.
جميع الدوائر الخدمية في البلاد تشهد اكتظاظا كبيرا بعدد المراجعين، فترى الطوابير تصطف حتى ساعات متأخرة من النهار بانتظار استلام المعاملات، وعليك ان تتوقع بأي لحظة يؤجل عملك الى أيام أخرى، وحصل ذلك في احدى المؤسسات عندما ابلغ الموظف المعني صاحب المعاملة بضرورة المغادرة والاتيان بعد يومين، والمحير في الامر ان المراجع قد يسكن في مدينة تبعد عن الدائرة أكثر من خمس ساعات متواصلة في السيارة.
لو كل موظف من المتواجدين في الوظائف الحكومية تخيل انه بمكان الشخص الذي طُلب منه المراجعة بعد يومين، فماذا سيكون ردة فعله؟، ربما يخرج عن اتزانه ويتحول الى شخصية عدائية وقد ينهال على الموظف بالكلام الجارح، او قد تنتهي الأمور الى الضرب المباشر وهنا يتعقد المشهد وتخرج الأمور عن السيطرة.
ولمثل هذه المشاكل بعض الحلول المناسبة والتي لا تكلف الدولة على مر الزمان منذ السقوط الى الآن المزيد من المبالغ، ولكي تتخلص من هذه المعضلة، يتوجب بناء دوائر يتم تخطيطها وفق التصاميم العمرانية الحديثة، يراعى فيها توفير أماكن انتظار مناسبة في جميع فصول السنة، يشعر فيها المراجع بقيمته واحترامه ولا يتذمر من الأجواء الخارجية بحرها وبردها.
يوازي اتساع المبنى زيادة عدد الموظفين بما يجعل انجاز المعاملات يسير وفق انسيابية كبيرة تجنب المراجع الوقوع في شباك التصادم مع الموظفين الآخرين نتيجة تأخر إكمال المعاملة او فقدانها وسط الكم الهائل من المعاملات غير المنجزة، فالعدد الكافي يوفر على الدولة والمواطن الكثير من الوقت، فقد يتم اكمال جميع المعاملات في وقت قياسي ولا يضطر الموظف البقاء لحد الساعة الثالثة، ويتمكن من الخروج عند الساعة الواحدة.
وكذلك المواطن لا يحتاج الى الاستيقاظ من ساعات الصباح الأولى، فلا حجاة لذلك طالما هو يعلم ان الدائرة يوجد فيها الأجواء المناسبة والمعاملة اللطيفة التي تمكنه من قضاء مصلحته دون عناء او وجع رأس، كل هذه النتائج الإيجابية ممكنة الحصول لو تم التفكير بطريقة أكثر اتساعا وشمولية، والابتعاد عن الأفكار المحدودة التي لا ترى المستقبل القريب.
ليس كما في السابق فصار للاختلاس أكثر من وجه، فمن لا يعطي للوقت حقه او للوظيفة اهتمامها الذي تستحقه، لا يصح ان يستمر في تأدية الخدمة الاجتماعية، وبالتالي قد يكون فسح المجال لغيره ممن يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ويقدم ما بوسعه إرضاء لضميره في الدرجة الأولى وللمراجعين بالدرجة الثانية.
.
رابط المصدر: